كتب: محمد الدمرداش العقالى ثورة الياسمين بتونس الخضراء مهد ثورات «الربيع العربي» وصاحبة العبق الأول في تعطير أجواء الحرية العربية.. وتنم أحداثها ونتائجها وفق المعايير الديمقراطية عن عمق الوعي لدي الشعب التونسي ورغبته الحقيقية في التغيير والمشاركة الجادة، وليس أدل علي ذلك من الإقبال اللافت للنظر علي صناديق الاقتراع الذي تجاوزت نسبته التسعين بالمائة من المسجلين في القوائم الانتخابية، فضلا عن مشاركة أكثر من 500 أجنبي في مراقبتها، إضافة إلي 5000 مراقب تونسي، وقد جرت هذه الانتخابات بهدوء لم تعكره سوي بعض الخروق الجانبية غير المؤثرة، وهي خروق اقتصرت علي مواصلة أعمال الدعاية أثناء عملية الاقتراع. وكان من ثمار هذه المشاركة الجادة تطويق أعناق حزب النهضة بأزهار ثورة الياسمين بأكثرية ساحقة من المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي الذي سيتولي صياغة دستور جديد للبلاد وتشكيل حكومة مؤقتة، ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.. كما حصدت الحركة ثمرة أهم من وجهة نظري بحصولها علي (10) من أصل (18) مقعدًا من المقاعد المخصصة للجالية التونسية في الخارج، وهو الأمر الذي فاجأ المراقبين الغربيين لأن المفترض بأبناء الجالية، وأكثرهم في أوروبا وفرنسا خصوصاً، أن يكونوا أكثر ميلاً لمنح أصواتهم إلي المرشحين العلمانيين، خاصة أن دوائر الإعلام الغربية لاسيما الفرنسية لم تتوقف عن دعم العلمانيين المتطرفين في المغرب العربي، والتعاطف مع التيار اليساري وكذلك عن التبشير بسقف العشرين في المائة الذي لن تتجاوزه حركة النهضة في تونس، فضلا عن ملاحقة كل كلمة يقولها زعيم الحركة الشيخ راشد الغنوشي أو سواه من قادتها، واصطياد ما يمكن اصطياده من تأويل خاطئ بغية تحريض الداخل والخارج عليها. ومن ثم أثار فوز حركة النهضة الساحق بخطابها الإسلامي المعتدل ارتباك الكثيرين، ولم تشفع ثمانون عاماً من فصل الدين عن الحياة اليومية في تونس وتربية مواطنيها علي العلمانية عن تحقيقه، وكان البادي أن أجيال الناخبين التونسيين بمختلف أعمارها وفئاتها قد تعاقبت ونشأت في هذه الأجواء المعادية لكل ما يمت للدين بصلة، غيروا المناهج الإسلامية وألغوا كثيرا من المفاهيم الشرعية الثابتة. وأصّلوا لعادات غربية ليست لها علاقة بالدين الإسلامي، كما أن جُل الشباب التونسيين - وهم أكثرية الناخبين - لم يعايش الحركة وكوادرها منذ أقصيت في مطلع التسعينيات وزج بقادتها وكوادرها في السجون، إلا أن أخبار الحركة ومعتقليها والمطاردات المحمومة التي قام بها الطاغية زين العابدين بن علي لكل ما ومن يمت إليها بصلة، بل مطاردة حالة التدين بكل أشكاله وصوره في بلد الزيتونة، كل ذلك هيأ حالة من التعاطف معها، فضلا عن الحضور القوي والمميز لشيخها راشد الغنوشي المنفي في الخارج في وسائل الإعلام ودوائر الفكر الإسلامي، إلي جانب ما كان يتوافر للحركة من وسائل اتصال مع الجماهير، أظهر التونسيون مارد الكبت والقهر المختبئ في وجدانهم طوال تلك السنين، وأعلنوا للعالم أنهم شعب مسلم لا يمانع من أن يكون خياره السياسي ذا صبغة إسلامية معتدلة تتفق مع الطبيعة التونسية . فضلا عن أن الحركة رغم استهدافها من قوي وتيارات عدة داخلية وخارجية قد استطاعت أن تدير تحالفاتها بذكاء وشفافية، عبر تدشين تحالف مع القوي الوطنية الصاعدة في تونس ما بعد الثورة - وهو للأسف ما يخفق فيه الإخوان المسلمون في مصر - فكانت تحالفات حزب الجبهة مع أحزاب اشتراكية وشيوعية، مثل أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المناضل التاريخي المنصف المرزوقي، وحزب العمال الشيوعي، وهما من الأحزاب شديدة العداء لفلول بن علي وحزبه التجمع الدستوري الوطني، وكذلك الدخول في حوار وتنسيق مع الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة أحمد الشابي، وكل ذلك في سبيل تدشين جبهة قوية تواجه الفلول، وهو ما فشل المشهد السياسي المصري بامتياز في تحقيقه حتي الآن، مما ينذر بكارثة محققة بتسرب أذناب النظام المخلوع وفلوله إلي برلمان الثورة. وليس هناك من شك في أن تصدر الإسلاميين بجدارة للمشهد الانتخابي التونسي سوف يمنحهم فرصة لعب الدور الأهم داخل المجلس الدستوري الوطني المكلف بصياغة دستور لتونس بعد بن علي ولكنه لن يكون مفروشًا بالورد، والأهم أن يبدأ النهضويون بتجنب مساوئ خطاب بعض متصدري المشهد الإسلامي في مصر وأهمها حالة الغرور والعجرفة التي تلعب برءوس بعضهم فيفيضون في الأحاديث الممجوجة ثقيلة الظل عن التمكين وامتلاك الأرض ومن عليها وفرض النموذج الذي يريدون فرضه للإسلام كما يحبون أن يصوغوه أو يفهموه، وأحاديث أخري عن نقاء النوع، وأحسب أن قادة الحركة لن يأخذهم الغرور بالفوز، فهم عايشوا تجارب كثيرة ومريرة لهم ولسواهم من القوي الإسلامية، وسيبذلون كل جهد ممكن من أجل بناء تحالفات مع القوي الوطنية الأخري وصولا إلي حكومة ائتلاف وطني تعبر عن التونسيين وتحقق آمالهم، وهو للحق كان منهجهم في الانتخابات وبعون الله عز وجل يسيرون عليه لبناء تونس الخضراء. والأهم في رأيي أنه مع عدم ترحيب بعض السياسيين التونسيين بهذه النتائج، فإنهم وإزاء الشفافية الكبيرة التي تمت بها العملية الانتخابية والخطاب السياسي المتوازن لحركة النهضة لا يملكون سوي التسليم بأن الخريطة السياسية قد صيغت وفق مراد الشارع التونسي الحقيقي، وهو ما عبر عنه السياسي المخضرم المنصف المرزوقي المعارض الشيوعي الأبرز في عهد زين العابدين وزعيم حزب المؤتمر قائلا: «في كل الأحوال ما يهم هو انه أصبحت لدينا خارطة سياسية حقيقية. لقد حدد الشعب التونسي وزن كل طرف». وما سبق كان عن الشأن التونسي الذي تردد صداه في أرض الكنانة؛ فقد استقبلت القوي الإسلامية في مصر فوز حزب النهضة الإسلامي في تونس بأنه هو أول الغيث.. لاسيما حزب الحرية والعدالة، وهو الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ذات القواسم الأيديولوجية المشتركة مع حزب النهضة التونسي. ويقول بعضهم إن انتصار حزب النهضة سيقوي موقف الإخوان المسلمين المعتدلين في مصر في سباقهم مع فرسي الرهان، سواء الإسلاميين السلفيين المتشددين أصحاب الضجيج الإعلامي الصاخب في الشارع المصري، أو الليبراليين بمختلف توجهاتهم المنقسمين بشدة علي أنفسهم للاستحواذ علي النفوذ في الشارع المصري، ولا ريب انه سيمنح الإخوان نوعا من القوة المعنوية في معركتهم الانتخابية القادمة، لكن الأمل عندي أن يمنحهم قدرة أكبر علي احتواء التيارات السياسية المختلفة معهم، وعدم ممارسة سياسة الإقصاء التي عانوا هم أنفسهم منها سنين عددا، وأن يتصدر المشهد الإعلامي عندهم أصحاب الحذاقة السياسية والرؤية العقلية، وأنا أعلم أن جماعة الإخوان المسلمين بها كُثر من هذه العقليات المفكرة، وان يرحمونا من بعض المنتمين إليها الذين يضرون بصورة الجماعة وتاريخها وحزبها أكثر من كل أبواق الدعاية التي استهدفتهم عقودا وجعلت عقولا وقلوبا محبة لهذا الوطن تترقب وصولهم إلي سدة الحكم بقلق ووجل، لا تفرق بين دعوتهم ومنهجهم وفكرهم، وبين سائر التيارات الإسلامية المتشددة المتسربلة بالفكر الوهابي وكأن لسان حالها يتمتم بقول الشاعر الكميت الأسدي: ياليت ظلْم بني أمية دام لنا ** ياليت عدْل بني العبّاس في النار! وكيل مجلس الدولة ورئيس المحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية