من بين ثلاث حروب أهلية ونصف حرب أهلية أخري، والتي تدور رحاها في العالم العربي في الوقت الراهن، فإن الحرب الأولي والأكثر مدعاة للحزن هي تلك الدائرة بشكل يومي في العراق. قبل حرب العراق المندلعة الآن، كانت الحرب الأهلية اللبنانية هي المثال الأكثر دراماتيكية ودماراً في العالم العربي علي ذلك. ففي تلك الحرب لقي قرابة 200 ألف مدني حتفهم خلال السنوات 1975-1990 في حرب شرسة بين الفلسطينيين، والمارونيين، والمسيحيين، والسُّنة، والشيعة والدروز. والآن فإن هناك نذر حرب أهلية جديدة تلوح في أفق لبنان. وعلي ما يبدو فالذي يحاول إشعال نيران تلك الحرب هم أطراف خارجية، تريد أن تصفي حساباتها وتخوض معاركها علي الأرض اللبنانية. والجولة الثانية من الحرب الأهلية اللبنانية، ستكون أكثر دموية من الأولي بمراحل. ومما لاشك فيه أنه في هذه المرة -وكما حدث في المرة السابقة- فإن إسرائيل ستدخل الساحة إن آجلا أو عاجلا كي تصب الزيت وتزيد من تأجيج نيران الحرب. أما الحرب الأهلية الثانية، فهي تلك التي تدور في الجزائر منذ عام 1992 عندما ألغي الجيش الجزائري نتائج انتخابات فازت بها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ". ومنذ ذلك اليوم وحتي الآن، أدت الحرب الأهلية في الجزائر إلي مصرع ما يزيد علي 110 آلاف مدني جزائري، قتل معظمهم بالبلطات النارية والسيوف والبنادق، وبطرق أخري غاية في البشاعة، إذ نتذكر مشاهد قتل النساء والأطفال وكبار السن وإبادة قري جزائرية عن بكرة أبيها. كان القتلة في تلك المذابح من الجزائريين... وكان الضحايا الأبرياء من الجزائريين أيضاً... ليسوا من الفرنسيين أو من أية جنسية أخري، كانوا عرباً يقتلون عرباً آخرين. وعلي ما يبدو أمامنا الآن، فإن الفلسطينيين سيكونون آخر من ينضم لنادي الحرب الأهلية التعس. فالأنباء التي خرجت من غزة هذا الأسبوع، وفي الأسابيع القليلة الماضية، تتحدث عن جماعات فلسطينية تقاتل جماعات فلسطينية أخري. في بعض الأحيان تكون هذه الجماعات عبارة عن جماعات من "فتح" ضد جماعات من "حماس"، وأحياناً أخري تكون جماعات من "الجهاد الإسلامي" ضد جماعات من "فتح"، وفي بعض الأحيان يدور القتال بين عصابات فلسطينية مسلحة ليس لها أي انتماءات وإنما تقاتل من أجل النفوذ أو السيطرة علي مناطق من القطاع. بالطبع الإسرائيليون يقومون بدورهم في هذه الحرب من خلال قتل الجهاديين الإسلاميين. ولكن هذا لا يغطي علي حقيقة، أن معظم أعمال القتال التي تدور رحاها في الوقت الراهن، وأكثرها خطورة كذلك، هي تلك التي تدور بين الفلسطينيين أنفسهم. فمنذ أيام تعرض رئيس الاستخبارات الفلسطينية، وهو عضو قيادي في حركة "فتح" وحليف للرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبومازن"، إلي محاولة اغتيال عند مصعد المقر الرئيسي للاستخبارات العامة الفلسطينية. بطبيعة الحال ليس أسهل أن نقول إن إسرائيل تقف وراء هذه المحاولة الإجرامية، ولكن الواقعيين منا يدركون جيداً أن ما يدور هو حرب داخلية بين فلسطينيين وفلسطينيين. والسيد محمود عباس الذي شاهد سلطته وهي تتبخر خلال الشهور القليلة الماضية، لم يكن بمقدوره أن يقول تعليقاً علي ضرب مبني مجمع حكومته، سوي أنه "شيء يؤسف له"! لم يقم الرجل بتوجيه اللوم لإسرائيل كما جرت العادة في مثل هذه الأحوال، لأنه بالتأكيد يعرف من الذي قام بذلك. وفي الواقع فإن الحرب الأهلية الفلسطينية كانت تدور منذ فترة طويلة نسبياً، ولكن علي نحو غير ملحوظ إلي حد كبير، حتي إبان عهد الرئيس السابق ياسر عرفات. حدث ذلك نتيجة لوجود عدة جبهات تحرير، كانت كل جبهة تحصل علي تمويلها من دول مختلفة، ولدوافع مختلفة، وتنفذ أجندات مختلفة. ويمكن القول إن الفلسطينيين العرب قد قتلوا من قومهم، عدداً يفوق من قتلوه من أعدائهم الإسرائيليين. هذه هي الحقيقة المؤكدة والمحزنة في آن معاً. لقد كان هناك ما يزيد علي 15 منظمة ومجموعة فلسطينية مسلحة -لا يمتلك الكثير منها أية إيديولوجية حقيقية- موجودة في عدة دول، وتعمل كل منها بشكل مستقل عن الأخري. ولقد كانت المسألة مسألة وقت فقط قبل أن تبدأ هذه الجماعات في إطلاق النار علي بعضها بعضاً في نفس الوقت، وهو ما نراه يحدث أمامنا حالياً. هذه هي الحروب الثلاث التي تدور في العالم العربي... فماذا عن نصف الحرب المتبقية؟ إنها لبنان. نعم لبنان هو نصف الحرب المستمرة التي يمكن أن تتحول فتصبح هي الحرب العربية الأهلية الرابعة. أما بالنسبة للسؤال الذي بدأنا به هذا المقال وهو: وما هي الحرب الأهلية القادمة؟ فيمكن لكل منكم أن يخمن إجابته. أقول ذلك لأن كل فرد في العالم العربي يعرف تمام المعرفة أين تكمن التوترات الدينية والعرقية، ويعرف أن ضعف الحكومات، وانتشار الفقر، والجهل في معظم البلاد العربية هو الذي يفاقم من تلك التوترات. بالطبع هناك - وسيكون هناك دائماً- تدخل أجنبي. ولكننا يجب أن نعرف أن التدخل الأجنبي لا يؤثر سوي علي الأجسام الضعيفة التي افتقدت المناعة. ولعلني لا أبالغ عندما أقول إنني لا أري دولة عربية واحدة ذات جهاز مناعة قوي. وعندما يشتد لهيب تلك الحروب وتأتي علي الأخضر واليابس، فإننا لن نستطيع في هذه الحالة أن نلقي باللوم علي الاستعمار، سواء أكان ممثلاً في البريطانيين أو الفرنسيين أو الإسرائيليين... أو في الأمريكيين. ففي الوقت الحالي ليس هناك من أحد يمكن أن نوجه له أصابع اللوم سوي أنفسنا... نعم أنفسنا!