لم تكن حرب أكتوبر 1973 مجرد مواجهة عسكرية بين الجيش المصرى والعدو الإسرائيلى، بل كانت حربًا شاملة خاضتها الدولة بكل أركانها ومؤسساتها، سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية. وفى قلب هذا المشهد التاريخى، لعبت مجلة روزاليوسف، أحد أعرق المنابر الصحفية فى مصر، دورًا بارزًا فى شحذ وعى الجماهير، وترسيخ الثقة فى قدرة المصريين على استعادة الأرض، وتثبيت الجبهة الداخلية لتكون بحق السند الحقيقى خلف المقاتل على جبهة القتال. الإعلام كسلاح موازٍ للبندقية منذ نكسة يونيو 1967، أدركت القيادة السياسية والإعلامية فى مصر أن معركة استرداد الأرض لن تُحسم فقط على ميادين القتال، وإنما تحتاج إلى جبهة داخلية صلبة، وشعب يمتلك وعيًا بحقيقة التحديات، وصحافة قادرة على توصيل رسائل دقيقة وملهمة. وهنا برزت روزاليوسف بدورها التاريخى، إذ لم تكتفِ بتغطية الأخبار، وإنما تبنت خطابًا يزاوج بين التحليل السياسى العميق وبين بث الأمل والثقة فى المستقبل. كانت المجلة على وعى بأن الشعب المصرى يترقب بشغف لحظة الثأر والعبور، لكن فى الوقت ذاته كان بحاجة إلى إعلام يوازن بين الصراحة والالتزام بالسرية، وبين كشف الحقائق ورفع الروح المعنوية. هذا التوازن الدقيق نجحت فيه روزاليوسف بامتياز، فكانت بمثابة جسر بين القيادة والشعب. محمود المراغي.. قراءة الموازنة تكشف موعد المعركة من أبرز الأمثلة على هذا الدور، المقال الشهير للكاتب الصحفى محمود المراغى، الذى نشر قبل اندلاع الحرب، وفيه قدّم تحليلًا ذكيًا للموازنة العامة للدولة. لم يكن التحليل مجرد قراءة اقتصادية جافة، بل كان بمثابة إشارة ضمنية إلى اقتراب موعد المواجهة فقد لاحظ المراغى أن بنود الموازنة تحمل ملامح استثنائية: زيادات فى مخصصات الدفاع، وقرارات مالية تتعلق بترشيد الإنفاق فى قطاعات أخرى، الأمر الذى أوحى للقارئ بأن الدولة تُعد نفسها لحدث جلل. وببراعة الصحفى الذى يفكك النصوص الاقتصادية ويحوّلها إلى مؤشرات سياسية، مهّد المراغى لفكرة أن ساعة المواجهة قد اقتربت دون أن يفصح بشكل مباشر، ملتزمًا بحدود المسئولية الوطنية فى زمن الاستعداد للحرب. هذا المقال لم يمر مرور الكرام، بل صار حديث القراء والنخبة، إذ فهمه الناس باعتباره بشارة مبطنة بأن النصر قادم، وأن القيادة تخطط على الأرض لإعادة الاعتبار للجيش والشعب بعد نكسة 1967. أحمد حمروش.. «حرب الستة أعوام» أما الكاتب الكبير أحمد حمروش، فقد قدّم واحدًا من أهم المقالات التنبؤية فى الصحافة المصرية بعنوان: «لتكن حرب الستة أعوام». فى هذا المقال، كتب حمروش بثقة أن معركة التحرير لن تتأخر أكثر من ست سنوات، واضعًا تصورًا واضحًا لمرحلة الاستعداد الطويلة والمعقدة، لكنه أكد أن مصر ستخوض حتمًا معركتها لاستعادة الأرض والكرامة. مقال حمروش لم يكن مجرد تحليل عسكرى أو سياسى، بل كان صيحة إيمان بقدرة المصريين على تجاوز آثار الهزيمة والانكسار، وتحويلها إلى طاقة صمود واستعداد. كان المقال بمثابة رسالة للداخل والخارج معًا: الداخل لرفع الروح المعنوية وإشعال الأمل، والخارج لتوصيل أن مصر لا تنسى حقوقها، وأن حرب التحرير مجرد مسألة وقت. وبالفعل، جاءت أحداث أكتوبر لتؤكد أن تلك الرؤية لم تكن مجرد حلم أو مبالغة، وإنما قراءة واقعية للتاريخ. لم يقتصر دور روزاليوسف على نشر مقالات المراغى وحمروش فقط، بل تحولت صفحاتها فى تلك الفترة إلى مدرسة للوعى الجمعي. فقدمت تحقيقات عن حياة الجنود، ونشرت موضوعات عن أهمية التماسك الشعبى، وسلّطت الضوء على الجهود الاقتصادية والسياسية التى تبذلها الدولة فى سبيل الإعداد للمعركة. كانت المجلة تُدرك أن الحرب ليست مهمة الجيش وحده، بل معركة وطنية شاملة. لذلك خاطبت العامل فى مصنعه، والفلاح فى أرضه، والطالب فى جامعته، والأم فى بيتها، مؤكدة أن كل جهد فردى هو رصاصة فى صدر العدو، وكل صبر وتحمل هو جزء من معركة الصمود. الصحافة كجبهة موازية يُخطئ من يظن أن السلاح وحده هو من حسم معركة أكتوبر. فقد كان الإعلام والصحافة جبهة موازية للجبهة العسكرية. ولأن المعركة آنذاك كانت معركة إرادات، فقد أسهمت روزاليوسف فى تثبيت إرادة النصر فى الوجدان الشعبي. لقد واجهت المجلة حرب الشائعات التى حاولت النيل من الروح المعنوية، ووقفت بالمرصاد للدعاية الإسرائيلية التى روجت أن مصر لن تجرؤ على القتال. وبخطابها الوطنى الموزون، جمعت بين التهدئة حين يقتضى الأمر، والتعبئة حين تحين اللحظة، حتى صار الشعب بكامله مهيأً لعبور السادس من أكتوبر. اليوم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على العبور العظيم، يبقى دور روزاليوسف شاهدًا على أن الكلمة قد تكون أحيانًا أقوى من الرصاصة، وأن الصحافة الوطنية قادرة على صنع وعى يتحدى الهزيمة ويصنع النصر. فمقالات محمود المراغى التى قرأت الموازنة بعيون ثاقبة، وأفكار أحمد حمروش التى توقعت موعد الحرب بوعى تاريخى وغيرهم، الكثير من المقالات والموضوعات لم تكن مجرد نصوص صحفية بل أسلحة فكرية ومعنوية شاركت فى صناعة أكتوبر، وأسهمت فى صيانة الجبهة الداخلية التى كانت هى السند الأول للمقاتل فى الميدان. لم تكن روزاليوسف مجرد مجلة سياسية أو منبرًا صحفيًا تقليديًا، بل كانت ضميرًا وطنيًا يكتب للناس ويعبر عنهم، ويسبق الأحداث بتحليل واستشراف ويمنحهم القدرة على الصمود والثقة. تغطية سير المعركة بكل تفاصيلها وثقتها مجلة روزاليوسف على صفحاتها وحين دقت ساعة الصفر فى ظهر السادس من أكتوبر 1973، لم تتخلف روزاليوسف عن أداء رسالتها الوطنية. فقد خاضت المجلة ملحمة صحفية فريدة من نوعها عبر صفحاتها، حيث تابعت بشكل يومى ما أطلقت عليه دفتر أعمال القتال فى سيناء. كان هذا الدفتر بمثابة سجل حربى مفتوح على أعين الجماهير، يرصد ساعة بساعة بطولات الجيش المصرى، ويُترجم لغة العمليات العسكرية المعقدة إلى لغة شعبية بسيطة تُشعل الحماس وتبث الفخر. فالقارئ لم يكن يطالع مجرد خبر، بل يعيش تفاصيل المعركة كما لو كان يقاتل على الضفة الشرقية للقناة. لقد كان دفتر أعمال القتال مثالًا على أن الصحافة فى الحرب لا تنقل فقط وقائع، بل تصنع وجدانًا عامًا وتؤرخ للحظة وطنية خالدة، وهو ما جعل روزاليوسف واحدة من أبرز المنابر التى وثّقت ملحمة العبور لحظة بلحظة. وفى حرب أكتوبر المجيدة سجلت روزاليوسف صفحات مضيئة فى تاريخ الصحافة المصرية، لتؤكد أن معركة التحرير كانت ملحمة شارك فيها الجميع الجيش بالسلاح والسياسى بالدبلوماسية والصحفى بالكلمة. وهكذا، تظل روزاليوسف مثالًا حيًا على أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رسالة وطنية تسهم فى صناعة التاريخ وتثبيت هوية الأمة. 2 3