قذف أحمد قلمه بعيداً، أرخى نظارته، راحت عينه تطرقُ زجاجَ نافذةِ مكتبه ليرى ضوءَ الشمس، أصبح من خلاله لا يحتاج إلى ساعةٍ، لمح أصيلاً يخيمُ على نهاره، قذف أرقامه في دفاتره التي تأكل أيامه جمعاً وطرحاً وضرباً، خرج مغاضباً تاه وسط زحام أفكاره، تحسس جيبه، احتضنت أنامله ورقاتِ نقودٍ باليةٍ، شعر أنهما صنوان، فالدنيا تتلاعب به كعملات تقذفها الأيدي لا رأى لها ولا اختيار. سار لا يلوي على شيء، تذكر بيته، كان يأمل فيه سكنا وولدا لا يجدهما، أحس بغربة تقذفُ به في بئر لا قاع له، يحملُ عبوساً بعدد أهل الأرض، انتبه لقد سلك طريقا مختلفا، أراد أن يذهبَ إلى أبعد نقطة في الكون، لا يسكنها أحد، الأرض على أتساعها تضيقُ عليه كدائرةٍ صار مركزها هو نفسه قطرها، فلا محيط لها ولا أوتار، ولا قطر ينبأ عن عمقها. وجد نفسه وحيدا على شاطئ بحر، يسمع لأمواجه هديرا كالذي بداخله، تمنى أن يقذفَ بهمومه في كبد البحر علَّ انتظام نفسه يعود إليه، أطبقت عينه جفونها، داعبت أقدامه سطح الماء تحاول أن تقبض على أمان يفقده، أسند ظهره لرمال كم عبثتْ بها أيدي وأوحال البشر؟ ترك أنامله تحنو على حبات رمالٍ في رفق، لا يدري أيهما يشكو للآخر؟ هدأت نفسه قليلا، سكنت يده في الرمال . تسللتْ اليمنى تنادي على أختها اليسرى ليتعانقا على صدره، لكنَّ اليسرى لم تستجبْ، انتبهتْ اليمنى هل مكروه ألم بأختها؟ رفعتْ صوتها قليلا، لاحظت أنها تسمع، لكن يبدو عليها غضب، سألتها: ما بكِ؟ انفجرت اليسرى أفكر في أمري، أنت أيتها اليمنى لكِ السبق والفضل في كل شيء، تتركين لي أسافل الأشياء وأدناها، تسلمين تكتبين تُطعمين تمسكين أطايب الأشياء، حتى في الحديث الشريف البركة ُ لكِ وحدك، ويوم القيامة أصحاب اليمين في الجنة، أما أصحابي ففي.....، وإن ألم بك شيء حزن صاحبنا عليك ولا يعيرني اهتماما، ومن فرط ما تقومين به من أعمال صرتُ عاجزة عن أداء معظم المهام، كم أتألم!! ماذا تركتِ لى غير...و....؟ تناوم أحمد واندهش وراح يتابع بشغفٍ. ربتتْ اليمنى على ظهر أختها برفق: هوني عليكِ يا أختاه، فأنا بدونك عاجزةٌ، فقد خلقنا الله لتتممَ إحدانا الأخرى، ويجبر بعضنا كسر بعض، هذه سنة الله في كونه، فانظري حولك لم تشكُ الأرض من فساد من يمشون عليها، ولا السماء منتْ على أختها بأنها علوية، ومحل الملائكة وأسباب الحياة، و ذرات الماء التي تصنع البحر بجوارك، فلا التي بالأسفل ضجرتْ كونها تحتضن بعض الأحياء في القاع، ولا التي على السطح تعالتْ على أختها بقربها للهواء، وكونها محط أنظار الشعراء، وتحمل للناس أشياءهم، ولا جذر النبات ضاق بحاله ذرعا في جوف الأرض يبحث أسباب الحياة تاركا الضوء واللين لساقه الأخضر، حتى فى سنبلة القمح نراها منتظمة حباتها متراصة، فلا التي في أعلاها اختالت زهوا، ولا التي في أسفلها تزمرت، فكل حبة تؤدى مهمتها أيْاً كان وضعها وموضعها، ثم انظري إلى البيوت من حولك لبنات البناء منها ما يُوضعُ في الصدر ويُزينُ ومحل الثناء والإعجاب، ومنها ما يوضع في....ويخالطُ كذا ...وكذا...، ثم انظري أختاه ضعفك كان لكِ أم عليكِ؟ حين أُمسكُ المقصَّ لأهذبَ أظافرك أجدك مستمتعة هانئة وهادئة وأناملك منتظمة، لا خلل فيها... لا جرح... لا اعوجاج ولا أمتا، لكن حين تؤدين أنت المهمة أتوجس منك خيفة، أراكِ ترتعدين كمن يمسكُ مقراضاً ليقرضَ ألسنة لا أظافر، فانتقلتْ قوتي وفضلي إليك أما أنا .....؟ ألا ترين أنى أقوم بأكثر الأعباء تاركة إياكِ تعبثين تلهين وتمرحين، لا أطلبُ منك شيئا ولا أمنُّ عليكِ، لأن هذا من واجبي وصميم خلقتي، فتح أحمد فاه غير مصدق وتابعت اليمنى الحديث يا أختاه: هل تخلى الحمار عن مهامه لأن صوته أنكر الأصوات؟ هل حمله الأسفار ومصاحبته العلماء والحكماء هذبتْ ولو قليلا من نُكرة ِ صوته؟ ربما كان صوته على ما فيه من أذى لأقرانه وخليلته هو صدح البلابل وترانيم العشاق. ثم انظري إلى الغنى يتعب ويكدح ثم يأخذ من ماله إلى الفقير والمحتاج، تاركا له دِعةً يهنأُ فيها، ثم يسأله دعوة مستجابة. يا أختاه : ليس كل حيٍّ يأخذ الحياةَ على شرطه هو، وإلا كانت كلُّ نهاية عقوبة له وخسران، فلابد أن نفنى ونسعد صاحبنا ونلبي احتياجاته، ونأمل أن يأخذنا للجنة ينعم وننعم بها، ولا نحصر ذواتنا في همومٍ نفنى بها. انظري إلى صاحبنا النائم لا يعرف مفهوم عطاء الله، فمجرد أن حُرِمَ الولدُ نكثَ على عقبيه، تكاد روحه تفلت من بين جنباته ، لا يدرك أن عطاء الله عطاءٌ، وأن منعَ الله عطاءٌ، يأمل الولد و لربما حرمه الله إياه لأن فيه هلاكه، رغم أنه يدندنُ في الكهف، ولم يفهم درس أما الغلام فكان أبواهُ مؤْمنيّن فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، لو قنع المحروم بحظه لرأى كلَّ أطفال الناس أولاده، ولو عرف ثواب الصبر لسعد بحظ المنع أكثر من حظ العطاء، فالروح لا تعرف الموت أو الألم، لكن تحيا في حظها من الثبات واليقين، وتستقر مادامتْ مؤمنة مستقيمة، وفى النفس الواسعة للسعادة حقائق تزيد وتكبر، وللهموم حقائق تضيق وتتلاشى، فإن ضاقتْ نفسك يا أختاه فأنت الضيقة، اهتز أحمد طرباً، رقص فؤاده، نظر إلى السماء، شعر بشمس الشتاء لوحة معلقة في سحابٍ تناجيه، وكأن النهار يُضاءُ بقمر لا شمس، جاءت اليسرى على استحياءٍ تعانقُ وتعتذر لأختها، قال أحمد:مسكينة زوجتي إن الحياة في عين المرأة وأفكارها لا تعدو عن حبيب في رجلها كبيرا، وحبيب في ولدها صغيرا، فإن عدمت الثانية فلا أحرمها الأولى، وشعر بقلبه وكأنه تعلق بسماء ثامنة أو تاسعة، فعاد لزوجته فأرسل ابتسامة من طرف خفيٍّ، وكتبت اليمنى عقد زواج جديد على ثغرها، وشهدت ووثقت اليسرى على خصرها، وتمنى أن يكون لقلبه ولعينه أفواه، حتى يعوض زوجته ما فات في الأيام الخالية.