ما نشاهده في مصر يتنافي مع مبادئ المدنية والحداثة ويتناقض تناقضا واضحا مع روح الدستور المصري ذاته وهو المفترض أن يكون "كتاب الوطن" والقانون العام الذي تستمد منه كل المؤسسات بعد ان هدأت -إلي حد ما- عاصفة أحداث دير أبو فانا.. وبدأت ملامح الأزمة في الانفراج مع بداية أولي جلسات اللجنة الخاصة المشكلة لدراسة مشكلة دير أبو فانا تلك المشكلة التي تفجرت بعد إطلاق النيران بطرق عشوائية وغير قانونية بين قيادات ورواد الدير وبعض العربان في المنطقة وذلك بسبب قصة امتلاك الأرض المجاورة للدير والتصريحات المتضاربة من قيادات الدير التي تؤكد أحقيتها بالأرض وأنهم يمتلكون حجتها(أي ملكيتها) وأنهم دفعوا ثمنها ، وبين من يدعي أنها ملك للدولة .. وغير ذلك من الأسباب.. إلا أن الأمر المؤكد في هذه القضية أن أحد أهم أسباب اندلاعها هو اختراق القانون وسيادته، وأن هذا الاحتقان سواء بين الكنيسة وروادها وبين بعض المواطنين من الاعراب المصريين القاطنين بجوارها، أو سواء بين الكنيسة والدولة والأجهزة الأمنية، مرده في المقام الأول غياب سيادة القانون وبالتالي تم أستقطاب المواطنين إلي انتمائهم الأولي والبدائي ألا وهو الانتماء الديني الذي بدوره _ مع ايديولوجيات لذهنيات فقيرة- أدي إلي التمرد والتعصب واختراق القانون.. إضافة إلي الفهم الخاطئ لدور الدين ، سواء دين الاغلبية أو دين الاقليات ومعتقداتهم .. ومايؤدي ذلك بالضرور إلي الفهم الخاطئ أو اختراق أو تجاوز أهم شروط تحقيق استقرار الدولة من خلال سيادة القانون الذي هو إنعكاس لدستورها العام أو "كتابهاالجليل.. كتاب الوطن".. ومن هنا البداية فهناك سؤال جدير بالنقاش، رغم أنه لا توجد إجابة بسيطة بنعم أم لا ... هل الدين يساعد الديمقراطية أم أنه يعوقها؟ ذلك أن الكثير بشأنه يعتمد علي السياق، فليس من الممكن حتي تقسيم ديانات العالم الكبري إلي فئات محكمة الحدود كديانات داعمة للديمقراطية وأخري محايدة، وثالثة تضعف آثارها الديمقراطية، إذ تشتمل جميع الديانات علي مجموعة من النزعات المتنافسة، فتاريخيا نلاحظ أن الديانة تؤيد الحق الإلهي للملوك وتؤيد في الوقت نفسه المذهب الجمهوري القائم علي المساواة ونجد في وقت واحد في إطار دين واحد جماعات ذات نفوذ تعمل علي دعم نظام حكم مستبد، بينما تخاطر جماعات أخري بحياتها لحماية معارضي هذا النظام أو فضح انتهاكاته ... ويمكن القول بأن دينا يتقبل فيه المؤمنون دون تساؤل الحقائق التي تأتيهم من بعض المفسرين القدامي، سيكون أقل بعثا للروح الديمقراطية من نفس الدين الذي تخضع فيه بعض المسائل والخلافات التفسيرية والتأويلية للنقاش، طبعا بما لا يتنافي ولا يتعارض مع الأصول والأساسيات الخاصة بهذا الدين وعقيدته، والأهم من ذلك ستكون العلاقة بين الدين والدولة أوثق وأكثر رحابة وبلا عداء .. ولكن ما نشاهده في مصر يتنافي مع مبادئ المدنية والحداثة ويتناقض تناقضا واضحا مع روح الدستور المصري ذاته وهو المفترض أن يكون "كتاب الوطن" والقانون العام الذي تستمد منه كل المؤسسات، بل والأفراد شرعيتها وليس كتابا دينيا يتم تفسيره وتأويله حسب هوي طوائف ماضوية بعينها أو أيديولوجية فاشية تستقطع من المدنية لتضيف إلي فاشيتها أو ماضويتها، فعبقرية العديد من مواد الدستور المصري تمنح معالم الدولة المدنية، ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح، وتمانع التمييز بكل أنواعه، فكل بنوده في كل أبوابه، عندما يتحدث عن الأفراد يقول المواطن أو المواطنين بلا تمييز أو تصنيف، ولننظر "تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين...الخ" (مادة 8)، "الوظائف العامة حق للمواطنين...الخ" (مادة 14) "لكل مواطن نصيب من الناتج القومي...الخ" (مادة 25)، "المواطنون لدي القانون سواء...الخ" (مادة 40)، "كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامة الإنسان...الخ" (مادة 42)، "لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون...الخ" (مادة (45)، "تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي...الخ" (مادة 49)، "لا يجوز إبعاد أي مواطن...الخ" (مادة 51)، "للمواطنين حق الاجتماع الخاص في هدوء...الخ" (مادة 54)، للمواطن حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي...الخ" (مادة 62)، "لكل مواطن حق الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي...الخ" (مادة 68) .... ومن هنا تكمن أهمية الحفاظ علي هذه الشرعية والتي تؤكدها المادة الأولي "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة" .. وبالتالي تتلاقي المواطنة مع المدنية، وتنتفي كل أشكال التمييز وذلك بحماية دستورية وبقوة سيادة القانون، إلا أن هناك اختراقا لهذه الشرعية علي يد جماعات ألفت البغضاء والانقسامية وأدمنت التعصب والطائفية .. فالطائفية هي إفراز للتعصب، وهو الاعتقاد الباطل بأن الإنسان يحتكر لنفسه الحقيقة وغيره يفتقر إليها وله عدة أوجه فهناك التعصب العنصري والتعصب القومي والتعصب الديني وكل هؤلاء يشتركون في سمة واحدة وهي الانحياز إلي موقف جماعتهم التي ينتمون إليها دون تفكير وإغلاق أبواب العقل ونوافذه إغلاقا محكما حتي لا تقفز إليه نسمة من الحرية ... إن كل المواد الدستورية التي أشرنا إليها توفر ضمانات معينة لجماعات الأقليات دينية كانت أو ثقافية أو قومية أو عرقية أو لغوية، فلهذه الأقليات كل الحق ليس فقط في أن تعترف الدولة بوجودها، بل وأيضا أن تحمي هويتها الخاصة أن تهيئ الظروف المناسبة لتعزيز تلك الهوية، وللأشخاص المنتمين إلي أقليات كامل الحقوق الديمقراطية بما في ذلك حق المشاركة علي قدم المساواة في كل الشئون بل والمشاركة في القرارات التي تمس جماعاتهم الخاصة أو المناطق التي يعيشون فيها، وبالتالي تنتفي هنا فكرة طائفية أي جماعة أقلية في ظل مجتمع ديمقراطي، أو مجتمع يسعي للولوج للديمقراطية، فمن حق _ ودستوريا- أي مواطن أو جماعة أن تعبر عما تعانيه أو تناله من أذي أو تحقير أو أن يحَط من قدر عقائدهم وديانتهم... ويجب أن نعترف أن الديمقراطية ليست فقط إتاحة أوسع الفرص للمشاركة في صناعة القرارات الوطنية وفسح المجال لتداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب وإنما هي أيضا أنجح السبل لتحقيق أكبر قدر من التجانس والاندماج في المجتمع الوطني من خلال كل أفراده وجماعاته وطوائفه ودياناته وعقائده .. وبذلك تكون العلاقة بين الدين والدولة أوثق وأكثر رحابة وبلا عداء... ولذلك لابد من كل قوي المجتمع الرشيدة والنشطاء الحقوقيين والسياسيين والحزبيين وعامة المثقفين أن يناضلوا من أجل ترسيخ وإعلاء هذه القيم المدنية التي تمانع التمييز والطائفية وأن الدستور المصري به ما يمنحنا القوة والشرعية للنضال من أجل المدنية وسحق كل من ينتمون إلي فضائح التمييز والطائفية.