بعد أكثر من عقدين من التخطيط والتنفيذ، تستعد مصر لافتتاح المتحف المصري الكبير (GEM) رسميًا في نوفمبر 2025، ليكون أكبر متحف أثري في العالم مخصص للحضارة المصرية القديمة. يقع المتحف على بعد كيلومترات قليلة من أهرامات الجيزة، في موقع استراتيجي يربط بين عبق التاريخ وتطور الحاضر، وقد جرى تصميمه ليكون منارة ثقافية وسياحية وأمنية على مستوى عالمي. لكن خلف هذا الصرح المعماري المهيب، تقف منظومة أمنية شاملة تم إعدادها بعناية فائقة، تواكب التطور التكنولوجي وتستجيب للدروس المستفادة من تجارب سابقة في حماية الآثار المصرية. افتتاح تاريخي برعاية رئاسية وتأمين على أعلى مستوى من المقرر أن يتم الافتتاح الرسمي في الأول من نوفمبر المقبل، على أن تبدأ الزيارات الجماهيرية في الرابع من الشهر نفسه، وفق ما أعلنته وزارة السياحة والآثار. ويأتي الحدث تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، وسط حضور دولي وإعلامي غير مسبوق، وتنسيق أمني رفيع المستوى. تم وضع خطة أمنية متكاملة تشمل تأمين المنطقة المحيطة بالمتحف وطرق الوصول إليه، وتخصيص قوات انتشار سريع، إضافة إلى تعزيز الوجود الشرطي في محيط أهرامات الجيزة ومطار سفنكس الدولي القريب. منطقة عازلة ومراكز مراقبة ذكية حول المتحف في إطار الاستعدادات المكثفة للحدث، تم إنشاء منطقة أمنية عازلة تحيط بالمتحف من جميع الاتجاهات، تُراقب عبر شبكة كاميرات متطورة متصلة بغرف عمليات مركزية. تعمل هذه الغرف على مدار الساعة، وتدار بأنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على رصد التحركات غير المألوفة وتحليل أنماط السلوك داخل محيط المتحف وخارجه. وقد تم تقسيم محيط المتحف إلى قطاعات أمنية، بحيث يتولى كل قطاع فريق من قوات الشرطة مدعوم بوحدات تأمين إلكترونية ومركبات مراقبة حديثة. الكاميرات الذكية.. عيون لا تنام تحرس التاريخ كشفت شركات الأنظمة الأمنية المنفذة للمشروع عن تركيب أكثر من 200 كاميرا مراقبة عالية الدقة من طرازات عالمية حديثة (منها كاميرات SCATI EYE)، موزعة على مداخل ومخارج المتحف وقاعاته الداخلية وممراته الخلفية وغرف الترميم. هذه الكاميرات قادرة على التصوير الليلي بدقة عالية، وتعمل بنظام تحليل الفيديو الذكي (Video Analytics) لرصد أي حركة مشبوهة أو جسم غريب. ويتم تخزين التسجيلات على خوادم مؤمنة ذات نسخ احتياطي مزدوج داخل المتحف وخارجه، مما يضمن عدم فقدان البيانات في أي ظرف طارئ. تأمين المعامل ومراكز الترميم.. الدرس المستفاد من الحوادث السابقة حادثة سرقة السوار الذهبي من إحدى قاعات الترميم بالقاهرة في أغسطس الماضي، كانت جرس إنذار مدوٍ للجهات الأمنية والثقافية على حد سواء. منذ ذلك الحين، تم مراجعة جميع بروتوكولات الأمان داخل المعامل والمخازن الأثرية، وإقرار إجراءات دخول مشددة للعاملين والزائرين الفنيين. المتحف المصري الكبير أصبح نموذجًا في هذا المجال، إذ لا يُسمح لأي شخص بدخول معامل الترميم أو المخازن إلا بعد التسجيل بالبصمة الإلكترونية، وتسجيل الدخول والخروج بنظام رقمي مرتبط بالكاميرات الداخلية. تتولى الإدارة العامة لشرطة السياحة والآثار مهمة الإشراف المباشر على التأمين الداخلي للمتحف، بداية من نقل القطع الأثرية وحتى عرضها داخل القاعات. تعمل هذه الإدارة بالتنسيق مع وزارة السياحة والآثار وقطاع الأمن الوطني، مع تدريب عناصرها على أحدث تقنيات الكشف والفحص. وقد تم تخصيص وحدة شرطية ثابتة داخل المتحف تضم عناصر مدربة على التعامل مع الطوارئ، وإطفاء الحرائق، والإسعافات الأولية، وتأمين الزوار في حال حدوث أي خلل طارئ. منظومة الدخول والفحص الإلكتروني للزوار لن يكون دخول المتحف عشوائيًا، بل عبر بوابات إلكترونية حديثة مزودة بأجهزة كشف معادن وأجهزة تفتيش حقائب بالأشعة. كما تم اعتماد نظام تذاكر إلكتروني يعمل عبر QR Code، يتيح تتبع حركة الزائرين ومنع التلاعب أو دخول غير المصرح لهم. يحظر إدخال الأطعمة والمشروبات أو الأدوات الحادة أو المواد القابلة للاشتعال، فيما يُسمح بالتصوير بالهواتف المحمولة فقط وفقًا للوائح الداخلية، مع منع استخدام الحوامل والتصوير الاحترافي إلا بتصريح خاص. تكنولوجيا بيئية وأمنية لحماية القطع الأثرية يضم المتحف أنظمة تحكم بيئي متطورة تراقب درجة الحرارة والرطوبة والغازات المحيطة بالقطع الأثرية، وتعمل بالتوازي مع أجهزة الإنذار من الدخان والحرائق والتسرب المائي. وتم ربط أنظمة الأمان بأنظمة الطاقة الاحتياطية لضمان استمرار التشغيل حتى في حال انقطاع الكهرباء. كما تم اعتماد تقنيات جديدة للكشف عن الاهتزازات في قواعد العرض الزجاجية، بحيث يتم رصد أي محاولة للمساس بالقطع الأثرية فورًا. تأمين النقل الجوي والطرق المؤدية للمتحف في إطار الخطة الشاملة، تم التنسيق بين وزارة الداخلية ووزارة الطيران المدني لتأمين مطار سفنكس الدولي الذي سيستقبل الوفود الرسمية والسياحية لحضور الافتتاح. كما جرى تطوير الطرق المؤدية من مطار القاهرةوالجيزة إلى المتحف، مع تأمين كامل لمسار السيارات والحافلات السياحية عبر نقاط تفتيش ثابتة ومتحركة. الأمن التشريعي.. حماية بالقانون قبل الكاميرات يستند تأمين المتحف أيضًا إلى قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته، الذي ينص على معاقبة كل من يتسبب في إتلاف أو سرقة أو محاولة تهريب أثر بالسجن المشدد والغرامة. القانون يعطي الحق لشرطة الآثار في ضبط أي مخالف داخل أو حول المتحف، ويضع إطارًا صارمًا للمسؤولية القانونية للعاملين والمتعاقدين في مجال الآثار. خبراء الأمن والآثار.. المتحف نموذج عالمي في إدارة المخاطر يرى خبراء الأمن الثقافي أن منظومة تأمين المتحف المصري الكبير تمثل نقلة نوعية في تطبيق معايير الحماية المتكاملة التي تجمع بين الأمن المادي، والتقني، والقانوني، والبشري. ويشير الدكتور محمد حمزة، عميد كلية الآثار الأسبق، إلى أن "المتحف المصري الكبير سيكون نموذجًا عالميًا في تأمين التراث، لأنه بُني وفق مفهوم الحماية الشاملة منذ وضع حجر الأساس". فيما يؤكد اللواء خالد فوزي، الخبير الأمني، أن "مصر تستثمر اليوم في أمنها الثقافي كما تستثمر في اقتصادها، لأن حماية تراثها تمثل حماية لهويتها الوطنية". تجربة الزوار.. أمان وانبهار الزائر الذي يدخل المتحف يشعر أنه داخل منشأة منضبطة الطابع من حيث الانضباط والتنظيم، لكن في الوقت ذاته لا يفقد روح المتعة والجمال. إرشادات الدخول واضحة، والموظفون مدربون على التعامل باحترافية، وهناك نظام طوارئ يتيح إخلاء المبنى خلال دقائق في حال حدوث أي طارئ. وقد صُممت الممرات والبوابات لتسمح بانسيابية الحركة دون ازدحام، مع توافر كاميرات مراقبة في كل زاوية دون أن تزعج الزوار أو تفسد جمالية المكان. التكنولوجيا الوطنية في خدمة الأمن الثقافي من اللافت أن أغلب الأنظمة الأمنية بالمتحف تعتمد على شركات مصرية بالشراكة مع شركات عالمية، وهو ما يعزز الثقة في القدرات المحلية. كما أن برامج التحكم والمراقبة تم تطويرها لتكون قادرة على التكامل مع منظومة وزارة الداخلية، ما يعني أن أي حدث داخل المتحف يُتابع لحظيًا من مركز القيادة الأمنية. دروس الماضي وصياغة المستقبل تجارب العقود الماضية، من سرقات متاحف دولية كاللوفر في فرنسا ومحلية أو اعتداءات على المواقع الأثرية، جعلت الدولة المصرية تدرك أن تأمين التراث لا يقل أهمية عن حمايته من عوامل الزمن. لذلك، جاء المتحف المصري الكبير ليعلن ميلاد عصر جديد في الإدارة الأمنية والثقافية. المتحف المصري الكبير.. صرحٌ آمن يحفظ هوية أمة بين جدران المتحف المصري الكبير لا تُعرض التماثيل فقط، بل تُروى قصة مصر منذ فجر التاريخ وحتى اليوم. ولأول مرة، يُترجم هذا الشرف الحضاري إلى منظومة أمان تليق بعظمة الحضارة المصرية. فالمتحف ليس مجرد مبنى من الحجر والزجاج، بل رمز لإصرار المصريين على أن يبقى تراثهم محميًا، وأن تبقى مصر أم الدنيا... آمنة، شامخة، خالدة.