أصبح من المألوف عندما تجري انتخابات في العالم العربي - إذا جرت أصلا - أن يتركز الحديث علي نزاهة العملية الانتخابية من عدمها، وليس عن البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتنافسة، أو غير ذلك من الأمور التي تتعلق ب"مضمون" الانتخابات. هذا الاهتمام المفرط ب "الشكل" و"الإجراءات" - علي حساب المضمون والأهداف والغايات - ليس نابعا من فراغ، وإنما هو راجع إلي حقيقة مؤلمة ومهينة هي أن تزوير الانتخابات أصبح هو القاعدة في الأغلب الأعم، وبالتالي فإن معظم النتائج التي تسفر عنها هذه الانتخابات المزورة - بصورة مبطنة أو سافرة - لا تكون معبرة تعبيرا حقيقيا عن الواقع أو عن الخريطة السياسية في هذا البلد العربي أو ذاك؛ ولذلك فانها لا تستحق عناء التحليل والتقييم لأنها ببساطة غير واقعية. وقد تسبب هذا الهاجس في تشتيت تركيزي علي مضمون الانتخابات البحرينية التي جرت يوم السبت الماضي، وذهبت لمتابعتها علي الطبيعة، حيث ذهب جزء كبير من انشغالي إلي قضية النزاهة. والعجيب أن معظم المؤشرات الأولية كانت تؤكد أن الانتخابات البحرينية ستكون استثناء من القاعدة العربية، ثم تعزز هذا الاستنتاج عندما جاءت ساعة الحسم وفتحت مراكز الاقتراع. وكان أهم هذه المؤشرات علي الإطلاق نسبة المشاركة التي ناهزت 72%، وهذا رقم كبير جدا حتي بالنسبة للديموقراطيات العريقة. وهو يدل - ضمن ما يدل - علي قدر كبير من الارتياح الي نزاهة العملية الانتخابية، وبالتالي جدوي المشاركة فيها. صحيح أن هذه النسبة العالية جدا للمشاركة لها أسباب أخري من أهمها في الحالة البحرينية الحشد "الطائفي" لها، بيد أن هذا لا ينفي أيضا الاستنتاج الأول. ورغم عدم وجود رقابة دولية فانه كانت هناك رقابة محلية لا بأس بها، ويمكن الاعتداد باستقلالها إلي حد كبير. وأحد التجليات الإيجابية لذلك مشاركة الجمعية البحرينية للحريات العامة ودعم الديموقراطية في هذه العملية بفريق رقابي في جميع مراكز الاقتراع الخاصة والعامة وفي جميع المحافظات من أجل مراقبة العملية الانتخابية والتأكد من صحة وسلامة سير العملية الانتخابية ونزاهتها. وبعد جولة السبت الماضي قال ناصر بردستاني المشرف علي الفريق: مما لا شك فيه أن أية انتخابات تحدث في العالم لها معايير تلتزم بها، وقد تحدث قصور أو اخطاء أو ملاحظات سلبية في العملية الانتخابية مما يستوجب رصدها بهدف الاستفادة منها في التجارب الانتخابية القادمة، وقد رصد فريقنا الرقابي من خلال التقارير الواردة إلينا عددا من الملاحظات أبرزها: - اتسمت الحالة الأمنية بشكل عام- وباتفاق جميع المراقبين- بالاستقرار مما شجع الناخبين علي الإدلاء بأصواتهم بسلاسة ويسر في جو من الأمن مع عدم تسجيل أي حوادث عنف أو تهديد من المترشحين أو العاملين في حملاتهم. - مشاركة الجمعيات المقاطعة لانتخابات 2002م أعطت للعملية بعدا إيجابيا وعززت من شرعيتها وذلك من خلال توسيع تمثيل المواطنين عبر توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في العملية الانتخابية. - اقبال كبير للناخبين في جميع الدوائر والمحافظات وبشكل ملحوظ في بعض الدوائر. - بروز مشاركة العنصر النسائي في جميع الدوائر حيث ان مشاركة المرأة في بعض المراكز كانت لافتة أكثر من الرجل. - اتسمت العملية الانتخابية هذه المرة بتجاوز عدد من الثغرات السابقة إلا أن الحالة التنظيمية لأغلب مراكز الاقتراع بدأت بحالة من عدم التنظيم في البداية، واستمرت حالة عدم التنظيم في بعض المراكز حتي وقت الاقفال. - السماح رسميا للجمعيات الحقوقية المحلية بالمراقبة علي جميع لجان الاقتراع والفرز العامة والخاصة مما يدل علي تفهم السلطات الاشرافية لدور المراقبين في نجاح الديموقراطية في المملكة. - السماح للمترشحين أو وكلائهم بالحضور والمراقبة داخل لجان الاقتراع. - تأخر كبير في تسلم بطاقات المراقبين، حيث تم تسليم البطاقات في تمام الساعة السابعة مساء أي 13 ساعة فقط قبل بدء الاقتراع وقد حدث عدد من الأخطاء المطبعية بالنسبة للأسماء والصور في حين أن البعض لم يتسلم بطاقة مراقب مما حرمه من دخول المراكز الانتخابية والمراقبة. - عدم السماح للمراقبين الدوليين بالمشاركة في عملية مراقبة الانتخابات. - تخصيص مكان بعيد جدا للمترشحين او وكلائهم في بعض الدوائر داخل اللجنة مما ادي إلي إثارة حالة من عدم الاطمئنان عند بعض المترشحين. - عدم استجابة المشرفين علي الدوائر الانتخابية لطلب المراقبين لتخصيص أماكن أكثر قربا لمراقبة عملية الاقتراع. - إبعاد المراقبين في بعض الدوائر إلي مسافة بعيدة أو منع تحركاتهم في القاعة مما صعب عملية المراقبة وخصوصا التدقيق المطلوب وسماع ملاحظات القاضي أو الناخبين، وإلزام المراقبين بالجلوس في مكان واحد من دون أي حركة. - عدم كفاية عدد المدققين للبيانات الشخصية في بعض الدوائر مما تسبب في تشكيل طوابير طويلة في بعض الدوائر، وخاصة الدوائر الخاصة. - عدم توافر قوائم بأسماء الناخبين في المراكز أو في الخارج . - تأخر فتح بعض القاعات لمدة تزيد علي 45 دقيقة من الوقت الرسمي لبدء عملية الاقتراع. - تعطل أجهزة الحاسوب في بعض الدوائر وجهاز الماسح الضوئي (القراءة الالكترونية) في أكثر من دائرة مما تسبب في تعطيل عملية التصويت. - خرق مبدأ سرية الاقتراع في بعض الدوائر - تكرار الشكوي في أكثر من دائرة من أن القاضي المشرف علي العملية الانتخابية الذي يوكل للتصويت نيابة عن المسنين والأميين يقوم بالتصويت لمترشحين غير توجيهات الناخبين. - عدم التزام المترشحين بوقف حملاتهم الدعائية يوم الاقتراع عبر توزيع المطبوعات. - عدم إزالة الاعلانات بمسافة 200 متر من مركز الاقتراع. - عدم ممارسة التطبيق والتأكد من هوية النساء المنتقبات قبل الإدلاء باصواتهن. - منع الصحافة من التصوير او الحركة في إحدي الدوائر. ومن هذه التفاصيل نستطيع أن نستنتج أنه حدثت خروقات وانتهاكات، لكنها لا تؤثر علي النتيجة النهائية للعملية الانتخابية، وأن النزاهة كانت هي القاعدة هذه المرة، وليس العكس، وان انتخابات البحرين بهذا النحو كانت استثناء من القاعدة العربية سيئة السمعة. حتي حركة "حق" التي قاطعت هذه الانتخابات لم تشكك في نزاهتها، وإنما شككت في "جدواها" فقط، فضلا عن أن مقاطعتها كانت محدودة النطاق ولم تستطع جذب قطاعات يعتد بها من المعارضة. لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في ظل هذا الوضع هو: كيف أسفرت انتخابات نزيهة بهذا الشكل عن اكتساح تيارات الاسلام السياسي - شيعية وسنية- واستئثارها بأغلب مقاعد المجلس النيابي بينما خرجت التيارات الليبرالية واليسارية، صاحبة افضل البرامج وأكثرها عمقا وموضوعية وعلمية، بخفي حنين؟! [email protected]