في قلب القاهرة تتوهج هالات الحرف العربي بضياء شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن بلسان عربي مبين . وبمجرد دخولك هذا المعرض الذي يستمر في "جاليري لمسات" بالقاهرة حتى السابع والعشرين من شهر رمضان الفضيل تغمرك الأجواء الايمانية الرمضانية وتستقبلك في صدر المعرض لوحة بألوان "الأكريليك" تحمل الآية الكريمة:"واما بنعمة ربك فحدث". والمعرض الجماعي الذي يستضيفه "جاليري لمسات" في مقره بشارع قصر النيل بعنوان :"ملتقى لمسات الدولي للخط العربي وفنون الزخرفة" هو معرض رمضاني بامتياز ويشارك فيه فنانون من مصر واربع دول أخرى هي العراقوالهند واليابان وإيطاليا. وقوميسير المعرض وهو الفنان المصري رضا الأنور يشارك بلوحة "انا انزلناه في ليلة القدر" التي كتبها "بالخط الكوفي الفاطمي" كما تشارك الفنانة المصرية داليا طاهر بلوحة "سبحان الله وبحمده" التي خطتها "بالكوفي الهندسي" بينما يمزج محمد رمضان بين "الكوفي والثلث الأكاديمي" وحرص خالد عبد الغفور في فنون الزخرفة على تقديم الوان من البهجة الرمضانية عبر اشكال متنوعة للفوانيس. وواقع الحال ان هذا المعرض ، يعيد للأذهان ان الاحتفاء بالحرف العربي حاضر دوما في الفعاليات الثقافية الرمضانية بأرض الكنانة كما يتبدى في الأنشطة الثقافية بقبة الغوري التي تحرص على استضافة معارض لفنون الخط العربي وكذلك في كيان ثقافي اخر هو "بيت السناري" التابع لمكتبة الأسكندرية التي تتبنى توجها لدعم فن الخط العربي واستضافة مبدعيه حول العالم في مصر فيما تتجلى جماليات الخط العربي في ابداعات الفنانين من أصحاب الاتجاهات الفنية المختلفة المشاركين بالمعرض الحالي في "جاليري لمسات". ويضم المعرض اكثر من 40 لوحة لفنانين عاشقين للحرف العربي الذي يعد من الفنون الراسخة في التعبير عن الهوية العربية والاسلامية بقدر ما يعبر عن حالة نادرة من حالات الفن البصري المعاصر بعد ان اتجه مبدعوه للتجريد واقامة علاقات تشكيلية متفردة بين سمو الحرف العربي وشموخه وقدرته على المد والبسط والاستدارة والاستطالة والتضاغط والتخلخل. كما تتجلى هذه العلاقات التشكيلية بين كتلة الحرف العربية المصمتة والمشحونة بالحركة احيانا وبين الفراغ المحيط بها ناهيك عن قدرة الحرف العربي على اقامة علاقات متفردة ومدهشة بين الظل والنور والخط واللون في تناغم صوفي حالم وهي علاقات تتبدى في الأعمال المغروضة الآن "بجاليري لمسات" وتتيح التواشج مع اتجاهات متعددة في الفن التشكيلي وحتى في التصوير الفوتوغرافي. وفي المعرض الحالي "بجاليري لمسات" الذي افتتح مساء الثاني عشر من شهر مايو الجاري، يشارك الفنان العراقي ضياء شياع بلوحة تمزج مابين الخط الديواني والرسم حيث تصافح العين الحروف العربية مع جواد عربي اصيل فيما حرص منظموه باعتباره معرضا للخط العربي وفنون الزخرفة على عرض مشغولات يدوية تراثية من مختلف انحاء مصر فضلا عن مستلزمات فن الخط من أوراق واقلام واحبار. وليس من الغريب ان تشارك الفنانة الإيطالية انتونيلا ليوني في "ملتقى لمسات الدولي للخط العربي وفنون الزخرفة" بلوحة للخط العربي مكتوب فيها كلمات من الذكر الحكيم :"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" وان تتمكن من المزج ببراعة فنية لافتة بين "النسخ والثلث" وهي التي تدرس الخط العربي بأرض الكنانة وتستعد للحصول على دبلوم مصري في الخط العربي. فهذه الفنانة الإيطالية التي تدرس بأكاديمية الخط العربي شاركت من قبل في معارض مصرية للخط العربي من بينها معرض استضافه من قبل بيت السناري في حي السيدة زينب القاهري ، وشارك فيه أيضا زميلها الفرنسي فليكس جان إلى جانب خطاطين مصريين برعوا في هذا الفن مثل احمد عبد العزيز وصلاح عبد الخالق وابراهيم بدر واسلام الصعيدي. وهاهي الإيطالية انتونيلا ليوني تشارك الآن في ملتقى الخط العربي "بجاليري لمسات" الجامع مابين الخط العربي والفن التشكيلي والفنون اليدوية الى جانب فنانين مثل "اسلام رمضان وحامد بيكاسو ووائل شريف ومفضل سراج". وهكذا فليس من الغريب أيضا ان يبدع فنانون من خارج العالم العربي لوحات مبهرة للخط العربي كما هو الحال في المعرض الحالي "بجاليري لمسات" حيث تقدم الفنانة الهندية ماريا هبة الله القادمة من الهند لوحة "الشكر لله" كما تتجلى جماليات الخط الديواني في لوحة للفنانة اليابانية كازومي باندو. ورأت الفنانة البولندية ايزابيلا ايخمان التي قدمت ابداعاتها في الخط العربي في معارض مصرية من بينها "معرض ترانيم السلام" الذي أقيم بالمركز المصري للتعاون الثقافي الدولي ان تعدد جنسيات الخطاطين المشاركين في معارض الخط العربي عامل مهم ومطلوب لابراز فكرة دور فن الخط في خدمة السلام والتعايش والتفاهم بين كل شعوب العالم. وفي المعارض والملتقيات الدولية المتعددة للخط العربي "كملتقى القاهرة للخط الدولي" التي تحرص مصر على تنظيمها سنويا يبرهن الخط العربي كفن على مدى جاذبيته بمشاركة العديد من الفنانين الأجانب في تلك المعارض والملتقيات الدولية التي يشارك فيها فنانون من دول مثل فرنسا وإيطاليا والصين وتايلاند ونيجيريا وماليزيا وتركيا واندونيسيا والهند وباكستان وبنجلاديش وبريطانيا والولايات المتحدة اوسنغافورا وكمبوديا كما تكون العلاقة بين الخط العربي وفنون اخرى كالفن التشكيلي موضع اهتمام في الندوات وورش العمل. واذا كان الخط العربي كفن يبرهن على مدى جاذبيته بمشاركة العديد من الفنانين الأجانب معارضه وملتقياته وفي طليعتها ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي ، ففي هذه الفعاليات الثقافية ومن بينها المعرض الحالي في "جاليري لمسات" تتجسد معاني الحوار التفاعلي بين الثقافة العربية والثقافات الآخرى. وفيما يوضح فنانون من" شيوخ الخط "مثل خضير البورسعيدي رئيس الجمعية المصرية للخط العربي والدكتور محمد التابعي الجريتلي وهو استاذ جامعي متخصص في جراحة العظام ان الكتابة العربية بحروفها المتصلة تجعلها قابلة لاكتساب اشكال هندسية مختلفة من خلال "المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب" فان فناني الخط العربي في مصر يقدمون ابداعات مبهرة وبعضها ينتمي "للحالة التجريبية الحروفية". وللفنان المصري احمد عبد الفتاح البشلي الذي ولد في مطلع عام 1952 وحصل على بكالوريوس في الزراعة ودبلوم في الخط العربي فضلا عن دبلوم التخصص في الخط والتذهيب عدة دراسات لافتة مثل كتابه :"جمال الخط العربي..دراسة فنية تحليلية تعليمية" والذي ركز فيه على "خط الثلث" فضلا عن كتاب اخر بعنوان :"جمال الخط الفارسي..دراسة فنية تحليلية تعليمية" فيما شارك في العديد من معارض الخط العربي كما نهض بمهام تعليمية بمدرستي الخطوط في "الجيزة وباب اللوق". وكانت وزيرة الثقافة الدكتورة ايناس عبد الدايم قد نوهت بكوكبة من فناني الخط العربي تؤكد بابداعاتها المعاصرة قوة الفنون التراثية وقدرتها على الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في تطوير قدراتها الفنية. وفي هذا المعرض الرمضاني للخط العربي "بجاليري لمسات" يتجلى التطلع المشترك لاستشراف المستقبل بزخمه العلمي والتقني بقدر ما يستمتع الزائر بالهامات الحرف العربي للفنانين بلوحات تمزج مابين الأصالة والمعاصرة وقادرة على استيعاب الحداثة كما هو الحال في لوحة محمد رمضان التي استخدم فيها "تقنية الأبعاد الثلاثية". ولعل هذا المعرض القاهري الرمضاني للخط العربي يوميء للعلاقة الفريدة بين القاهرة المعزية والحرف العربي فيما تضىء أسماء مصرية رائدة في هذا الفن كشيخ الخطاطين الفنان الراحل محمد عبد القادر الذي قضى عام 1997 . اما "عميد الخط العربي" وهو الخطاط والشاعر والروائي المصري الراحل سيد إبراهيم الذي قضى عام 1994 فهو صاحب العديد من المؤلفات في فنون الخط العربي فضلا عن الرواية والشعر وتتلمذ على يديه الكثير من ابرز الخطاطين المصريين والعرب المعاصرين. فالمدرسة المصرية في الخط العربي بأسماء شيوخها الكبار والأجيال اللاحقة بأسماء مثل الفنان احمد عبد الفتاح البشلي تبرز جماليات الخط العربي بين التراث والمعاصرة فيما لمدرستي الخطوط في "الجيزة وباب اللوق" تقديم المزيد من الموهوبين في الأجيال الصاعدة والقادرة على الاستفادة من التقنيات الحديثة دون تفريط في الأصالة. وكان الدكتور محمد العربي رئيس قسم التربية الفنية بجامعة الأزهر وسكرتير عام نقابة الخطاطين المصريين قد شهد افتتاح الملتقى الحالي للخط "بجاليري لمسات" فيما أقيمت ورشة مجانية لتعليم فنون الخط العربي على هامش هذا الملتقى الرمضاني للخط العربي لتبرز حقيقة التواشج الإبداعي بين فن الخط العربي وغيره من الفنون. ومن هنا ليس من الغريب "في ظل هذا التواشج الإبداعي" أن تشهد مثلا مهرجانات الموسيقى العربية في مصر معارض للخط العربي فيما يمضي الجيل الحالي من فناني الخط العربي في مصر قدما مطورين بتعبيرات ابتكارية عطاء الآباء في هذا الفن ومستندين لمخزون ثقافي حاشد بالذاكرة الحروفية ليقدموا للعالم الخط العربي كفن يجمع بين الأصالة والمعاصرة دون ادنى تناقض او افتعال. واذا كانت الهندية ماريا تمزج في لوحتها "الشكر لله" بالمعرض الحالي في "جاليري لمسات" بين "الرسم على الماء" الذي يسمى بفن "الابرو" وبين فن الخط العربي فان ن الفنان الأردني احمد القرعان الذي يعشق الرسم وفن الخط العربي عرف بتميزه في " الرسم بالقهوة"ولم ينس غرامه الأول بالخط العربي فبات يغمس اقلاما خشبية في القهوة ليبدع بها لوحات في الخط العربي وهو الذي درس هذا الفن على يد العراقي الراحل خليل الزهاوي. وفي تعبير ثقافي فني عن التمسك بالهوية والأصالة ، اتجه فنانون تشكيليون عرب "لاستخدام الحروفية التي تعتمد على تشكيل الخط العربي ومرونته" وهو ما يتجلى في اعمال للفنان التونسي نجا المهداوي والفنان السعودي محمد العجلان فضلا عن الفنان المغربي فريد بلكاهية الذي يستخدم الخامات الطبيعية في البيئة المغربية للتعبير الفني. ولا يمكن أيضا تناسي أسماء فنانين عرب اسهموا بزخم ابداعي في اثراء فنون الخط العربي مثل السوري منير الشعراني والكويتي فريد عبد الرحيم العلي والتونسي عامر بن الهادي بن جدو والمغربي حميد الخربوشي. واذا كانت الثقافة العربية "من الثقافات الأم في تاريخ الحضارة الإنسانية" فلا ريب ان فنون الخط العربي تشكل أحد اهم ملامح الفضاء الجمالي للثقافة العربية على مستوى الشكل والمضمون كما انها علامة دالة في "قراءة الذات الحضارية العربية". والحرف العربي وشيجة من اقوى الوشائج بين بلدان الأمة العربية الواحدة وهو ايضا جسر من الجسور المهمة التي تربط الأمة العربية بشعوب شقيقة وصديقة كما تظهر دراسة للباحث المغربي سعيد عبيد تناول فيها حضور الحرف العربي في لغة سكان جزيرة مدغشقر التي تقع قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لافريقيا. ويوضح سعيد عبيد ان الحرف العربي ظاهر في لغة "سواربيي" بمدغشقر او "الكتابة الجليلة" . مشيرا الى ان الأمر يتصل بآيات القرآن الكريم والتفاعل الحضاري التاريخي بين العرب وأبناء تلك الجزيرة الذين يحفظون ارثهم العربي الإسلامي وفي القلب منه "الحرف العربي القرآني". انه الحرف الذي يتوهج الآن بضياء رمضان في قاهرة المعز..انها هالات الحرف العربي القرآني تتوهج خيوطا من ضياء في ارض الكنانة!.