فى خطوة دبلوماسية محملة بالرموز والتحديات، أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، عن «خطة تاريخية» لإنهاء الحرب فى قطاع غزة، بعد نحو عامين من الدمار الذى أودى بحياة عشرات الآلاف وأثار غضبًا دوليًا غير مسبوق. جاء الإعلان فى البيت الأبيض، وسط ضغوط متزايدة من موجة الاعترافات الغربية بالدولة الفلسطينية داخل الأممالمتحدة، لكنه يثير تساؤلات حول مصيره: هل ستصمد أمام تعقيدات الميدان، أم ستكون مجرد «صفقة انتخابية» فى ظل انتخابات الكونجرس الأمريكية المقبلة؟ الخطة، التى تتضمن وقفًا فوريًا لإطلاق النار وإعادة إعمار، تركز على إنهاء «النزيف» كما وصفها محللون أمريكيون، لكنها تتجاهل جذور الصراع مثل السيادة الفلسطينية والحصار، مما يجعلها هدفًا لانتقادات الفصائل الفلسطينية والمراكز البحثية العربية والغربية على حد سواء. وفى الخلفية، يبرز الدور المصرى ك«نواة الاتفاق»، مستفيدًا من نفوذه التاريخى لدفع الأطراف نحو الهدنة، وسط رهانات إقليمية على مستقبل الشرق الأوسط. نشوة ترامب بدا ترامب منتشيًا وهو يتحدث عن «الصفقة الممكنة»، التى ستنهى القتال، وتفتح الباب أمام ترتيبات جديدة، فيما اكتفى نتنياهو بعبارات مقتضبة، وكأن الرجلين يدركان أن الطريق ما زال شائكًا بين الإعلان والتنفيذ. غير أن الخطة التى طرحت، وإن بدت للوهلة الأولى استجابة للضغوط الدولية المتزايدة عقب موجة الاعترافات الغربية بالدولة الفلسطينية داخل الأممالمتحدة، فإنها تطرح تساؤلات كبرى: هل يمكن أن تصمد المبادرة أمام تعقيدات الواقع الميدانى والسياسي؟ وهل ستتعامل الفصائل الفلسطينية معها باعتبارها فرصة لإنقاذ القطاع، أم ستعتبرها نسخة معدلة من «صفقة القرن»؟ وهل تملك إدارة ترامب الإرادة والقدرة على فرضها، أم أن الإعلان ليس إلا محاولة لتسجيل إنجاز سياسى فى لحظة فارقة؟ بنود الخطة حسب الإعلان الأمريكى بعد اللقاء، تتضمن الخطة ما يلي: 1. وقف القتال فورًا كشرط أساس، مع توقف كل العمليات العسكرية البرية والجوية حتى الإفراج عن كافة الأسرى والمحتجزين. 2. تبادل شامل بين إسرائيل وحماس، يشمل كل المحتجزيين الإسرائيليين. 3. انسحاب إسرائيلى مرحلى من أجزاء من قطاع غزة، مع شروط أمنية، ومراقبة دولية أو إقليمية للحدود. 4. نزع سلاح حركة حماس نهائيًا، أو على الأقل تفكيك منظومتها العسكرية والسيطرة على المواقع الاستراتيجية. 5. تشكيل إدارة مؤقتة يُشار إليها ب «مجلس سلام» أو «Board of Peace» تشرف عليها جهات دولية وغربية، برئاسة دونالد ترامب نفسه ومستشارين دوليين مثل تونى بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. 6. إعادة إعمار واسعة، بمشاركة مانحين خليجيين ودوليين، وإشراف أممى، عبر قنوات إنسانية، وبناء البُنى التحتية الخدمية، والمرافق العامة، وكسر الحصار إن أمكن. وفقًا لمصادر مصرية رسمية ومراكز بحث عربية، فإن إعادة الإعمار يجب أن تتم عبر قنوات دولية شفافة، وأن يكون هناك حماية أممية فى إدارة الحماية الإنسانية والحدود والمساعدات بلا قيود شرطية غير منطقية، وكذلك لا بد أن يظل الشعب الفلسطينى على أرضه دون تهجيرقسرى، وهو ما ورد صراحة فى خطة مصر المعتمدة من القمة العربية فى مارس 2025. إدارة أزمة بدت مراكز الأبحاث الأمريكية متحفظة على المبالغة فى توصيف المبادرة. فقد رأى معهد بروكينغز أن ما أعلنه ترامب لا يرتقى إلى «خطة سلام» بقدر ما هو «إطار لوقف النزيف»، إذ غابت عنه تفاصيل جوهرية مثل مستقبل القطاع، وآلية الإعمار، وضمانات رفع الحصار. أما مجلس العلاقات الخارجية (CFR) الأمريكى، فأشار فى ورقة نشرها بعد ساعات من الإعلان إلى أن واشنطن «تسعى إلى إعادة الإمساك بخيوط الملف الفلسطيني–الإسرائيلى بعد أن كادت تفلت من يدها». وأكد أن البيت الأبيض لا يقدم تنازلًا استراتيجيًا بقدر ما يدير أزمة تهدد بتوسيع رقعة الصراع إقليميًا. من ناحية أخرى، رحب عدد من مراكز الفكر الغربية بطرح خطة توقف النزيف الفورى، لكنها حذرت من فجوة بين البُنى السياسية والفاعلية على الأرض. ديفيد ماكوفسكى، الخبير بمعهد واشنطنNHPR، رأى أن الخطة قد تمثل «فرصة دبلوماسية جدية» إذا توافقت الضمانات الإقليمية على آليات التنفيذ، لكنّها فى الوقت نفسه تفتقد إلى حل واضح لمسألة السيادة الفلسطينية والانتقال السياسى فى غزة. قبول تكتيكى على الجانب الإسرائيلى، اعتبر بعض المحللين أن نتنياهو وجد فى خطة ترامب فرصة لترتيب البيت الداخلى وتخفيف الضغط الشعبى والدولى، لكن دون أن يقدم التزامات حقيقية. ووصفت صحيفة «هآرتس» الخطة بأنها «استراحة تكتيكية أكثر من كونها مسارًا سياسيًا»، فيما نقلت القناة ال 12 العبرية عن مسئولين فى الحكومة الإسرائيلية قولهم إن، «تل أبيب لن تسمح بأن تتحول الهدنة إلى اعتراف فعلى بحماس أو إلى فتح الباب أمام كيان فلسطينى موسع». نافذة أمل أما فلسطينيًا، فقد جاء الموقف متباينًا. فبينما رحبت السلطة الفلسطينية بالخطة باعتبارها «خطوة أولى لوقف شلال الدم»، بينما اعتبرت حركة حماس أن ما طُرح «لا يختلف كثيرًا عن محاولات سابقة لشرعنة الاحتلال»، مشددة على أن أى هدنة يجب أن تكون مرتبطة برفع كامل للحصار وضمان حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره. ورأى محللون فلسطينيون أن الخطة قد تتحول إلى «فخ سياسي» إن لم تتضمن التزامات واضحة بشأن إقامة الدولة الفلسطينية، خاصة بعد موجة الاعترافات الدولية الأخيرة التى عززت شرعية القضية. تأثير دبلوماسي ووسط هذا المشهد الملتبس، برز الدور المصرى كونه العنصر الأكثر تأثيرًا فى دفع الأطراف إلى هذه النقطة. فالقاهرة كانت، «نواة الاتفاق» الذى أقنع واشنطن وتل أبيب بضرورة طرح مبادرة لوقف الحرب، بعد أن تحولت موجة الاعترافات الأوروبية بفلسطين إلى طوفان سياسى أربك الإدارة الأمريكية. وقد وظفت مصر علاقاتها المفتوحة مع جميع الأطراف، واشنطن وتل أبيب والفصائل الفلسطينية لتصنع أرضية مشتركة، مستخدمة نفوذها التاريخى فى الملف الفلسطينى للضغط باتجاه وقف إطلاق النار. وأكد مركز «كارنيغى للشرق الأوسط»، أن «الدبلوماسية المصرية نجحت فى جعل الحرب فى غزة مكلفة سياسيًا للجميع، ما دفع البيت الأبيض إلى البحث عن مخرج، لتجبر إسرائيل على الاستجابة، ولو مرحليًا». الرغبة والواقع مع ذلك، لا تبدو الطرق ممهدة، فالتحدى الأكبر يكمن فى آلية التنفيذ: من سيراقب الالتزام بالهدنة؟ كيف سيتم التعامل مع ملف الأسرى والمحتجزيين؟ هل ستقبل إسرائيل بإدخال مساعدات وإعادة إعمار دون شروط أمنية معقدة؟ وما الموقف الأمريكى إن انفجرت جولة جديدة من القتال؟ كل هذه الأسئلة تبقى معلقة، فيما يشكك كثيرون فى قدرة ترامب على فرض رؤيته فى ظل انتخابات الكونجرس المقبلة وانشغال إدارته بأزمات داخلية متصاعدة. رابحون وخاسرون سياسيًا، إذا نجحت الخطة ولو جزئيًا فستمثل مكسبًا سياسيًا واضحًا لترامب، الذى يقدم إنجازًا دبلوماسيًا بعد فترة من إدارة مثيرة للجدل، وكذلك لنتنياهو الذى سيحمل إلى الداخل خطاب «إنجاز» بإرجاع المحتجزين ووقف القتال. وعلى الجانب الآخر، فإن الخاسر المحتمل ستكون الفصائل الفلسطينية بسبب عدم التمسك بوحدة الصف لاستغلال موجة الاعترافات الدولية من جهة أو الدعم المقدم لإعادة إعمار قطاع غزة من جهة أخرى. أما خروج حماس من المشهد الراهن، ربما أصبح أمرًا مفروغًا منه، لكن على الجانب الآخر يجب أن تدعم الخطة الأمريكية ضمانات ملموسة تمنح الفلسطينيين شرعية سياسية أو آفاقًا لإعادة بناء مؤسساتهم، خاصة أن «مجلس السلام» مؤقت ولا يمثل فرصة لتدويل القضية. أخيرًا فإن خطة ترامب لوقف حرب غزة تبدو أشبه ببالون اختبار سياسى أكثر منها اتفاقًا راسخًا، فهى تستجيب لضغط اللحظة لكنها لا تعالج جذور الصراع. لكن فى الوقت ذاته تقف القاهرة كحجر زاوية فى مسار الدبلوماسية، وتراقب الفصائل الفلسطينية بحذر، فيما تراهن إسرائيل على كسب الوقت، ليبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح هذه المبادرة فى فتح مسار سياسى يضع غزة على طريق الحل، أم أنها ستذوب فى صخب الميدان وتتحول إلى مجرد استراحة محارب قبل جولة أعنف أخرى. 1