إن صدور القرار الإسرائيلى القاضى ببناء خمسمائة وحدة سكنية فى المستوطنات القائمة عشية زيارة ممثل الرئيس الأمريكى أوباما السناتور جورج ميتشل إلى إسرائيل، يختزل نهج السياسة، الإسرائيلية فى تعاملها مع الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ احتلال الأراضى الفلسطينية عام 1967. بمعنى فرض الأمر الواقع، سواء باغتصاب الأرض وتشريد أبنائها فى أصقاع الدنيا أو بفرض سياسات التمييز العنصرى على الفلسطينيين العرب الذين لم يغادروا موطنهم، بل تمسكوا بأرضهم وهويتهم ويحاولون باستمرار وبشتى الوسائل المتاحة تأييد حقوقهم وترسيخ قناعتهم بعروبة انتمائهم والصبر على الطغيان بانتظار أن تزول الشدائد ولسان حالهم يردد: «لابد لليل أن ينجلى..». إن الحالة النفسية التى يعيشها الفلسطينيون العرب داخل إسرائيل تتجلى برهانهم الدائم على المستقبل، بالرغم مما لحق بهم من التهميش والقمع والممارسات غير الإنسانية أحيانا، التى أقصتهم بمعظمها عن حقوقهم الطبيعية وجعلت منهم مجموعات تابعة معدومة السيادة والقرار. ذلك أن فى داخل كل منهم، يعيش أمل لا يمل أو يتعب بل يتطلع إلى مستقبل واعد تتحقق فيه الحرية فى إطار من الاستقلال والسيادة، فإن لم يكن لهم بالذات فلأجيالهم القادمة، وأن المرحلة الحالية ليست إلا حقبة عابرة من التاريخ لا بد زائلة.. ومثل نظام الأبارتيد فى جنوب أفريقيا، فإن النظام الصهيونى لا يستطيع الاستمرار، لا لمجرد التصدى المتمثل بتأكيد العرب الفلسطينيين على حقوقهم الوطنية والإنسانية، لكن أيضا على حتمية يقظة شاملة لليهود بنبذ سياسات التقوقع والخوف أو تخويف الآخر بما لا ولن يتلاءم مع مصير ومستقبل أجيالهم الصاعدة. *** أشير هنا إلى حالة الصمود الفلسطينى وراء الخط الأخضر الفاصل بين إسرائيل وفلسطينالمحتلة، على أنها فى جوهرها حالة استنهاض للشعب الفلسطينى الرازح تحت الاحتلال ولأمة عربية تستحق وحدتها ولكن غيبتها ما وصف خطأ بالواقعية، وهى فى حقيقتها وقيعة كبلت حركة جماهيرنا، وحالت دون تنسيق ملزم بين دولنا. خدّرت العديد من طلائعنا الفكرية وفى كثير من الأحيان أقصت شرائح من مكونات مجتمعاتنا عن فرص المشاركة فى صنع القرارات المصيرية. أجل، هذا الصمود الفلسطينى داخل إسرائيل، أفرز تيارات متغالية بعنصريتها أمثال «إسرائيل بيتنا» بقيادة ليبرمان والطاقم الحاكم الذى يتعامل مع المواطنين العرب وكأن بقاءهم فى أرضهم وتمسكهم بحقوقهم واستعدادهم الدائم لمواجهة القوانين التعسفية وممارسات التمييز ضدهم، أو قل هذا الصمود بمختلف أشكاله، هو بمثابة التحدى الذى يذكر بصفاتهم العنصرية وتحريفهم للقيم والأخلاق اليهودية، كون الصهيونية هى ملاذهم ودليل تفوقهم، مما يفسر المغالاة فى نفورهم من كل اليهود الملتزمين بحقوق الإنسان أمثال ريشارد فولك الأمريكى والقاضى كلادستون من جنوب أفريقيا، اللذين كانا موفدين من الأممالمتحدة للتحقيق فى أحداث غزة وقد منع الاثنان من دخول إسرائيل. تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك مئات الآلاف من أمثالهما فى العالم، وهم بمجموعهم يشكلون دائرة الوجدان اليهودى الذى يختلف تماما عن حركة الغطرسة الصهيونية. ولا شك أن الشريحة العربية داخل إسرائيل قد تعرفت على أمثال فولك وكلادستون وكثيرين غيرهم، وأدركت أهمية الفرق بين اليهودية والصهيونية. من هذا المنظور، يجب تحديد الدور لهذه الشريحة من شعبنا فى فلسطين المغتصبة، بإجراء دراسة وافية لتجربتهم الفذة، حيث يجب أن تستقيم وحدة الشعب الوطنية وتستعيد المقاومة ثقافتها ووحدة صفوفها وبالتالى نجاعتها وتاريخية دورها.. *** قد يتساءل القارئ، وما علاقة هذا الشرح لواقع المواطنين العرب فى إسرائيل بالزيارة التى يقوم بها السناتور ميتشل إلى إسرائيل والأراضى العربية المحتلة؟ لا شك أن السؤال منطقى جدا، إذ يبدو على سطح الأحداث وكأن لا علاقة له إطلاقا بموضوع التمييز العنصرى ضد عرب إسرائيل. ذلك أن مهمة ميتشل محددة ومرتبطة بالطلب إلى إسرائيل تجميد حركة الاستيطان لبعض الوقت، كى يتسنى للأقطار العربية ممارسة بعض الإجراءات التطبيعية مع إسرائيل مما يوفر الأجواء المناسبة لاستئناف «المفاوضات» بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية. لكن العلاقة بين شرائح الشعب الفلسطينى هى علاقة وطنية أيضا، وبالتالى أى إخراج من عضوية الانتماء يندرج فى ترسيخ شرعية انشطار الشعب وبالتالى اندثار مقومات القضية الفلسطينية التى حان الوقت إلى إعادة فتحها قبل أن يقضى عليها التبعثر الحاصل. فى هذا المجال علينا الإقرار بأن صمود عرب إسرائيل، فى أرض وطنهم، يشكل ردا صارخا على أى اعتراف ب«دولة يهودية» قد تأتيه السلطة الفلسطينية تنفيذا لشروط استئناف المفاوضات عن وعى أو غير وعى.. وهذا ما يريده ويخطط له اليمين الإسرائيلى المتمثل بنتنياهو وليبرمان. كذلك فإن صمود عرب إسرائيل فى أرضهم يعمق الالتزام بمواجهة قانون حق «عودة» كل يهودى إلى إسرائيل وبالمقابل «عودة اللاجئين» إلى ديارهم. فى هذا الإطار لا مفر أن العطب الذى أفرزته اتفاقية أوسلو وما استتبعها من تحجيم القضية الفلسطينية بهدف قيام دولة ذات سيادة على الأراضى المحتلة منذ يونيو 1967، دفع إسرائيل إلى الاستفراد وإملاء تفسيراتها لما ورد فى مختلف مراحل ما سمى بمسيرة السلام وبنود التسوية والتى، كما هو واضح، آلت إلى مزيد من تركيز الاهتمام الدولى، وإلى حد ما النظام العربى، وكأن دولة فلسطينية محصورة فى الأراضى المحتلة من شأنها تلبية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى. صحيح أن الهزيمة العسكرية التى منى بها العرب عام 67 وفرت للنظام العربى استسهال الاكتفاء تحت عنوان مقتضيات «الواقعية»، واصطفاف المجتمع الدولى وخاصة الولاياتالمتحدة بأن صيغة الدولتين هى أقصى ما يجب أن يتوقعه الفلسطينيون من حقوق. وجاءت المبادرة العربية فى قمة بيروت عام 2002 تبلور هذه الواقعية أى الانسحاب الكامل مقابل التطبيع الكامل. إلا أن مجرد إعلان هذه الصيغة التى استهدفت إنهاء النزاع العربى الإسرائيلى، تحولت بنتيجة أوسلو وخريطة الطريق وإنشاء الرباعية واتفاقيات أنابوليس، إلى مجرد بند من بنود أخرى للحل المنشود. وهكذا غابت خارطة الدولة الفلسطينية عن «خارطة الطريق» أو بالأحرى غُيبت بفعل إمعان إسرائيل فى بناء المستوطنات وتكثيفها لاعتبار الأراضى المحتلة جزءا من إسرائيل غير المكتملة. هذا وبالرغم من أن الاستيطان أدين من الأممالمتحدة واتفاقيات جنيف ومحكمة العدل الدولية، إلا أن إسرائيل تفسر ما تقوم به من إجراءات على أنه حق لها تصرف المالك بملكه، وقد عبرت عنه مختلف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بسياسة ملتبسة أحيانا وبوضوح وصراحة فى أغلب الأحيان. لذا يتضح لنا أن حصر القضية الفلسطينية فى إطارها الضيق، وسقوط ما تبقى من منظمة التحرير أو ما بقى منها فى هذا الحصار الخانق لوحدة الشعب الفلسطينى عامة، أدى بدوره إلى تحول القضية إلى مسلسل من المشاكل التى وإن كانت مستعصية على الحل مرحليا، إلا أن استرجاع الشعب لقدرته أمر لا بد منه، فيعمل على إعادة القضية إلى مركزيتها فى الوجدان العربى، وعلى استعادة وحدته الوطنية حتى لا يبقى ونحن معه تائها وشاهد زور على روتنة الاستباحة لحقوقه من خلال سياسات التمييز العنصرى داخل إسرائيل. من هذا المنظور، يصبح موضوع التجميد المؤقت للمستوطنات فى الأراضى المحتلة، تعبيرا عن النقص الفادح فى الوعى القومى وبالتالى للمسئولية العربية عن تحرير فلسطين التى إذا استمرت بحالة التآكل، فهذا يعنى أن التفكيك الحاصل فى النظام القائم والاتقاء بواقعية مزورة وواقع فاقد للمناعة، يكاد بدوره أن يستولد ما نختبره يوميا فى العراق والصومال واليمن من تفتيت وتبعثر وجاهلية التقوقع. إن الصهيونية التى تعمل على تجميع يهود العالم، تعمل أيضا على تمزيق وشائح وحدة الأمة العربية. لذلك، نرى فى صمود عرب فلسطين التاريخى جذوة ساطعة ستلهم الأجيال القادمة لما فشلنا نحن فى إنجازه. قد يبدو للبعض ما نتمناه سرابا أو لبعض الواقعيين المكتفين مستحيلا.. الأبارتيد كان مثل الصهيونية فى شراسته وممارسته للتمييز العنصرى.. ولزمن طال كان الأمريكيون الأفارقة مضطهدين ومقموعين، وإذا بهم اليوم يجعلون ما كان مستحيلا ممكنا، ومن ثم حاصلا.. قد لا نرى مثل هذا الاختراق قريبا ولكن.. كم من المستحيلات تحولت إلى واقع، وجل ما يلزم لبلوغ المنال الإرادة والتصميم.. لذلك لن نكتفى.. وبالتالى لن نستقيل..!