توشك الغربة الطويلة التي عانتها قضايا المجال الخاص في النقاشات المعاصرة أن تنتهي. فها هي مصر تخوض معركة حامية حول أحد الأحكام القضائية الخاصة بالزواج الثاني للأقباط الأرثوذكس. ويفرض سؤال الحاضر نفسه كيف يمكن لموضوع خاص هو طلاق شخص ما أن يثير كل هذه النقاشات حول قضايا الدولة المدنية والمواطنة. تاريخيا لم يضع الفضاء الثقافي في مصر تلك الحدود الصارمة ما بين قضايا المجال الخاص وقضايا المجال العام. كان الرواد يناقشون قضايا الاستقلال الوطني في نفس الوقت الذي يناقشون فيه قضايا الزواج المبكر. زكريا نامق مثال حي علي ذلك. ففي عام 1914 أحدث نامق ( 1867 - 1943)-وهو محامي وقاضي سابق وشاعر أيضا- ضجة جديدة تتعلق بوضع النساء المصريات وذلك بعد أكثر من عقد من الزمان علي الضجة التي أحدثها كتابا قاسم أمين المرأة الجديدة وتحرير المرأة. محور الضجة هذه المرة كان في مشروع قانون أعده نامق- الذي كان يحمل رتبة البكوية- والخاص برفع الحد الأدني لسن زواج الإناث إلي 16 عاما. أثار مشروع القانون اعتراضات شديدة رصدتها الصحف. فالقطاع المحافظ في المجتمع لم يكن يري في الزواج المبكر ضررا، وحجته في ذلك أنه صون للفضيلة وأن النبي (ص) كان قد تزوج من السيدة عائشة رضي الله عنها وعمرها تسع سنوات. وفي المقابل أشارت رسائل القراء إلي صحيفة الأهرام خاصة إلي تبلور مزاج عام يربط، بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع مشروع نامق، بين الزواج وبين عملية بناء أمة مصرية عصرية وقوية.
مشروع قانون نامق تحول بعد الثورة المصرية إلي قانون فعلي (القانون 56 لسنة 1923) الذي حدد الحد الأدني للزواج ب 16 عاما للإناث و18 للذكور. يلفت النظر في الجدل حول مشروع نامق ثلاث ملاحظات عامة تكشف عن بعض خصائص المرحلة التي جري العرف علي تسميتها بالفترة الليبرالية في التاريخ المصري. أول هذه الملاحظات هي العناية الفائقة التي أولاها المصلحون السياسيون والاجتماعيون لقضايا المجال الخاص حتي في غمرة انشغالهم بقضايا المجال العام وفي مقدمتها قضية الاستقلال الوطني. زكريا بك نامق مثال واضح علي ذلك. شغل نامق عضوية لجنة وضع دستور 1923، وشاع صيته كشاعر وقاضي ومحام. استغل نامق معرفته العميقة بالشريعة الإسلامية كدارس سابق في الأزهر قبل الالتحاق بكلية الحقوق من أجل وضع قانون يراعي التغيرات الاجتماعية ولا يتنافي في نفس الوقت مع روح الشريعة الإسلامية. كانت رغبة نامق ممثلة في إصلاح حال الأمة المصرية عن طريق تعديل أوضاع مؤسسة الزواج. وهي نفس الرغبة التي عبر عنها مصلحون مسيحيون ويهود. فمثلا الجدل الحالي حول لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الارثوذكس الصادرة عام 1938، يغفل الظرف التاريخي والوطني والاجتماعي الذي خرجت فيه هذه اللائحة. كانت اللائحة مجرد محاولة من المصلحين الأقباط لمسايرة التحولات المجتمعية التي تعصف بمصر الحديثة. فأكدوا مثلا علي مفهوم "المرأة (المسيحية) الرشيدة" التي تقبض مهرها، وتتصرف فيه كما يحلو لها. وكان توسع اللائحة في أسباب الطلاق نتيجة لتحولات لم تكن موجودة من قبل علي غرار التغير الحادث في شكل الجرائم وعقوباتها (يقع الطلاق حسب اللائحة في حال الحكم علي أحد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن أو الحبس لمدة سبع سنوات فأكثر). نفس هذه الجهود بلورها مراد فرج المحامي في تقنين الأحوال الشخصية لطائفة اليهود القرائيين علي غرار تكويد الأحوال الشخصية لليهود الربانيين. وهنا تأتي الملاحظة الثالثة وهي الصعود القوي للأصوات التي آمنت بدور القانون في التغيير الاجتماعي. تنامت هذه الأصوات نتيجة للتحولات التي أنتجتها ثورة 1919. فقد أنتجت هذه الثورة دولة جديدة تفاعلت مع مؤسسة البرلمان التي تمارس في واحدة من زظائفها عملية إنتاج القانون الذي يهدف حالة الأحوال الشخصية تنظيم وتأميم مجال جديد للأسرة المصرية بحيث تصبح أكثر عصرية وحداثة. رغب المصلحون السياسيون إذن في خلق أسرة نووية تعبر عن دولة قومية جديدة جديرة باستقلال كامل عن بريطانيا. هذه الفكرة، أي تنظيم المجال الخاص علي الطراز الحديث، كانت مركزية في دارسات ما بعد الكولونيالية خاصة تلك التي فحصت طبيعة النضالات القومية في الهند وعلاقتها بممارسات الزواج والطلاق. استغلت حنان خلوصي التي تشغل الآن منصب أستاذ مساعد التاريخ ودراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية في القاهرة. هذا الخط الناظم ما بين الأسرة والدولة القومية وحاولت تطبيقه علي الحالة المصرية. وفي كتابها الصادر هذا العام عن دار نشر جامعة ستانفورد والواقع في 188 صفحة من القطع المتوسط والمعنون "في السراء والضراء: أزمة الزواج وتشكيل مصر الحديثة"، تجادل خلوصي بأن التحولات التي عصفت بمؤسسة الزواج في مصر تقدم فرصة للنظر في طبيعة تكوين الدولة القومية المصرية الطامحة إلي التخلص من نير الاستعمار. وعلي مدار فصول الكتاب الخمس فضلا عن الخاتمة تحاول خلوصي النظر إلي مؤسسة الزواج والطرق التي حاولت بها الدولة تأميم هذه المؤسسة (الأسرة النووية الصغيرة) بغية خلق أمة عصرية (ص ص 10 و11).
يغطي الفصل الأول إطارا نظريا عاما لفكرة الزواج وعلاقته بالدولة القومية وتبدأ من لحظة في عام 1929 والتي شاع خلالها مصطلح "أزمة الزواج" لدي الطبقة الوسطي الحضرية في مصر. وحسب خلوصي فقد توازت هذه النقاشات مع الأزمة السياسية فترة ما بين الحربين، حيث فقد الوفد زعيمه التاريخي سعد زغلول الأمر الذي ألقي بظلاله علي مستقبل قضية الاستقلال الوطني ، فضلا عن تأثير الأزمة المالية العالمية العاصف علي المجتمع. مبكرا للغاية وفي الصفحة الثانية من الكتاب تستنتج خلوصي أن الزواج كان بمثابة استعارة لنقد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعصف بدولة تحاول التخلص من ربقة الاستعمار وربقة الأمراض الاجتماعية التي تهددها. فعلي سبيل المثال، عرضت خلوصي لبعض هذه الأمراض الاجتماعية التي طرحها مصطفي صادق الرافعي في مقال شهير له حمل عنوان "استنوق الجمل" ونشره في مجلة الرسالة 24 سبتمبر عام 1934. الرافعي مثقف محافظ حسبما عرفته خلوصي بكلمات جد مقتضبة، بعد أن أوردت اقتباسا من مقاله ترجمته بتصرف شديد من النص الأصلي. يشبه، الرافعي في مقالة "استنوق الجمل"، وهنا أورد النص الذي نشره في الجزء الأول من كتابه وحي القلم، الشاب العازف عن الزواج بالجندي الذي يهرب من