بقلم د. فالح الحجية مما لاشك فيه أن الشاعر ابن بيئته ومتفاعل معها كيفما كانت وأينما كانت ولابد من تأثير لها عليه وقد تحدثنا عن التأثير السياسي والاجتماعي في الشعر العربي ومدياته والان نتكلم عن بعض الامور الاقتصادية التي هي نسغ الحياة ودمها الجاري في العروق وتأثير أنماطها على الشعر والشاعر العربي. إن الوضع الاقتصادي للبلد الواحد أو قل للعائلة الواحدة أي لعائلة الفرد أو عائلة الشاعر لها تأثير مباشر و كبير على نشاته وشاعريته ولو أن الشعر فطرة لكنها قد تنمى بكثير من الأمور وتقوى بالاطلاع والدراسة والتتبع والممارسة على قول الشعر ودراسة دواوين الشعراء ومطالعة أو دراسة اللغة و اصول النقد والبلاغة والصرف والنحو وما اليها وهذه حتما بحاجة الى وضع اقتصادي جيد لتمكن الشاعر من نيلها أو الحصول على مستجدات منشوراتها وكتبها ومؤلفاتها وقد يراها ذو الوضع الاقتصادي الجيد أو المتمكن من شرائها أو الحصول عليها من الامور السهلة وغير المهمة وذكرها أو التحدث عنها من الأمور المضحكة أو يعتبرها الاخر تافهة إن كان وضعه الاقتصادي جيدا ويمكنه من إقتنائها وهي بحقيقة الأمر تنشأ مع الشاعر فتقيده في بعض الأحيان وخاصة إذا كان هذا الشاعر متحدرا من عائلة فقيرة أو معدمة ولربما لا تملك قوت يومها . أقول نعم إن هذا الشاعر أو ذاك ربما يتمتع بفطرة شعرية وخيال شاعري من خلال الهامة الشعري الواسع وما غرس في نفسيته و تتفتق شاعريته وقادر على قول الشعر إلا أن هذه الشاعرية مهما كانت قوية بالموهبة حتما بحاجة إلى صقل موهبتها واكتساب بعض المعارف المهمة التي تحتاج الى المال . وقد لاحظت أن بعض البسطاء من الناس يمتلك شاعرية عجيبة في قول الشعر الشعبي - رغم أني لا أحب الشعر الشعبي وأعتبره أحد العقبات التي يجب أن تزال من قاموس اللغة العربية وتوحيدها وغير مهم في الإنسان العربي – إذ يرفع هذا الشاعر صوته فيغني ويؤلف لنفسه أشعارا شعبية وموالات قمة في التعبير والجيادة وهو ربما لا يقرأ ولا يكتب وتجد في شعره صورا شعرية طافحة بالفهم وتهز مشاعر المتلقي هزا عنيفا وتحرك العواطف الإنسانية فيه فهذه بطبيعة الحال شاعرية فطرية فلو كان هذا الإنسان ينشد هذه الأقوال بالعربية الفصحى لربما كان شاعرا فطحلا أو ذا مكانة لا باس بها أو كان يمتلك المقدرة على المطالعة والدراسة واكتساب العلوم اللغوية لكان شاعرا مبدعا وربما عبقريته الشعرية تفوق كثيرا بعض الشعراء الذي اكتسبوا الشعر وقالوه عن غير فطرة شعرية أو قريحة شاعرية أو انها فيهم قليلة لذا أستطيع القول ان الوضع الاقتصادي للفرد له تأثيره البالغ في المسيرة الشعرية للشاعر ومنذ الطفولة وحتى على الشعر ذاته. ثم إن سياسة الدولة أو المنطقة التي يتواجد فيها الشاعر وتوجهها الثقافي الذي يتفاعل معه الوضع الاقتصادي للدولة لهو رافد مهم من روافد النمو الشعري والثقافي بصورة عامة في البلد والذي ينعكس سلبا على طائفة من الشعراء وايجابا على طائفة اخر ى فلو احتضنت الدولة كل الشعراء و بصورة متساوية لأبدع كل شاعر بما منحته شاعريته الفطرية والهامه من شعر وقصيد إلا أن أغلب الدول وخاصة العربية دأبت على احتضان من يسير بركاب حكامها ويمتدحهم ويكون لسانا ناطقا منافقا لها فتغدق عليه الاموال والهدايا والمنح وترفع من شانه عاليا وفي الوقت ذاته تعلن الحرب على من لا يستجيب لها أو من لا يسير في ركابها وتحاربه شديدا فيقعد ملوما محسورا . فمثلا كانت الدولة في العراق تحتفل في مهرجان المربد الشعري سنويا وترفد هذا المهرجان واحتفالياته بملايين الدنانير وتدعو اليه العديد من الادباء والشعراء العراقيين والعرب وبعض الاجانب وكانت تتدخل الامور الساسية في هذا المهرجان فيدعى زيد من الشعراء ويبعد عمرو وتكون الافضلية لفلان وفلان لانه يمدح ويتعنصر للشخص الحاكم ويمجده واذكر ان شاعرا من الشعراء الذين اغدقت عليهم الدولة وحفتهم بعنايتها ورعايتها كان عندما ياتي ليصعد على المسرح يقف قبل ان ينشد شعره فيقول : (انا شاعر صدامي انا شاعر صدامي) يصرح بها علانية وأمام آلاف الحضور من الشعراء والأدباء العراقيين والعرب والأجانب ثم يبدأ بإنشاد شعره فكانت إليه الأفضلية على الشعراء الاخرين من حيث العناية غير الطبيعية والمركزة والرعاية الكبيرة في المال والجاه والمركز فنراه في منصب عال جدا و سيارته التي تقله فارهة من الدولة ومكتب لا مثيل له وجيوبه مليانه بالنقود ولا يحتاج اي شيء - فقد وفرت له الدولة كل طلباته - إلا أن يجلس لمكتبه ليكتب بقلمه الذي ربما شباته كانت من ذهب ويقضي وقته في تنميق وتزويق شعره ومراجعته واختيار ارق الالفاظ واحسنها فأين هو من شاعر لا يجد لقمة عيشه بل لا يجد الوقت الكافي لكتابة قصيدته أو العودة اليها لمراجعتها من اخطاء فيها نحوية ا و صرفية أو بلاغية أو ربما شعرية في الوزن أو القافية أو الشكل والمضمون بسبب كده وتعبه وإرهاقه وركضه وراء لقمة العيش فتموت الكلمة في نفسه والتعبير قبل ان يخرج من شفتيه فهل يستويان مثلا . وشاعر آخر حفته الدولة لأنه صديق حميم لولد الحاكم فأغدق عليه نعمه وفضّله على الآخرين وجعله رئيسا لهم مثله مثل صاحبه الأول أو يزيد أو حتى شعراء المحافظات كان بعضهم تكرمه الدولة وتصرف إليه رواتب شهرية لكونه كان رفيقا للدولة أو من حزبها أو نتيجة التملق والنفاق الثقافي الذي يكثر في أروقة الوزارات أو الاتحادات ذات الصلة في حين يوجد هناك من هو أفضل منهم شاعرية وعلما ودراية وقد حرمته مما تصرفه على اقرانه الشعراء لأنه يكره أن يكون تابعا أو متملقا لذا أو ذلك ويعتز بنفسيته وارائه رغم كونه محتاجا للمساعدة المالية والمعنوية فهذا لا يجد ما يسد رمقه وعائلته أو حتى لا يستطيع التنقل للمشاركة في المهرجانات الشعرية أو مجاراة الشعراء في منتدياتهم فهؤلاء لو اخذ بايديهم وساعدتهم الدولة مثل اقرانهم أو احتضنت الدولة الجميع بدون تمييز سياسي أو عرقي أو طائفي فهل يبقي مثل هذا الشاعر متاخرا عن الاخرين بسبب سوء الحالة المعاشية والاقتصادية التي فرضت عليه فهل يستويان مثلا. ثم جاءت الطائفية المقيتة فقربت شعراء وكان الثقافة والأدب حكرا عليهم وأبعدت آخرين وعذبت آخرين أو قتلتهم بل هاجر بعضهم إلى خارج البلاد حفاظا علي نفسه خوفا من الموت أو القتل فأي معادلة هذه ومتى ستتحسن أحوال الأدباء والشعراء وأمورهم ومتى يهيئ لكل الأدباء والشعراء الجو المناسب ونتخلص من هذه المعادلة غير العادلة وأن نفعل لبلدنا ما ما نحب أو نريد نحن في سبيل الصالح العام ونشارك في بناء هذا البلد فتحل علينا رحمة الله تعالى بتآخينا وتوحدنا وتنعدم الفوارق بين هذا وذاك الا من حيث نتاجه الادبي أو الشعري وقوة شاعريته وهذا الامر موكول باهل اللغة والبيان والشعر م الذين اصبحوا في مواقع مقربة من الدولة فتناسوا زملائهم الذين مستهم الباساء والضراء أن ياخذوا بأيديهم ويوفروا لهم المكان المناسب والحياة الكريمة أسوة بهم . وعلى العموم إن الشاعر الذي تهيات له أسباب المعيشة ويعيش في وضع اقتصادي يمكنه من إدارة شؤون عائلته وتمشية أمورها أفضل بكثير من شاعر هجر الشعر أو تركه بسبب بعض الظروف القاهرة أو شاعر اخر كتب كثيرا من الشعر فاحتفظ به لنفسه بما يكتبه لعدم تمكنه من نشره لسوء حالته المالية فضاع ما ضاع منه وربما ضاع كله بمرور الوقت وهم غير قليل. وهكذا في بقية الأقطار العربية أو على مستوى البلاد العربية كلها . فالدولة العربية التي تهتم بشؤون الشعر والادب وتحيط ادبائها وشعرائها بهالة من الفخر والاعجاب و تهيء لهم الأجواء المناسبة وتقدم لهم أيدي العون والمساعدة يكون أدباؤها وشعراؤها أفضل حظا من الدولة التي لا تعير أهمية للأدب والشعر والفن وتميز بينهم بحسب الطائفة أو العرق أو المعتقد أو المذهب وربما يضطر بعض الشعراء ان يهجر بلده و يعيش في غيرها طلبا للرزق والحضوة و ينحاز إلى دولة أخرى والدخول في اهتماماتها وهذا ما لا نرضاه ابدا - وهذا ايضا حسب الواقع الاقتصادي للدولة أو الحضاري وطبيعة الحكم وتصرف الحاكمين ومثل هذه الحالات كثيرة في بلادنا العربية وللأسف الشديد . ونامل أن يعمل الحاكمون واؤلوا الشان على إزالة كل الفوارق الثقافية بين كل الأدباء والشعراء والمثقفين وأن يكون الإبداع الثقافي والأدبي مقياسا للتنافس بينهم ومثلا آخر الإمارات العربية بدأت بتشجيع الأدباء والشعراء ومحاولة اكتسابهم إليها من خلال برامج التلفزة أو الفضائيات وتنظيم المهرجانات الشعرية وتغدق العطايا والجوائز وتخلق المنافسة بين الشعراء من كل الاقطار العربية وقد لاحظت قبل أيام شعراء من العراق وتونس واليمن وموريتانا يحصلون على جوائز من دولة الإمارات بعد إلقائهم قصائدهم الشعرية في مهرجانات شعرية نظمت لهم وكان الشاعر منهم ينشد شعره برغبة وبالغرض الذي يريد . ألم يكن مثل هذه الأمور دافعا كبيرا لتقدم الشعر وتحسينه والأخذ بيد هؤلاء الشعراء للانطلاق إلى أجواء أفضل ؟. الم يكن هذا الامر نتيجة حتمية للوضع الاقتصادي المستقر في هذا البلد المعني بحيث تغيرت اموره نحو الأفضل ؟ . إن الوضع الاقتصادي للفرد أو الدولة والاستقرار النفسي يجعل للشاعر أجنحة أخرى يطير بها في سماء الشعر فينظر من عل إلى الأرض تحته فينزل في روضة تعجبه أو على شذى زهرة يشم رحيقها من فوق فترتاح اليه نفسه ويسعد قلبه فيصبو اليه وتانس به فينشد ما أراد ويبدع . وربما ينظر إلى الأرض فيرى يتيما قد قتل الغاصبون أباه أو انتزعوا منه أرضه فهو يبكي لفقدان والده. أو على ملجأ أو مأوى يستوطنه فلا يجد فيشقى لبكائه أو يرى حبيبته الغالية قد هجرته ولاذت بآخر تتقرب منه فيعتمل الحزن والأسى في قلبه وتشتعل نار الفراق في أحشائه فينكب ينشد شعرا حزينا أو يندب حظه العاثر وفؤاده الشائق أو يتأمل في السماء وألوانها الرائعة ونجومها البراقة اللامعة في ليل مقمر أو في نهار مشمس فيتيه بين الخضرة والزرقة ولون البحر أو لون الماء الصافي ينساب في النهر الخالد فتسيح نفسه وتنثال عليه الصور الشعرية الناطقة بلسان ما يرى فيبدع شعرا جميلا رائعا في خيال واسع منبعث مما يحس به و يهجسه ويختلج في قلبه وروحه شاعرية فذة وعبقرية شعرية رائدة. أميرالبيان العربي د. فالح نصيف الحجية الكيلاني العراق - ديالى - بلدروز