فى أول أيام الدراسة الجامعية كان نشاطى المفضل هو الجلوس أسفل شجرة كبيرة فى أحد أركان الساحة الصغيرة ممسكا بكتاب واضعا سماعات الووكمان فى أذنى محاولا الاندماج في التجربة بالتعود على المشوار وتأمل المكان ومحاولة تحويل الوجوه الغريبة التى تروح و تجىء إلى وجوه مألوفة تذيب الحاجز الذى مازال قائما بيني وبين التجربة. اقترب منى ( عماد) ثم جلس إلى جوارى وسحب سماعات الووكمان من أذنى بدون استئذان وسألنى: بتسمع إيه، كنت بالصدفة أستمع إلى "حكيم". لاحظت ابتسامة عريضة على وجهه، سألنى بعدها إن كنت قد أضعت أسبوعين جالسا فى هذا المكان متوحدا لأستمع إلى حكيم؟. أخرج من حقيبة ظهره الصغيرة شريط "على الحجار.. فى قلب الليل"، وقال إنه سيأخذ شريط حكيم ويعطيني شريط الحجار بدلا منه. سألته: بدل يعنى؟ قال: لا أنت هتاخد الشريط ده تنضف ودانك وأنا هاخد شريط حكيم أديه لأمى. بعد أيام قليلة كنت أدخل معه إلى بيته ورأيت أمه لأول مرة. كانت تجلس على مقعد متحرك وقد أسلمت أصابعها لامرأة ما تقص أظافرها و تلونها. ابتسمت لنا فلمحت ارتعاشة خفيفة فى ابتسامتها. قال عماد: ماما.. عمر بتاع شريط حكيم. ضحكت الأم قائلة: آه.. (لولو لووو لولو). ضحكت وضحك عماد وضحكت عاملة المانيكير أما أنا فلم أفهم. فى ألبوم حكيم أغنية اسمها ( ياما قالوا عليك يا ليل) وكانت اللزمة الرئيسية فيها (لولو لووو لولو). فى غرفة عماد قال لى: كانت الأغنية مفاجأة عندما استمعت أمى إليها، هى تؤمن أن أبى لا يقول جملة مفيدة أبدا، وكلما سألتها: وماذا قال أبى فى الموضوع الفلانى، كانت تقول دائما: ولا حاجة.. (لولو لووو لولو). كانت سعادتها عظيمة عندما اكتشفت رجلا آخر على الكوكب يتحدث مثل أبى. دخلت علينا فوق كرسيها المتحرك تسألنى إن كنت أحب (اللازنيا)، قلت نعم سريعا مدفوعا بقوة الخجل، كانت ذكية بما يكفى لأن تسألني: أنت عارف هى إيه أصلا؟ ضحكت ووقعت فى غرامها، قالت: على العموم أنا كنت باهزر المنيو النهاردة سبانخ. بعد الغداء سألني عماد عما أعجبنى فى شريط على الحجار، قلت له اغنية اسمها (بحبك)، سألنى: هل تعرف أكثر ما يعجبنى فى هذه الأغنية؟، يقول الحجار (أحبك تبتدى البدايات.. تاخدنى ضحكتك بالذات)، قال عماد: كلمة (بالذات) تخطف قلبى وتجعلني استرخى، لا أعرف سببا واضحا، لكن كل مرة تصل الأغنية فيها إلى هذه الكلمة أشعر بدقات قلبى تتسارع، هل لديك تفسير؟ فكرت قليلا ثم عثرت على إجابة ما. قلت له: ربما لأنها كلمة بروحين، تقدم فكرتين فى لحظة واحدة، فكرة التخصيص والتأكيد. يكبرنى عماد بأربعة أعوام، رحل والده فى حادث سيارة، بعدها أصيبت الأم بأكثر من جلطة حتى استقرت على مقعد متحرك، هو الابن الوحيد، فاته إمتحان الثانوية العامة مرتين، ولم يتقدم له إلا بعد أن استقرت حالة والدته، هو فى السنة الدراسية الثانية لكنه وصل إليها وهو محمل بمادتين من السنة الأول قرر عماد أننا سنستذكرهم معا في بيته. بمرور الوقت أصبح بيت عماد بيتي، لا أتذكر كيف حدث هذا، لكن أتذكر أننى يوما صحوت على صوت والدة عماد تقول لى: الحق بتاع المية جايب فاتورة بخمستلاف جنيه وعايز يسحب العداد.. قوم اتفاهم معاه. أنهيت المشكلة بورقة من فئة العشرين جنيها. سألتنى الأم عما فعلته، قلت لها بعفوية: اديته رشوة. قالت لى باستنكار: رشوة؟!، اسمها الشاى، إكرامية، حليت بوقه، اديته يجيب فاكهة للعيال. قلت لها: آسف.. اديته رشوة يجيب بيها فاكهة للعيال. ضحكت الأم حتى دمعت عيناها. يعرف عماد أن الاغنية التى يستمع إليها تحمل فنا جميلا، لكنه لا يعرف كيف يعبر عن ذلك، بعد أن كشفت له ما أعجبه فى أغنية على الحجار، قام بتعييني مترجمه الخاص، نسهر الليل يعرض علىّ الأغنية لأقوم أنا بتحليل حلاوتها، كانت رفقته مدرسة علمتنى الكثير، كان يقول لى دائما: ستحترف الفن لكن لن أعترف بك حتى تكتب أغنية بها جملة أحلى من ( تاخدنى ضحكتك بالذات). كان فرح عماد هو أول فرح أحضره لصديق، أصرت أمه علىّ أن ارتدى رابطة عنق، هربت منها كثيرا، إلى أن فاجئتنى قبل أن نتحرك من المنزل بواحدة هدية طلبت منى أن أجلس على ركبتى أمامها لتربطها لى بنفسها. لم يربكنى فى حياتى كلها شىء مثل الرعشة اللاإرادية التى كانت تسرى فى يدها وهى تعقد لى رابطة العنق، عندما فكرت أن أمد يدى لأساعدها وجدت فى يدى رعشة مماثلة. طوال الفرح كنت أنا المسئول عن قيادة كرسيها المتحرك، كانت تقدمنى للناس قائلة: عمر أخو عماد الكبير. يوما راحت فى النوم على مقعدها المتحرك وهى تشاهد التليفزيون مع زوجة ابنها، ثم استيقظت وسألت: عماد لسه ماجاش؟، وعندما وصلتها الإجابة بالنفى، قالت: مش عارفه واحشني ليه؟، ثم راحت فى النوم مجددا ولكن دون عودة.