بعد المشاهد المروعة للفيضانات التى اجتاحت السودان مؤخرًا، تزايدت التحذيرات من خبراء المياه حول تصريفات إثيوبيا المتعلقة بسد النهضة، مؤكدين أن السد الذى كان من المفترض أن يكون أداة تنظيمية، بات يشكل تهديدًا مباشرًا للسودان، مع احتمالية تداعيات خطيرة على مصر. تأتى هذه الكارثة فى وقت يتسم بجمود تام فى المسار التفاوضى، حيث أعلنت مصر بوضوح أن هذا الطريق قد وصل إلى نهايته، مؤكدةً احتفاظها بكامل حقوقها المشروعة فى الدفاع عن مصالحها المائية الوجودية بكل السبل المتاحة. إن ما تشهده المنطقة اليوم من تصريفات مائية ضخمة وغير منتظمة من سد النهضة، يتجاوز بكثير الإيراد الطبيعى للنيل الأزرق، ليخلق واقعًا جديدًا يفرض نفسه على دولتى المصب، ويدفع بالتساؤلات حول مستقبل الأمن المائى والاستقرار الإقليمي. شراقى: تصريفات السد تفوق الإيراد الطبيعى للنيل
تصريفات قياسية أكد الدكتور عباس شراقى، خبير المياه وأستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة، أن سد النهضة يشهد منذ افتتاحه فى 9 سبتمبر الجارى تصريفًا هائلاً للمياه، بلغ ذروته عند 750 مليون متر مكعب يوميًا خلال الأيام الأخيرة. وأوضح شراقى أن هذا الرقم يزيد على ضعف الإيراد الطبيعى للنيل الأزرق فى مثل هذا التوقيت، والذى يقدر ب 300 مليون متر مكعب فقط، مشيرًا إلى أن متوسط التصريف اليومى للسد تجاوز 450 مليون متر مكعب. وأوضح الدكتور شراقى أن هذا التصريف المفاجئ والعشوائى أدى إلى ارتفاع منسوب النيل الأزرق والنيل الرئيسى عند الخرطوم إلى 17.23 متر، مسجلًا زيادة قدرها 11 سم عن اليوم السابق. ويشير هذا الارتفاع إلى فارق 73 سم عن مستوى الفيضان، علمًا بأن الرقم القياسى المسجل سابقًا كان 17.66 متر عام 2020. فشل تشغيل شدد شراقى على أنه سبق وحذر من أن السد، الذى روجت له إثيوبيا كأداة لتنظيم تدفقات النيل الأزرق وتقليل الفيضانات، قد تحول عمليًا إلى مصدر خطر على السودان. وعزا ذلك إلى فشل تشغيل التوربينات، موضحًا أن بحيرة السد ما زالت تحتفظ بمخزون ضخم يقدر ب 60 مليار متر مكعب، مما يجبر إثيوبيا على تمرير كميات هائلة من المياه عبر بوابات المفيض بشكل عشوائى وغير متحكم فيه. وأشار خبير المياه إلى أن صور الأقمار الصناعية كشفت عن توقف التوربينات التى جرى تركيبها عام 2022، فى حين لم تدخل باقى التوربينات الجديدة حيز التشغيل، بالرغم من إعلان إثيوبيا تركيب ما بين 6 و 7 توربينات. ويكشف هذا الوضع عن خلل كبير فى إدارة وتشغيل السد. فيضانات وشيكة نبه الدكتور شراقى إلى أنه حذر قبل شهور من أن الأزمة ستظهر تداعياتها مع اقتراب موسم الأمطار الجديد فى يونيو الماضي. وتوقع حينها أن إثيوبيا ستكون مضطرة لتفريغ نحو 20 مليار متر مكعب قبل يوليو، محذرًا من أنه إذا لم يتم ذلك تدريجيًا، فقد يشهد السودان فيضانات جديدة تهدد حياة السكان. كما أشار إلى أن هذه الكميات الضخمة من المياه قد تؤثر على مصر أيضًا عند وصولها إلى السد العالى ومنشآت الرى، وهو ما حدث بالفعل خلال الأيام الماضية. وأوضح شراقى أن متوسط إيراد النيل الأزرق عند سد النهضة فى إبريل لا يتجاوز 12 مليون متر مكعب يوميًا، وهو ما لا يكفى لتشغيل توربين واحد إلا لساعات محدودة. ويكشف هذا الأمر فشل إثيوبيا فى تحقيق الهدف المعلن من السد كأكبر مشروع لتوليد الكهرباء فى القارة الإفريقية. على الصعيد المصرى، طمأن خبير المياه بأن مصر فى أمان بفضل السد العالى، الذى يمكنه استيعاب كميات المياه الحالية وأكثر. وأرجع ذلك إلى حجم التخزين الكبير الذى يصل إلى 162 مليار متر مكعب، والذى يمثل الحصن المائى المنيع لمصر تجاه الفيضانات أو الجفاف. نور الدين: إثيوبيا ارتكبت خطأ فادحًا فى ملء السد
خطأ فادح من جانبه، أكد الدكتور نادر نور الدين، خبير الموارد المائية وأستاذ الأراضى والمياه بجامعة القاهرة، أن إثيوبيا ارتكبت خطأ فادحًا عندما سارعت بملء بحيرة السد بكامل سعتها البالغة 75 مليار متر مكعب قبل الانتهاء من تركيب وتشغيل جميع التوربينات ال 13. وأشار إلى أنه تم تركيب 8 توربينات فقط، يعمل منها 5 بشكل غير منتظم، فى وقت لم تكتمل فيه محطة الكهرباء أو أبراج الضغط العالى لنقل الطاقة. وأضاف نور الدين أن الملء الجزئى بما يتراوح بين 50 و 55 مليار متر مكعب كان كافيًا ليتناسب مع القدرة الفعلية للتوربينات العاملة. لكن إثيوبيا فضلت التخزين الأقصى، مما اضطرها لاحقًا لتصريف كميات هائلة من المياه بشكل عشوائى، وهو ما أحدث تداعيات خطيرة على السودان. فيضانات «صناعية» وأكد نور الدين أن ما حدث فى السودان يكشف زيف ادعاءات إثيوبيا السابقة بأن السد سيحمى الخرطوم من الفيضانات. مشيرًا إلى أن ما يحدث الآن هو فيضانات «صناعية» أكثر خطورة من الفيضانات الطبيعية، لأنها تأتى بشكل مفاجئ فى شهرى سبتمبر وأكتوبر، على عكس الفيضانات المعتادة التى يمكن استيعابها على مدى أطول. نفى نور الدين تضرر مصر من حجز 75 مليار متر مكعب خلف السد الإثيوبى، موضحًا أن بحيرة السد العالى ممتلئة بالكامل بفضل الفيضانات العالية خلال السنوات الماضية. وأشار إلى أن وجود المياه فى إثيوبيا يعد مخزونًا مؤقتًا سيجرى ضخه لاحقًا عبر التوربينات إلى مصر والسودان. وأكد أن السد العالى يتمتع بسعة تخزينية تصل إلى 162 مليار متر مكعب، بالإضافة إلى ثلاث بحيرات إضافية تستوعب 22 مليار متر مكعب، إلى جانب مفيض توشكى الذى يمكنه تصريف أكثر من 20 مليار متر مكعب. هذه القدرات تجعل مصر قادرة على استيعاب أى كميات مياه مفاجئة. اتفاق ملزم وشدد نور الدين على أن ما تسعى إليه مصر هو التوصل إلى اتفاق ملزم بشأن قواعد التشغيل والإدارة. موضحًا أن المرحلة الأهم الآن هى ربط حجم التخزين بعدد التوربينات العاملة والتزام إثيوبيا بالمعايير العالمية لتشغيلها، مع إخطار مصر والسودان مسبقًا بأى تصريفات لضمان استعداد السدود السودانية، مثل الروصيرص وسنار ومروى، وكذلك السد العالى، لاستيعاب التدفقات بشكل آمن. أكد نور الدين أن إصرار إثيوبيا على الانفراد بقرارات السد يهدف إلى إلحاق الضرر بمصر والسودان معًا، سواء عبر الفيضانات المفاجئة فى سنوات الغزارة أو الجفاف فى سنوات الشح، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن المائى والإقليمي.