استعاد الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي معنا أغنية المسيح التي كتبها عام 1968 ولحنها آنذاك بليغ حمدي وغناها عبدالحليم حافظ.. عادت ذاكرته لأكثر من 40 عاما عندما سألناه عن أحداث نجع حمادي، وقال لنا لم أكن أتخيل وقتها أني لن أستطيع أن أكتبها في عام 2010 حيث هذا التعصب الأعمي .. لقد كان حزن الأبنودي علي أحداث نجع حمادي عميقا، فهي مسقط رأسه، وموطن أشعاره ومواويله.. وهناك ارتوي من غناء فاطمة قنديل وعديد ست أبوها! تذكر الأبنودي الشيخ حمزة الذي كان قد أوصاه بترميم الكنيسة التي رآها كنزا لايجب إهماله ثم رفع عينيه في دهشة متسائلا: كيف تغيرنا إلي هذا الحد؟! كررنا عليه سؤاله: ما الذي تغير .. وكيف تفسر ماحدث بنجع حمادي؟! كان عندنا زمان في الصعيد ثعبان كنا نسميه الثعبان الدفان .. وسمي كذلك لأنه ثعبان صغير يظل يمشي تحت التراب حتي يصل إلي هدفه ويقوم بلدغه ثم العودة إلي التراب مرة أخري .. فلا يستطيع أحد أن يراه أو يمسكه! كذلك الفتنة تسير تحت تراب مصر الآن ولا أحد يراها، إلا عند حدوث الكارثة.. وأنا أري أن مانراه سببه أن كل القضايا المهمة في مصر بعيدة عن المعالجات الحقيقية والجوهرية .. والدولة في حالة تأجيل دائم لمواجهة المشاكل .. وهناك تقصير وتكاسل شديد، وقصور في النظر للمشاكل الجوهرية التي تبدأ من لقمة الخبز وتنتهي عند مصادمات الحدود.. وتبدأ بميكروفونات الجوامع وتنتهي بأحداث نجع حمادي المحزنة ولا يتدخل أي مسئول لإيقاف الأخطاء فأصبحنا نجد المشاكل قد حلت من تلقاء نفسها وكأنه لايوجد مواطنون هم الأصل في الوطن! مما نعاني بالضبط! - نحن نعاني من مشكلة التعصب الديني .. والتطرف هو طرح حقيقي لغياب أجهزة الدولة في ظل وجود من ينفخون في النار من الداخل ومن الخارج خلال الفضائيات التي تضخ فكرا مسموما وخطباء المساجد الذين أشعلوا نيران الفتنة .. فأصبحت أحداث نجع حمادي مجرد طرح بسيط لهذه الإثارة والجهل .. وأظن أن النتاج الحقيقي لأفكارهم لم يظهر حتي الآن وسنجني ثمارا أصعب مما نجنيه الآن. إذن .. أنت تري أن هناك احتقاناً داخل الشارع؟! مصر لم تكن بها مثل هذه الحزازيات من قبل.. ولم يكن هناك احتقان والأمر لم يكن بهذه الصورة في طفولتنا أو شبابنا وعندما أتأمل هذه الحال أسأل نفسي بجنون كيف تغيرت مصر إلي هذا الحد.. ونحن نشاهد كأن هذا يحدث في بلد آخر؟! وعندما كنا صغارا لم نكن فقط نشارك المسيحيين أعيادهم ولكننا كنا نستولي علي تلك الأعياد .. مثل أعياد الغطاس وسبت النور ودميانة.. وكنا نسبقهم إلي الأديرة والكنائس في تلك الأماكن التي يحدث فيها الآن قتل فكيف أصبح الطفل بفضل فضائيات الفتنة يربي علي أن الآخر كافر وأنه سوف يدخل النار ويتحدث علماؤنا بقضايا مثل الجزية وتعود كلمات مثل أهل الكتاب وأهل الذمة وتصبح المواطنة التي وردت في أول مواد الدستور ليس لها مضمون أو معني فعلماء الغرب صعدوا إلي القمر.. ويبنون مستعمرات هناك وعلماؤنا مازالوا يختلفون حول تقصير الجلباب وإطلاق اللحية ونقاب المرأة وإرضاع الكبير هؤلاء يصفهم الإعلام بأنهم علماؤنا الأجلاء في حين أن علماء الغرب أيضا علماء ولكن شتان!! قلت إن هناك غيابا للدولة كيف تري دور الدولة في معالجة تلك الأحداث؟ علي الدولة أن تنتبه إلي أن وظيفتها الأساسية وأمنها القومي هو في الداخل مثله مثل الخارج .. وإذا تهلهل الثوب الذي نرتديه في البيت فكيف نجرؤ علي الخروج للخارج .. وكل ما يحدث الآن من مباغتات وأزمات مثل الجزائر ورصاص رفح وقتلي بني سويف هو نتاج عادي وطبيعي للإهمال .. ونحن مسئولون عنه تماما .. لقد قال لي شاب من الإسماعيلية أن عملية القتل تلك حدثت لأن الشاب المسيحي الذي اغتصب الفتاة المسلمة كان بين هؤلاء الستة الذين قتلوا .. وهذه الشائعات أصبحت لا تحتمل فهناك أمهات فقدن أولادهن دون ذنب أنا أري أنه لابد من تقنين مساحة ونوعية البرامج الدينية وبرامج الإفتاء في الداخل علي الأقل لأننا لا نستطيع أن نحكمها في الخارج.. فالآن لم يعد المسلمون يكتفون بفتوي واحدة وكأن لكل مسلم إسلامه الخاص! ولم يعد هناك مسلمان يتطابقان في إسلامهما وسلوكهما كما أن الإعلام بصورته الجديدة أصبح الوسيلة السهلة التي تلعب فيها تلك التنظميات بلاضمير.. وهذا الخلط المتعسف بين الدين والدولة سوف يؤدي إلي كثير من الأزمات. هل أصبحت الصورة مليئة بالرتوش داخل قنا؟ يكفي أن أقول إنني عندما نزلت إلي قريتي منذ 10 سنوات .. قال لي الحاج حمزة أبو يوسف نريدك أن تكتب لنا طلبا كي يرمموا مسجد العمري بقوص الذي يعد من أقدم المساجد وكذلك طلبا آخر لترميم كنيسة أبنود التي صار منظرها يثير الرثاء ولا يليق بها هذا الشكل. وقال لي هذه كنيسة قديمة وعريقة ولا يمكن أن نتركها بهذا الشكل.. فأين تلك الرؤية الآن؟!.. فمؤخرا عندما زرت قريتي والقري المجاورة وجدت الأحوال تبدلت ولا أظن أننا قد نجد مثل سماحة الحاج حمزة! ولكن أين دور المثقفين من التوعية والتنوير والتحذير؟! الفتنة مثل النار في الهشيم والحق لم نتخيل في يوم من الأيام أن يكون هذا هو حال البلد فعندما كتبت أغنية المسيح عام 1968 بعد النكسة ولحنها بليغ حمدي وتعني بها عبدالحليم فكانت كالنور في ظلام النكسة .. لم أكن أتصور لحظة سنة 68 أني لا أستطيع أن اكتب مثل هذه الأغنية في 2010 في ظل هذا التطرف والحصار الغبي علي الأفكار والإبداع فلابد من تنمية دور الفن ولابد من إقامة مجلس قومي يضم في عضويته المثقفين ورموز المجتمع للوقوف علي أسباب ماحدث حتي لا تتحول بلادنا إلي اليمن أو أفغانستان أو الصومال أو السودان .. وكذلك دراسة التفتت الذي حدث لنا فالمشكلة الآن لاتقف عند حدود المسلمين والأقباط فظهرت أيضا أفكار البداوة والقبلية وبدأت تطل برؤوسها بصورة مخيفة!