كتب المستشار طارق البشري دراسة جدلية مهمة تم نشرها الأسبوع الماضي علي مدار ثلاث حلقات من 23 إلي 25 أكتوبر الماضي بجريدة «الشروق» تحت عنوان (الإدارة الكنسية.. بين الجماعة الوطنية ونظام الملة).. حيث تناول فيها بالنقاش العديد من القضايا الطائفية.. تناول العديد من القضايا علي غرار: قضية وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، وقضية استقواء الكنيسة، وعلاقة الكنيسة بأجهزة الدولة.. وكنت أرجو أن يكون ذلك في إطار طرح الموضوع للنقاش أمام الجماعة الوطنية المصرية بمسيحييها ومسلميها.. خاصة أن المقالات جاءت من خلال المنطق المغاير لاتجاهات طارق البشري نفسه، حيث كان حريصا من قبل علي الترويج لمنطق دولة القانون في مواجهة نظام الملة الطائفي. ويبقي السؤال: هل المطلوب هو مرجعية الدولة الدينية الطائفية أم دولة المواطنة المدنية.؟!. وسوف أتناول ما جاء بمقالات طارق البشري الثلاث من خلال عدة محاور رئيسية، هي: الأفكار الجدلية التي أختلف معه فيها، والأسئلة المعلقة التي طرحها، والشائعات التي اعتمد عليها ثم أتناول في النهاية بعض المفارقات. أولاً: الأفكار الجدلية - إنه لا يجوز أن يباشر الرئيس الديني (في إشارة للبابا شنودة الثالث) اختصاصه بمنأي عن رقابة القضاء. وهو طرح لا جدال أو خلاف عليه. ولكن المشكلة تكمن إذا حدث تعارض بين ما هو ديني وما هو قانوني.. وبمعني آخر، ما الحل إذا حدث تداخل وتشابك مضاد بين ما هو ضمن السلطة الروحية للمؤسسة الدينية المسيحية وبين ما يندرج تحت السلطة القضائية؟ هناك فرق بين رفض تنفيذ أحكام القضاء بوجه عام، وبين رفض حكم معين يتعارض مع عقيدة الكنيسة حسبما تري بوجه خاص.. فضلاً عن أن هناك اعتراضا واضحا من الكنيسة علي لائحة 38 التي تستند إليها المحكمة من الأصل. إن الحديث عن أن الأزهر الشريف ينفذ أحكام القضاء حتي لو تعارض الحكم مع الشريعة الإسلامية مثل قضية فوائد البنوك، والعكس مع الكنيسة هو حكم غير دقيق لاختلاف طبيعة الحكمين بالدرجة الأولي وعدم تكافؤ المقارنة بينهما.. فأي أحكام مالية قابلة للتنفيذ حتي لو خالفت الشريعة لأن تأثيرها محدود، أما في قضايا الأحوال الشخصية فيمتد التأثير للأسرة والأطفال، بمعني هل يمكن أن ينفذ الأزهر حكما قضائيا يبيح الزواج بخمس زوجات أو الجمع بين أختين؟ وهل إذا سكت الأزهر سيسكت المستشار البشري نفسه مطالبا بتنفيذ الحكم؟.. كما أن الكنيسة تقوم بتنفيذ أحكام عديدة. غير أن حكم الأحوال الشخصية - كما قلنا - حكم يتعارض مع رأي يرتكز علي تفسير بعض آيات الكتاب المقدس. وربما يكون تعدد الاجتهادات في تفسير الشريعة الإسلامية هو ما يسمح للأزهر الشريف بتنفيذ مثل الحكم السابق، فهناك فتاوي متباينة حول تحريم وتحليل فوائد البنوك، وهو ما لا يوجد في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية حيث لا توجد آراء متباينة أو متعارضة في الطلاق. لقد كنت أتصور أن يتبني طارق البشري الأمر بشكل مغاير يؤكد فيه أهمية دعم الكنيسة باجتهاد قانوني يحل المشكلة المرتكزة عن الصدام بين الحكم القانوني وبين النص الديني.. خاصة أن حديثه عن عدم تنفيذ أحكام القضاء هو تصريح منقوص لأن الكنيسة تحترم أحكام الطلاق التي تمنحها المحكمة، ولكنها ترفض الأحكام التي صدرت بخصوص إلزام الكنيسة بتزويج المطلقين لارتباطها بنص من الكتاب المقدس حيث تقول الآية بوضوح (إنه لا طلاق إلا لعلة الزني). - ربط تصريح الزواج في الكنيسة باستخراج البطاقة الانتخابية.. وهو ما اعترض عليه البشري. ولكنني أعتقد أنه هدف نبيل للمشاركة والتفاعل والخروج من (القوقعة) الطائفية. ثانياً: الأسئلة المعلقة استخدم طارق البشري في مقالاته العديد من الأفكار في شكل أسئلة معلقة.. رغم أن مضمون مقالاته قد حسمها بشكل سلبي في مجمل الأحوال. ويمكن تلخيصها في سؤال واحد هو: هل أصبحت الكنيسة بديلة عن الدولة المصرية بالنسبة للمواطن المسيحي المصري في مدي حدود سلطتها عليه، وعلاقة تلك السلطة بسلطة الدولة؟ ومن الواضح أن كل تلك التعبيرات تشير في ظاهر الأمر إلي (تضخيم) دور الكنيسة، ولكن في المضمون الأساسي تنتهي بمسألة (تقزيم) دور الدولة المصرية، وتكريس الفكرة التي تتبناها جماعة الإخوان المحظورة من أن الدولة المصرية قد ضعفت وانتهت، وهو ما يعتبر ضد الواقع الحالي بجميع أشكاله. إن ما سبق، هو نفسه ما كتبه طارق البشري بعبارات مشابهة أثناء أزمة وفاء قسطنطين، ثم تكرر بعد ذلك مع أزمة كاميليا شحاتة. ولقد كان يجب علي طارق البشري أن يطالب بحكم كونه قاضيا سابقا أن يتم تقنين إجراءات تغيير الدين بحيث يصبح تحت سلطة القانون وحمايته.. بدلاً من ترويج ما يقوله الشارع المصري في هذا الصدد.. خاصة أنه يعلم جيداً أن وفاء قسطنطين قد تم استجوابها من خلال النيابة العامة، حيث أعلنت تمسكها بالمسيحية، كما أن كاميليا شحاتة.. لم تغير دينها من الأصل. ولقد كنت أتمني أن يكون عتاب طارق البشري في هذه القضية علي عدم تحويلها مع زوجها القس تداوس سمعان والأسقف التابع له للنيابة العامة للتحقيق معهم.. بتهمة تكدير الرأي العام وإثارة الفتنة الطائفية. وهو ما لم لا يمكن أن يختلف فيه معه أي مواطن مصري حقيقي. والملاحظ، إن طارق البشري قد أهمل تماماً.. أولوية التأكيد علي أهمية حرية الاعتقاد، وكيف يمكن اتخاذ خطوات قانونية واضحة لغلق هذا الملف الشائك تماماً.. بعد أن أصبحت حرية الاعتقاد أحد أهم أسباب التوترات الطائفية خلال السنوات الخمس الماضية. إن الافتراض الوهمي الذي ليس له أساس من الصحة حول اتهام الدولة أو الأجهزة الأمنية بأنها متحيزة هو اتهام يتم تضخيمه وترويجه لصالح المتشددين من الطرفين (المسيحي والإسلامي) لأنه لا يمكن أن تكون أجهزة الدولة طائفية أو متواطئة مع طرف مصري ضد طرف مصري ثانٍ لمجرد اختلاف ديانته، ورغم كل الملاحظات عليها.. فهي الحصن ضد الطائفية. ولقد كان يمكن أن تستخدم الدولة المصرية بأجهزتها المتعددة أسلوب العصف أو البطش في معالجة الأزمات الطائفية.. ولكنها استخدمت السيناريو الأفضل سياسياً واجتماعياً، وهو أسلوب الحكمة الحاسمة والحازمة في المعالجة. ثالثاً: الشائعات وهي القصص التي روجت لها بعض الجرائد السوداء (وفي مقدمتها جريدة صوت الأمة) بدون تدقيق أو تحقيق، وهي القصص التي اعتمد عليها طارق البشري في تأكيد بعض تصوراته بالشكل الذي يتناسب مع توجه ما كتبه. العجيب في أمر طارق البشري، أنه كتب أحداثاً ليس لها أساس من الصحة أو وقائع محددة سوي كونها كلاما مرسلا يعتمد علي بعض القضايا التي نشرت في جرائد سوداء تروج للطائفية بدون أي معلومات دقيقة ومحددة وهي (غلطة) كبيرة، ترتب عليها وكأنه لا يوجد كيان اسمه الدولة المصرية بأجهزتها المتعددة ومسئوليتها المنظمة، والتي أكد عليها طارق البشري أكثر من مرة في مقالاته. وفي تقديري، إن المقارنة بين تحريم الدولة للعمل السياسي للمواطن المسلم، وإباحته للمواطن المسيحي هو نوع من الترويج لبعض عبارات الاستهلاك الإعلامي، لأنه من المعلوم جيداً أن الدولة المصرية هي دولة مركزية قوية.. لا يمكن أن تمنح جزءا من مواطنيها الحق في منازعتها علي سياسة الحكم بهذا الشكل الذي يشير إليه طارق البشري.. فالمسيحية في مصر لا تسير وفق المصالح والأهداف السياسية الخاصة، وليس لديها برنامج أو طموح سياسي للوصول للحكم علي غرار العديد من التيارات الإسلامية. وأعتقد أن التجارب السلبية لحكم الإسلام السياسي - بداية من إيران، ومروراً بالسودان والجزائر، وصولاً إلي أفغانستان - هو الذي جعل النخب المثقفة تطالب بفصل الدين عن الدولة. أما اعتماد طارق البشري القاضي المدقق علي ما نشرته جريدة «صوت الأمة» حول وجود تنظيمات مسيحية فهو أمر جلل لأنه يفترض من الأصل وجود مثل تلك التنظيمات رغم عدم وجود معلومات مدققة عنها، وهو ما يظهر من خلال خلطه بين أسماء بعض المواقع الإلكترونية (علي غرار: صوت المسيحي الحر والأقباط الأحرار)، وبين جماعة الأمة القبطية. وإذا افترضنا وجودها بالفعل، فقد كان يجب علي طارق البشري أن يجيب عن بعض الأسئلة المرتبطة بهذا الأمر، ومنها: - هل هذه التنظيمات سياسية أم أن نطاقها داخل الكنيسة؟ - كيف يمكن معرفة هذه الأرقام المحددة جداً؟ - هل قامت هذه التنظيمات بأي عمل خارج علي القانون أو متجاوز له.. مع العلم أن جماعة الأمة القبطية قد تم التعامل معها قانونياً؟ - وهل الأجهزة الأمنية المصرية.. متغافلة عن تلك الجماعات الخارجة علي القانون كما أوحي البشري في كلماته؟ إن خطورة تناول مثل تلك الشائعات بدون تدقيق.. هو بمثابة تحريض فكري وديني وسياسي للشباب المسلم المصري لتأسيس جماعات مقابلة للوصول لحرب طائفية بين أبناء هذا الوطن. مفارقات.. إنها مفارقات رصدتها من مجمل مقالات طارق البشري، ومنها: - استشهد طارق البشري بما صرح به البابا بأنه لا يجوز تولي مسيحي رئاسة الجمهورية لأن الغالبية العددية مسلمة ولا يجوز أن يحكمها قبطي ليمثل الأغلبية العددية.. هي طريقة الجماعات الدينية الإسلامية في هذا الشأن. وهو ما يعني ببساطة أن المواقف قد تبدلت وتغيرت.. فالبابا والكنيسة التي تطمح في الدولة المدنية.. تطالب بتطبيق مفهوم الملة والاحتكام للشريعة الإسلامية. في الوقت نفسه الذي ينتقد فيه طارق البشري - صاحب الإسهامات والاجتهادات في سبيل تحقيق مشروع الإسلام الحضاري المرتكز علي الشريعة الإسلامية - موقف البابا، ويتجاوزه بالمطالبة بدولة القانون المتباينة إلي حد كبير مع مشروعه الفكري الديني. رغم أن اختصاص الكنيسة بمسألة الأحوال الشخصية لأتباعها.. كان يعتبر عند الفقهاء المسلمين من أهم مزايا الفكر الإسلامي.. والتي يتراجع عنها طارق البشري الآن. - ينتقد طارق البشري موقف البابا شنودة الثالث والكنيسة في التعامل مع الدولة باعتبارها كياناً واحداً، وليست عدة مؤسسات.. وفي الوقت نفسه نجده يتعامل مع المواطنين المسيحيين المصريين بمدخل اختزالهم بشكل مخل في الإدارة الكنسية. وهو حكم غير منصف يتجاهل الخريطة الفكرية والسياسية لهؤلاء المواطنين في سبيل الحكم عليهم باعتبارهم فريقا واحدا متجانسا يسير وفق التوجه الكنسي. - إن الحديث عن مناشدة البابا والكنيسة للرئيس هو حق مشروع باعتباره السلطة العليا في مؤسسات الدولة المصرية.. خاصة أن هذا الأسلوب هو المتبع بسبب تخاذل البعض في أجهزة الدولة في ممارسة اختصاصاتهم ومسئولياتهم، وهو ما نجده يومياً في مشكلات عديدة. وأعتقد أن اللجوء لرئيس الجمهورية أفضل وطنياً من الابتزاز السياسي الذي احترف البعض اللجوء إليه للضغط علي السياسة المصرية من خلال علاقات معقدة مع بعض أعضاء من الكونجرس الأمريكي أو مع جماعات غير شرعية في دول مجاورة أو مع دول لها أجندتها الخاصة مثل إيران. - استخدم طارق البشري الأسلوب نفسه الذي يعترض عليه في حديث البابا شنودة الثالث للحديث عن نسب الأرقام لتعداد المسيحيين المصريين.. فالأول أشار إلي أقلية عددهم، والثاني صرح بامتلاك الكنيسة للرقم الحقيقي للتعداد. إنهما في النهاية وجهان لعملة واحدة حسب التوجه الذي يعترض عليه البشري نفسه.. وكأن الأمر يتحدد ويختلف حسب نسبة المسيحيين المصريين. وهو في النهاية؛ حديث يخل بسياق المواطنة المصري. - اتخذ طارق البشري من القضية الطائفية سبباً للهجوم علي الدولة بشكل غير مباشر، حيث استخدم الكنيسة المصرية كوسيلة لضرب الدولة المصرية. وهو ما يتسق مع مقالاته التي كتبها خلال السنوات الثلاث الأخيرة بالترويج لضعفها وانهيارها، وديكتاتوريتها واستبدادها.. لتكون الدولة الدينية هي البديل الشرعي الذي يمكن الوصول إليها من بين سطور دراسته التي تنتصر للدولة الدينية ضمنياً، وتروج لدولة القانون ودولة المواطنة ظاهرياً. - ملاحظة أخيرة، وهي أن تكرار الأفكار وصياغتها.. يرسخها باعتبارها حقيقة رغم عدم صحة ذلك، كما يؤدي ذلك إلي تكرار الرد علي الأفكار نفسها مرة أخري. وهو ما ينطبق علي دراسة طارق البشري المنشورة مؤخراً بجريدة «الشروق»، والتي لم تخرج عن سياق ما نشره قبل ذلك بجريدة «الأسبوع» بتاريخ 10 يناير 2005 و7 فبراير 2005 ، أو بحوارات في كل من: جريدة «آفاق عربية» بتاريخ 30 ديسمبر ,2004 ومجلة «الأهرام العربي» بتاريخ 15 يناير 2005 . •• أخشي أن يكون المستشار طارق البشري قد استخدم أدواته لتأكيد الدولة الدينية في مواجهة دولة المواطنة بشكل لا لبس فيه ولا جدال.