حسناء الجريسى - يمتلك الشاعر د.المنصف الوهايبى، رؤية استشرافية تجعله متفائلا بمستقبل تونس، فهو يجمع بين الأدب والسياسة، ما يضعه فى مصاف المثقفين البارزين، الذين أثروا الحياة فى تونس بمواقفهم السياسية وأشعارهم، وتظل مدينة النشأة «القيروان»حاضرة فى مخيلته، ليبدع أجمل قصائده على «أبواب القيروان»، ولأنه معنى بشعر القدامى كانت أطروحته للدكتوراه عن شعرية أبى تمام محاولاً البحث والتنقيب عن أوجه الشبه بينه وبين أدونيس. «الأهرام العربي» التقت د.المنصف الوهايبى فى القاهرة. هل هناك تشابه بين ما يحدث في مصر وتونس؟ الملاحظة التى ينبغى أخذها فى الاعتبار - حتى فى مصر - أننا متشابهان كثيراً، الإسلاميون لا علاقة لهم بالثقافة، هذه حقيقة وليس تجنياً عليهم، لا أعرف شاعرا من الإخوان المسلمين، وهذا موجود أيضا فى تونس، برغم أن حركة الإخوان عريقة فى مصر، مر على تأسيسها أكثر من 80 عاما، ولم تنجب مبدعاً واحداً لأسباب كثيرة. ولكن هناك ما يطلق عليه اصطلاحا “الأدب الإسلامي". هو مصطلح فضفاض يمكن دحضه بكثير من السهولة، على كل حال يمكننا القول إن هناك حراكا ثقافيا ملحوظا فى تونس، فليس بإمكان التيار الإسلامى السيطرة على كل هذا المشهد الثقافى، صحيح أن الشباب يتجهون أكثر إلى الفيس بوك، وهو وسيلة اتصال فاعلة، لاينبغى إغفالها ولا إنكارها، ربما الملاحظة التى ينبغى أن نركز عليها فى هذا الحوار، هى التجليات الثقافية سواء ظهر ذلك فى مجال الشعر أم القصة والرواية والمسرح، فالتيارات الإسلامية لم تستطع بعد مواكبة هذا الحدث، ولا أن تتمثل الثورة، وربما يرجع ذلك إلى وقع المفاجأة أو إلى أن الثورات عادة تتطلب مسافة من الزمن. هل طالعت كتابات تناسب الثورة التونسية كحدث كبير؟ لابد أن يكون هناك وقت حتى يستوعب الكاتب ما حدث، ويلتفت إليه بكثير من التفاصيل، ليكتب الحدث بكثير من الموضوعية، ويتمثله بقدر الإمكان، صحيح أن الشعراء يبادرون عادة تحت وهج اللحظة الشعرية، لكن العمل الإبداعى الذى ننتظره لم يظهر بعد، وربما ينطبق نفس الشىء على مصر أيضاً. ما شكل العلاقة الآن فى تونس بين المثقف والسلطة؟ هى علاقة مقاومة، خصوصا أنهم لجأوا فى البداية للاعتداء على المبدعين، كالشعراء ورجال المسرح والفنانين، كما اتجهوا للتحريض على المثقفين من خلال خطبهم فى المساجد، ما دفع المثقفين إلى التصدى لكل محاولات العنف، التى يواجهونها من فصيل الإخوان، ولتلك الهجمة الشرسة، ونجحوا إلى حد ما فى ذلك، واستطاع المثقفون أن يفرضوا وجودهم على وزارة الثقافة وكل المؤسسات الثقافية، لأن أكثر المهرجانات تمولها الوزارة، ومن هنا فهناك دور يلعبه المثقفون، ربما فى الأشهر الأولى والسنة الماضية كانت هجمة الإخوان أقل شراسة، لكن الآن بدأوا يرتخون تحت تأثير وقع هذه المقاومة، وربما أيضاً لأن الذين يشاركوننا هذه المقاومة هم من نشطاء المجتمع المدنى، كالنقابات والأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان وكل الأحزاب المعارضة الجادة. ما تصورك لعلاقة الشعر بالسياسة، خصوصا أن البيت الشهير للشاعر أبي القاسم الشابي:»إذا الشعب يوما أراد» قد تجلى في الثورات العربية؟ أتصور أن الشعر يرتبط دائماً بالسياسة، وسط السجال الحادث الآن، فالشعر فى الأساس هو عمل سياسي، والخطاب الشعرى تنظمه جملة من المكونات، أهمها نظامه اللغوى، فالشعر هو عمل لغوى بالأساس أيضا ومغامرة لغوية أيضا، ثم لا ننسى أن اللغة - فى نهاية الأمر- لغة داخل اللغة، ولاشك أنها جزء منها، وهى تدخل ضمن منظومة سياسية أشمل، وفى رأيى أن السياسة ليست السلطة أو النظام، وإنما هى - بالمعنى الواسع للكلمة - كل ما يتسع ويندرج تحت مسمى سلطة، كسلطة الدين والتقاليد والأعراف والأحزاب والمجتمعات المدنية والنقابات، وكل هذا جزء من منظومة سياسية أشمل، أنا أفهم الشعر فى هذا السياق، وبيت الشابى معروف، وقد كتبه فى الثلاثينيات من القرن الماضى، وهو جزء من النشيد الرسمى التونسى، استعاده الشباب فى الثورة ليلهب حماستهم. أنجزت رسالة الدكتوراه عن أبي تمام، ما الذي جعلك تعود إلى هذا الشاعر تحديدا؟ درست شعر أبى تمام فى إطار رسالة دكتوراه الدولة، وكنت قبل ذلك بسنوات درست شعرية أدونيس فى إطار دكتوراه الحلقة الثالثة، وعودتى إلى أبى تمام مكنتنى من فهم جوانب غير قليلة فى الشعرية العربية القديمة، لأن ما يلفت الانتباه فى شعريته أنه الوحيد الذى أطلق عليه القدماء - من أنصاره وخصومه - صاحب المذهب الشعرى، وكانوا يقولون مذهب الطائى مذهب أبى تمام حتى على شاعر كبير بحجم أبى الطيب المتنبى أو أبى العلاء المعرى. حاولت أن أكتشف سر هذه التسمية وسر هذه الشعرية، وهذا جعلنى أعود إلى قراءة كتب ودراسات كثيرة تتعلق باللغة العربية، ودراسات كثيرة تتعلق بالأوزان وبالإيقاع، وكتب أخرى حديثة جداً تتعلق بالشفوية وبالكتابية، حتى توصلت إلى إدراك هذا البعد الرمزى فى شعرية أبى تمام، والذى يشبه أدونيس. وما الذى لفت انتباهك فى عالم أبى تمام الشعرى؟ اشتغاله على اللغة العربية بامتياز، وأظنها تتواصل مع نصوص الكثيرين من شعراء المشرق، خصوصا مع الشاعر أدونيس وبعض شعراء قصيدة النثر، وربما عند شعراء كبار يحبون أبى تمام. ترى الشعر ذاكرة المستقبل برغم اعتراضك على دوره فى الثورة التونسية أليس في هذا تناقض ما؟ الشعر دائما يعود إلى منابعه الأولى، ونحن أمة شعر، والشعر العربى هو الأقدم فى العالم اليوم، فعمره يتجاوز أكثر من عشرين قرنا، وربما أكثر بقليل، وعندما أقول المستقبل فإن هذا المستقبل الشعرى مبنى على الماضى، نحن نقرأ الشعر لكن لانقرأه كما قرأه أسلافنا، وأيضاً نقرأ الشعر الحديث والموشحات وصولاً إلى أبوللو وإلى شعراء القرن الماضى، الذين نقرأهم على ضوء المناهج والمقاربات الحديثة، إذن التراث نفسه هو شكل من أشكال المستقبل، لأن الخلاف مع الأصوليين هو أنهم يتصورون أن الماضى ثابت، والمشكلة تكمن فى كيفية قراءة هذه النصوص بعين الحاضر، حتى نجعلها تواكب عصرنا، بحيث لا تحول بيننا وبين الحداثة المنشودة. أنت ترى أنه لا يوجد ما يسمى بالشعر لكن توجد القصيدة ماذا تعني بذلك؟ أثناء مناقشتى رسالة الدكتوراه، وكما ذكرت، كانت فى شعرية أبى تمام، قلت ليس هناك تعريف واحد للشعر، وذلك لأسباب كثيرة تتغير من عصر إلى آخر، وهذا يدل على أن الشعر فن مطروح، ومن هذا الجانب قلت ما يوجد حقيقة هى القصائد، فعندما نقرأ مجموعة قصائد لا يمكن أن نستخرج مفهوماً واضحاً وواحداً للشعر، وعندما نقرأ المتنبى نستخرج مفهوماً، وعندما نقرأ أحمد عبد المعطى حجازى نستخرج مفهوماً آخر للشعر، وكذلك عند أدونيس ومحمود درويش، لكن هناك المكونات التى تجمع وجوه الائتلاف بين الشعراء، فالنظام اللغوى والاستعارات والكنايات والرموز، لاشك أن مفهوم الشعر يختلف من شاعر إلى آخر، وربما من حقبة زمنية إلى أخرى. من خلال دراستك لشعرية أبى تمام كيف وجدت تناول القدماء لحداثته وإلى أى مدى لا تزال شعريته قادرة على الاستمرار؟ فعلاً عند دراستى لأبي تمام درست كيف تمثله القدماء، وهذا جعلنى أتساءل كيف يمكننا دراسته، لذلك بحثت فى كل ما كتبه عنه القدماء فى قرون مختلفة من الزمن، فهو ظل يكتب الشعر حتى القرن الحادى عشر للهجرة، وهنا أشير أننى قرأته من زاوية مختلفة، وهى الشفاهية والكتابية، وحاولت أن أعود إلى الشعر الجاهلى، ووجدته شعراً شفويا، كما يقول أكثر النقاد المعاصرين. وتوصلت إلى أن الشعر الجاهلى لم يدون، لكنه فى الحقيقة شعر كتابى، وكنت أنظر إليها فى ذلك، من حيث إنها بنية لا علاقة لها بالخط، حتى توصلت إلى أن نص أبى تمام نص كتابى، وأنه تجربة باللغة فى الأساس، وقيمته ترجع إلى أنه أولى للمخيلة مكانة كبرى، جعلت القدماء يطلقون على شعره مذهب الطائى كما قلت من قبل، قيمة أبى تمام تكمن فى أن تجربته داخل اللغة، وهى تعيد الاعتبار للمخيلة أكثر ما يعيده النسج على المنوال أو المحاكاة ومن هنا جاءت قيمته بالفعل. ما وجه الشبه بين أدونيس وأبي تمام؟ أدونيس كان عنوانا لدراسة قمت بها عام 1998، ما يجعل شعريته تتشابه مع شعر أبي تمام، إنه قريب منه فى التداخل النصى، حيث ركزت في بحثى على المصادر التى استند إليها أدونيس والتى اقتبس منها، وأكثرها ربما لم يصرح به، والشاعر ليس مطالبا بأن يصرح بكل مصادره الشعرية، وجدت تأثر أدونيس بالفلسفة فى الشعر، ولدي رسالة طويلة من أدونيس كتبها بعد أن اطلع على رسالتي، ولاحظت فيها أنه انزعج من هذه الأطروحة، وكتب إلي يقول إنك فى هذا العمل أشبه بالصياد الذى يطارد، لكن علاقتى به بقيت علاقة صداقة جيدة، ربما تشبه علاقة الملاك والشيطان فى الثقافة العربية، أنا لم أتهم أدونيس بالسرقة، وإنما قلت إن هذا الرجل له ثقافة طوعية، وإنه يوظف ثقافته فى أعماله الشعرية وهذا حقه، فكل الشعراء يكتبون من خلال علاقتهم بالنصوص الأخرى التى قرأوها وتأثروا بها. وماذا عن علاقتك بمحمود درويش؟ علاقتى بدرويش كانت قائمة على المحبة، صحيح أنها لم تكن صداقة بالمعنى الواسع للكلمة، لكنى كنت أكن له كل تقدير واحترام، ففي أول مرة التقيته كان ذلك فى القيروان عام 1977، كنت وقتها أدرس بالتعليم الثانوى، وشاركته قراءة الشعر فى أمسية شعرية بمدينة القيروان، وكان لا يزال شاباً هو أيضاً، ثم بعد ذلك التقيته فى رام الله عندما سافرت إليها فى انتفاضة الأقصى الثانية، مع وفد من الشعراء العرب، وأيضاً قابلته فى القاهرة، وقرأت معه الشعر فى أكثر من أمسية، تجربة درويش مختلفة كثيرا عن تجربة أدونيس. نلاحظ وجود القيروان فى معظم قصائدك، ما سر اهتمامك بالمكان هل لأنه مكان النشأة أم أن هناك أسبابا أخرى؟ نشأت فى الريف القيروانى، منذ طفولتى، وعشت بها معظم حياتى، فالقيروان لها شأن فى المخيلة والذاكرة، وبرغم سفرى للعديد من البلدان فإنها حاضرة دائماً فى وجدانى، فهى المدينة الأولى التى فتحها العرب عندما اتجهوا إلى شمال إفريقيا، كما انطلقت منها الفتوحات الكبرى. ولماذا أهديت قصيدتك»على أبواب القيروان» إلى الفنان «بول كلي»؟ هذا الفنان لفت انتباهي أكثر إلى المكان، فبحكم الألفة والعادة هناك أشياء كثيرة لا ننتبه إليها، وبالتالي إما أن نبتعد عنها حتى نكتشفها، أو يأتى الغريب ويبرز لنا معالمها من جديد، وهذا ما فعلته معى لوحة بول كلى، نبهتنى إلى خصائص القيروان الجمالية، وجميع التفاصيل المتعلقة بها، وبالتالى حاولت أن أتلمس ذلك، ليس فى قصائدى فقط، لكن فى عمل روائى صدر لى منذ نحو سنتين.