يروى: لحنت أغنية ل«شادية» عشان الرقاصة.. وأول أغنية حقيقية فى حياتى هى «حكايتى مع الزمان» الشيخ «كشك» روى له أنه شتم أم كلثوم بسبب حبها: «لم أتخيل أن من غنت إلى عرفات الله تقول: هات إيديك ترتاج للمستهم إيديا» «مافيش حاجة تيجى كده»، ده اللى بيقوله أيمن بهجت قمر على لسان نانسى عجرم.. وأكيد العذاب ع الأرض مش صدفة ده اللى بيقوله الأبنودى، وده أكتر حاجة خدتنى أول مرة شفت فيها عمار الشريعى وجها لوجه منذ ما يزيد على عشرين سنة. قبل ذلك اليوم لم أكن مشغولا بقصة عمار الشريعي، كنت مشغولا بألحانه، وقدرته العجيبة على محبة الموسيقى، لم أكن مندهشا من قدرته على التحليل التى كانت قد خطفت الجميع، وهو يقدم لحنًا آخر من خلال غواص فى بحر النغم - مثلا - أو حينما يتحدث عن لحن لزميل له، كانت تشغلنى فكرة من أين جاء بكل هذا الرصيد من «المعرفة»، لكننى من اللحظة الأولى التى رأيته فيها أدركت أننى لا أعرف شيئًا عن هذا الرجل، وأن كل ما يملكه لم يأت صدفة أبدًا، وبالمرة، كل ما قرأته عن السير الذاتية وقصص كفاح «المعذبون فى الأرض»، شىء، والواقع الذى تجسد أمامى شىء آخر. كنت أعرف أنه صعيدى مثلي، وأننا ننتمى لنفس القبيلة، وأن جده الأكبر وجدى أيضًا كانا من بين من كتبوا أول دستور فى مصر، وبيننا صديق مشترك غنى معظم ألحان عمار الشريعي، وكان قد غنى لى تجربتى الأولى فى الكتابة هو النجم على الحجار، وبيننا أستاذ تربطه بعمار صداقة كبرى وتربطنى به «تلميذة» قصيرة، هو عمنا خيرى شلبى الذى كان يحتفظ بعدد كبير من «الشرائط» التى تتضمن سهرات خاصة لعمار مع عدد من الموسيقيين الذين نجهلهم نحن -الشباب الأغر- فيما يعرفهم العالم كله مثل الموسيقى الفذ عبده داغر، وكنت قد وسطت كل هؤلاء لألتقى عمار الشريعي، ولم أكن أعرف أن الأمر يحتاج إلى كل هذه الوساطات. أنا مش أعمى كنت مثل غيرى من أبناء جيلى مفتونًا بموسيقى وأغنيات مسلسل الأيام التى كتبها عمنا سيد حجاب، مثلما كنا مغرمين بأغنيات مسلسل عرابى التى كتبها الأبنودي، وكنت أتخيل أن ذلك العفريت الذى صنع تلك الموسيقى هو نفسه «طه حسين»، وهو نفسه أحمد عرابي، لكننى وبمجرد أن رأيته أدهشنى أنه لا هو عرابى ولا طه حسين، لكنه حتما يصر أنه مش أعمي، ويؤكد ذلك فى نفس الوقت لكل من يعرفه. كنت قد ذهبت إليه بصحبة على الحجار، كان على موعد معه لإنجاز لحن جديد كتب كلماته عمنا سيد ججاب يقول: «من غير وله، ولا، ولوله، دي، دوا البله، والبلبلة، دي أحلى البلاد، ولدي، يا وله، دي على بلدي، وحلاوة بلدي..» وكان الحجار قد أسمعنى الكلمات، وكنت أتخيل لحنها من تلك التقطيعات المدهشة التى هندسها «صانع الأرابيسك» سيد حجاب، وكنت أحاول تخمين كيف سيلحنها عمار، لكن المدهش أن الرجل لطعنا أكثر من ساعة، ولم يتحدث عن اللحن، ولا عنى ولا عن الحجار، كان مشغولًا بإصلاح إريال التليفزيون لأنه يريد متابعة إحدى مباريات الزمالك، لأجدنى أردد بينى وبين نفسى أغنيته الشهيرة: أنا مش أعمى يا هو، يا خلق يا عميانين، دا قلبى ما فى أخوه، لكن زماني، ضنين» أمي ولو مالت على الحيطان بعدها بسنوات ذهبت إليه لأحاوره، كنت قد اتفقت معه على حوار طويل لصحيفة «صوت الأمة»، تأجل لأكثر من مرة بسبب سفره للعلاج من أزمة قلبية، وبمجرد أن جلست فى إحدى حجرات منزله بالمنيل، فاجأنى: «آه، عايز تعرف يا عم محمد»، قلت: «كل شيء، من أول الأم، وحتى مراد»، كان وقتها لم يبلغ الخامسة بعد، وفتحت الكاسيت لأسجل، واستمر الحوار لأيام، لم أنشر كل ما فيه، فأجد أهم مميزات عمار الشريعى رحمه الله، أنه لا يؤمن بالرقابة، يقول ما يشاء، وانت اكتب اللى عايزه. حكى لي، كيف أنه تعلم من هذه السيدة فى سمالوط فى أيامه الأولى أن «يسمع»، وأن علاقته بالفلكور بدأت من خلالها، وأن حديقة منزلهم فى الصعيد كانت ملجأ لسيدات يملكن أجمل الأصوات، وأن علاقة والدته بالغناء أكبر من علاقة والده بها، إلا أنه يذكر أن والده لما وجده شغوفًا بالغناء والموسيقى بعد مجيئه للقاهرة، ذهب به إلى صديقه كمال الطويل، كان وفديًا مثل والده، وأنه استمع إليه جيدًا وهو يعزف، وأخبر والده أنه يتفوق على خريجى معهد الموسيقي. يتحدث عمار عن قريته فى الصعيد، بحب، وعن مدرسته الداخلية، كانت تابعة للأمريكان، مش عارف إزاي، بحب أكبر، وعن منطقة حدائق الزيتون التى تقع بها المدرسة كأنها عمره كله: توقف فجأة وقال: أنا ممكن أعرف الزيتون من رائحة الشارع، آه والله، أنا لو خدتك فى العربية دلوقتي، ودخلت من أى حتة، وما قلتليش إن دى الزيتون، أول ما هنخش الشارع، هقولك ده الزيتون، يتحدث بحب غريب، عن مدرسه «عبدالله محسن» الذى خاطب الأمريكان عن حالته، وعلمّه العزف. أما باقى الآلات فقد تعلم عمار العزف عليها بمفرده، الأورج والأكورديون، والعود، حكى لى كيف أن أحدهم سرق الأورج الذى كان يعزف عليه فى أحد ملاهى شارع الهرم فحرمه من الفرصة الوحيدة التى كان ينتظرها، لقاء أم كلثوم، كان خارجًا من الملهى واستقل تاكسى وضع فى شنطته جهازه الموسيقي، وأنزله الرجل عند بيت الست، لكنه رحل بالأورج، فلم يذهب للموعد الذى حددته له. عمّار ورغم جرأته الشديدة فى الحديث عن النساء، والمشايخ، وسخريته اللاذعة، إلا أنك حين تعرفه جيدًا تكتشف أنه شخص خجول جدًا، لكنه عنيد جدًا أيضًا. الست شادية يحكى عمار عن أغنيته الأولى «امسكوا الخشب يا حبايب» بأريحية شديدة، يقول: «أنا أصلًا لحنت عشان الرقاصة اللى قالت جايبنلى يعزف إيه ورايا، لكن أول أغنية حقيقية فى حياتى كانت «أقوى من الزمان» للست شادية، كان كمال الطويل قد رشحه لتلحينها، وعندما جاء موعد التسجيل فى الاستديو لم يذهب عمار، خجل من شادية وخاف من التجربة، لكن كمال الطويل شجعه وحضر التسجيل بنفسه، فوجئت يا أخى بست فوق الوصف، أدب إيه وذوق إيه، وتقعد تقولك كلام عن اللحن اللى انت عامله وكأنك أعظم موسيقى فى العالم، يشعر عمار بالامتنان الشديد لشادية، وللفرص التى منحتها له، ورغم أنه لحن لها فيما بعد كثيرًا، ونجحا معا وبشكل منبهر فى أغنيات فيلم «لا تسألنى من أنا»، وغيرها، إلا أنه ظل يحكى كثيرًا عنها وعن مودتها، وكأنه لا يزال ذلك الناشئ الصغير. بدلة شعبان عبدالرحيم علاقة الأصوات بعمار الشريعى مدهشة جدا، جميعنا يعرف أنه علم نفسه التعامل مع الكمبيوتر لأنه كان يريد ألا يتعطل وهو يمل النوتة لآخرين، وأنه يريد تسجيل «حروف جملته الموسيقية» أولا بأول، وساعده الكمبيوتر على ملاحقة خياله، ويعرف بعضنا أنه كان يقوم بإصلاح ما يتعطل من أجهزة فى الاستديو الخاص به بمنطقة الدقى فى شارع على إسماعيل تحديدا، ومن الطبيعى أن تعرف أنه «نقي» يحب المشايخ وأصواتهم: لكن البعض لا يعرف أنه كان يتمنى التلحين لسيد النقشبندي، ولذلك عندما وجد بعض الابتهالات المسجلة للرجل والمركونة قام بالتعامل معها و«تخديعها» على حد تعبيره، لذلك كان يردد أنه أول وآخر واحد يلحن لميت. لكل قارئ عند عمار صفة، ومنزلة، ولهذا فهو يعشق الأصوات التى تجيد قراءة القرآن الكريم، وكان مشغولا بمعرفة رأى الشيخ الغزالى الذى كان يردد دائما رأيه فى أن أم كلثوم نشرت الإسلام أكثر منه -من الغزال يعني- وكان حريصا على أن يخبرنا أن الشيخ كشك حينما التقاه أكد له أنه شتم أم كلثوم لأنه يحبها وأنه لم يكن يتخيل أن من غنت إلى عرفات الله تغنى «هات إيديك، ترتاح للمستهم إيديا»، ومن باب المشايخ كان عمار يفرح كثيرا بمن يحدثه عن الشيخ محمد عمران الذى يرى أنه «فلتة»، وكان يحكى كثيرا من نوادره. قلت له: موسيقار بهذه القدرة، وهذه المعرفة كيف يلحن لشعبان عبدالرحيم؟، ضحك، ثم سألني: هو شعبان نط السور بتاع الفيلا بتاعتكم ولا انتو اللى بعتوله، ودخلتوه الفيلا؟! استغربت من السؤال، فأضاف: بص «شعبان زكى جدا، عارف أن السادة اللى بيعزموه فى أفراحهم عايزين يضحكوا عليه ويتبسطوا، فهو ضحك عليهم كلهم ووصّل اللى عنده، بالهدوم اللى بيلبسها، بالحركات اللى بيعملها، بالنوتة الوحيدة اللى بيغنيها، لكن هو يعرف يغنى إيه وإيمته، أنا جيبته عشان يغنى فى مسلسل، وقال اللحن زى مانا عايزه، كان المسلسل المقصود وقتها اسمه «سامحونى ماكنش قصدى» من إخراج الراحل إسماعيل عبدالحافظ! وكان من الطبيعى أن أسأله، «انت بتعرف البنى آدمين من صوتهم بس» فقال لي: «لأ، من كل حاجة، بس أقدر أعرف إذا كانت دى ست حلوة ولا لأ من صوتها برضه»، والغريب أنه وصف لى ملامح معظم من تعامل معهن من مطربات، لحظتها سألته: فيه حد معين كنت حابب تشوف شكله، وما قدرتش تعرفه من صوته، فقال وبألم: أيوه، مراد ابني، كان نفسى أشوف وشه!! الغريب أن مراد نفسه ظل لسنوات يظن أن والده يمثل عليه دور الضرير، وعمار وبعناد يشرح له، كيف أنه فقد بصره ولم يفقد بصيرته، تلك البصيرة التى جعلت موسيقاه، وحواديته، تعيش بينا، وستظل لسنوات طويلة قادمة، ربما لهذا وحده، لم أشعر أن ثلاث سنوات قد مرت على رحيل الشريعي، عصفور النار الذى أطعمنا من شهده ودموعه نغمًا لم يكن صدفة أبدًا.