نستكمل محاولة فهم أسباب الفجوة بين الحكومة وإنجازات الدولة الكثيرة والكبيرة من جهة، وبين المواطن الذى لا يقدرها أو لا يشعر بها أو لا يثمنها أو كل ما سبق من جهة أخرى. أشرت إلى زيادة البنزين الأخيرة، والتى سبقتها شائعات على السوشيال ميديا، تم نفيها على صفحات الصحف وأثير المواقع الخبرية والقنوات التلفزيونية، ليتم الإعلان فى الأسبوع التالى عن الزيادة، وذلك باعتبارها مثالاً على ما يعمق من الفجوة السابق ذكرها. لم تنشأ الفجوة بسبب نفى زيادة البنزين ثم تطبيقها، بل هى أقدم من ذلك بكثير. جانب منها متوارث عبر العقود، جراء فقدان الثقة بين الحكومة- أى حكومة فى أى عهد- وبين المواطنين، لكن الجوانب الأخرى غير المتوارثة تتعلق بعوامل أخرى، منها ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والمعاناة، ومنها ما يتعلق بتفسيرات تتراوح بين وجهات نظر تنتقد ترتيب الأولويات، وأخرى ما زالت تعتبر الحكومة مسؤولة عن إطعام الأفواه لا تمكين أصحابها من إطعام أنفسهم، وثالثة تتعلق بذكاء فطرى يتميز به المصرى، وهو ما تجلى واضحاً فى تفصيلة مهمة من تفاصيل لقاء رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى مع عدد من رؤساء تحرير الصحف والمواقع قبل أسابيع قليلة. رئيس الوزراء تحدث مخلصاً وصادقاً عن التغيرات والإصلاحات الكبرى التى حدثت فى وقت قياسى، من خدمات السكن والطرق والمواصلات والمدن الجديدة والقضاء على العشوائيات والمبادرات الرائعة للفئات الأكثر احتياجاً، وبرامج الحماية، وغيرها، لكن ظلت جزئية «زيادة الأسعار»، هذا المسمار المؤلم الذى يؤرق حياة الملايين من كل المستويات والطبقات، وإن كانت بدرجات متفاوتة، ويتسبب فى حالة من القلق الجماعى المكتوم على المستقبل القريب. المتجول فى الشارع والمقاهى وحتى على أثير ال«سوشيال ميديا» البعيد عن التنظير المسموم يستشعر قلقاً كبيراً عنوانه «ماذا لو؟»، ماذا لو ظلت الأسعار فى تصاعدها المحموم وزاد عجز الأسرة عن تلبية احتياجات الصغار، سواء كان أكلاً وشرباً، أو اضطرار إلى تحويل من مدرسة خاصة إلى حكومية، أو بيع أصول؟، ماذا لو طرأت زيادة جديدة على فواتير الكهرباء والغاز؟، وهى أسئلة تعكس قلقاً كبيراً، وجزء منه سببه ضبابية الرؤية. فبين زيادات تحدث عادة بعد شائعات، يعقبها نفى، ثم تؤدى إلى وقوع الزيادة فجأة دون تفسير سبب النفى، بالإضافة إلى تضارب بعض التصريحات أحياناً، إذ يؤكد مسؤولون مثلاً أن زيادة ما ستكون الأخيرة، ثم يتضح بعد شهر أو سنة أنها لم تكن الأخيرة، وهلم جرا. مفهوم تماماً أن مجريات الاقتصاد وتوقعاته تتغير كثيراً، لا سيما مع التقلبات الدولية والإقليمية، وحروب السياسة ومناوشاتها، ولكن يصعب جداً على المواطن أن يذكر نفسه فى كل مرة بنظريات العلوم السياسية، ومجريات الصراعات الدولية، وآثار الحروب الإقليمية. وفى كل هذه المعمعة، تدفع الصحافة التقليدية (صحف وقنوات... إلخ) الفاتورة هى الأخرى. فبالإضافة إلى ما تعانيه من مشكلات تتعلق بصناعة الإعلام، تجد نفسها تفقد مصداقيتها، وتُتهَم بالخداع والتضليل، وللحديث بقية.