هناك سؤال جدير بالنقاش، رغم أنه لا توجد إجابة بسيطة بنعم أم لا.. هل الدين يساعد الديمقراطية أم أنه يعوقها؟ ذلك أن الكثير بشأنه يعتمد على السياق، فليس من الممكن حتى تقسيم ديانات العالم الكبرى إلى فئات محكمة الحدود كديانات داعمة للديمقراطية وأخرى محايدة، وثالثة تضعف آثارها الديمقراطية، إذ تشتمل جميع الديانات على مجموعة من النزعات المتنافسة. فتاريخيا نلاحظ أن الديانة تؤيد الحق الإلهى للملوك وتؤيد فى الوقت نفسه المذهب الجمهورى القائم على المساواة، ونجد فى وقت واحد فى إطار دين واحد جماعات ذات نفوذ تعمل على دعم نظام حكم مستبد، بينما تخاطر جماعات أخرى بحياتها لحماية معارضى هذا النظام أو فضح انتهاكاته.. ويمكن القول بأن ديناً يتقبل فيه المؤمنون دون تساؤل الحقائق التى تأتيهم من بعض المفسرين القدامى، سيكون أقل بعثا للروح الديمقراطية من نفس الدين الذى تخضع فيه بعض المسائل والخلافات التفسيرية والتأويلية للنقاش، طبعا بما لا يتنافى ولا يتعارض مع الأصول والأساسيات الخاصة بهذا الدين وعقيدته، والأهم من ذلك ستكون العلاقة بين الدين والدولة أوثق وأكثر رحابة وبلا عداء. ولكن ما نشاهده فى مصر يتنافى مع مبادئ المدنية والحداثة ويتناقض تناقضا واضحا مع روح الدستور المصرى ذاته، وهو المفترض أن يكون "كتاب الوطن" والقانون العام الذى تستمد منه جميع المؤسسات، بل والأفراد، شرعيتها، وليس كتابا دينيا يتم تفسيره وتأويله حسب هوى طوائف ماضوية بعينها أو أيديولوجية فاشية تستقطع من المدنية لتضيف إلى فاشيتها أو ماضويتها، ، فعبقرية العديد من مواد الدستور المصرى تمنح معالم الدولة المدنية، ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح، وتمانع التمييز بجميع أنواعه، فجميع بنوده فى جميع أبوابه، عندما يتحدث عن الأفراد يقول المواطن أو المواطنين بلا تمييز أو تصنيف. ولننظر "تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين.. الخ" (مادة 8)، "الوظائف العامة حق للمواطنين.. الخ" (مادة 14) "لكل مواطن نصيب من الناتج القومى.. الخ" (مادة 25)، "المواطنون لدى القانون سواء.. الخ" (مادة 40)، "كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامة الإنسان.. الخ" (مادة 42)، "لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون.. الخ" (مادة (45)، "تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمى.. الخ" (مادة 49)، "لا يجوز إبعاد أى مواطن.. الخ" (مادة 51)، "للمواطنين حق الاجتماع الخاص فى هدوء.. الخ" (مادة 54)، للمواطن حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأى.. الخ" (مادة 62)، "لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى.. الخ" (مادة 68).. ومن هنا تكمن أهمية الحفاظ على هذه الشرعية والتى تؤكدها المادة الأولى "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى يقوم على أساس المواطنة".. وبالتالى تتلاقى المواطنة مع المدنية، وتنتفى جميع أشكال التمييز وذلك بحماية دستورية وبقوة سيادة القانون. إلا أن هناك اختراقا لهذه الشرعية على يد جماعات ألفت البغضاء والانقسامية وأدمنت التعصب والطائفية.. فالطائفية هى إفرازا للتعصب، وهو الاعتقاد الباطل بأن الإنسان يحتكر لنفسه الحقيقة وغيره يفتقر إليها وله عدة أوجه، فهناك التعصب العنصرى والتعصب القومى والتعصب الدينى، وكل هؤلاء يشتركون فى سمة واحدة وهى الانحياز إلى موقف جماعتهم التى ينتمون إليها دون تفكير، وإغلاق أبواب العقل ونوافذه إغلاقا محكما حتى لا تقفز إليه نسمة من الحرية.. إن جميع المواد الدستورية التى أشرنا إليها توفر ضمانات معينة لجماعات الأقليات، دينية كانت أو ثقافية أو قومية أو عرقية أو لغوية، فلهذه الأقليات كل الحق ليس فقط فى أن تعترف الدولة بوجودها، بل وأيضا أن تحمى هويتها الخاصة وأن تهيئ الظروف المناسبة لتعزيز تلك الهوية، وللأشخاص المنتمين إلى أقليات كامل الحقوق الديمقراطية بما فى ذلك حق المشاركة على قدم المساواة فى جميع الشئون، بل والمشاركة فى القرارات التى تمس جماعاتهم الخاصة أو المناطق التى يعيشون فيها، وبالتالى تنتفى هنا فكرة طائفية أى جماعة أقلية فى ظل مجتمع ديمقراطى، أو مجتمع يسعى للولوج للديمقراطية. فمن حق – ودستوريا- أى مواطن أو جماعة أن تعبر عما تعانيه أو تناله من أذى أو تحقير أو أن يُحَط من قدر عقائدهم وديانتهم. ويجب أن نعترف أن الديمقراطية ليست فقط إتاحة أوسع الفرص للمشاركة فى صناعة القرارات الوطنية وفسح المجال لتداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب، وإنما هى أيضا أنجح السبل لتحقيق أكبر قدر من التجانس والاندماج فى المجتمع الوطنى من خلال جميع أفراده وجماعاته وطوائفه ودياناته وعقائده.. وبذلك تكون العلاقة بين الدين والدولة أوثق وأكثر رحابة وبلا عداء.. ولذلك لابد من جميع قوى المجتمع الرشيدة والنشطاء الحقوقيين والسياسيين والحزبيين وعامة المثقفين، أن يناضلوا من أجل ترسيخ وإعلاء هذه القيم المدنية التى تمانع التمييز والطائفية، وأن الدستور المصرى به ما يمنحنا القوة والشرعية للنضال من أجل المدنية وسحق كل من ينتمون إلى فضائح التمييز والطائفية.