ماذا حدث فى بروكسل..؟ السؤال مازال مطروحا فى الأوساط السياسية والاقتصادية والثقافية فى العواصم الأوروبية وفى مصر، ومازال صداه يطغى على موائد البحث وجلسات النقاشات العامة والعديد من التحليلات السياسية والإعلامية. ما حدث فى بروكسل ليس أمرا عاديا أو تقليدا وطقسا بروتوكوليا يصاحب زيارة رئيس قادم من جنوب المتوسط إلى منصة مقر الاتحاد الأوروبى.. ما حدث يستحق المزيد من القراءة والبحث والدراسة لما جرى أثناء الزيارة من حفاوة الاستقبال وما صدر من بيان مشترك عن أول قمة مصرية أوروبية يقفز فوق الكلمات المراسم البروتوكولية المدونة والتعبير عن الأمل والطموح فى المستقبل إلى اتفاقات واقعية منصوص عليها فى 23 بندا تمثل نقلة نوعية وتطور تاريخى وصفحة جديدة فى مسار العلاقات بين مصر والاتحاد الأوربى بدوله وقادته ال27. الزيارة التاريخية – بحق- للرئيس عبد الفتاح السيسى إلى العاصمة البلجيكية بروكسل على رأس وفد وزارى كبير لحضور القمة الأولى بين مصر- كأول دولة عربية وافريقية- والاتحاد الأوروبى، تفتح آفاقا جديدة تماما فى سجل العلاقات بين الجانبين التى تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ والتى يمكن فقط رصد محطاتها منذ بدايات القرن التاسع عشر عقب الحملة الفرنسية التى جلبت معها العلماء والمفكرين والباحثين، ثم قيام الوالى محمد على الكبير بإرسال بعثات تعليمية إلى أوروبا ساهمت فى تحقيق النهضة الفكرية والتنمية الاقتصادية داخل البلاد عقب عودتها. واستعانة محمد على بالقادة العسكريين وكبار الأطباء الأوروبيين وخاصة الفرنساويين لبناء الجيش المصرى وهو ما عهد به إلى سليمان باشا الفرنساوى ثم تطوير الأوضاع الصحية وبناء أكبر مستشفى فى أبو زعبل ومكافحة أمراض العصر على يد الطبيب الفرنسى كلوت بك. لكن ما الفارق بين اتفاقات الشراكة منذ سنوات السبعينات وبين القمة المصرية الأوروبية فى بروكسل..؟ منذ بداية السبعينات وقع الجانبان العديد من الاتفاقات فى إطار عضوية دول البحر المتوسط والشراكة الأورومتوسطية واتفاقية عملية برشلونة، والتى دخلت حيز التنفيذ فى يونيو 2004. كما دخلت خطة عمل الاتحاد الأوروبى ومصر حيز التنفيذ فى عام 2007. الاتفاقات كانت تنتهج مبدأ الدعم والمساعدات لضمان الاستقرار فى دول جنوب المتوسط التى تمثل الحديقة الخلفية لأوروبا والتى تستقبل منها مشاكل عديدة بسبب الهجرة غير الشرعية وحالة عدم الاستقرار السياسى وصعوبة الأوضاع الاقتصادية. أوروبا بدأت فى إعادة النظر إلى سياساتها التقليدية فى التعاون والشراكة مع دول جنوب المتوسط وما أطلق عليه سياسة أوروبا " المنقحة" عقب ما سمى ب"الربيع العربي" فى عدد من الدول العربية. السياسة الخارجية الأوروبية الجديدة مع الجنوب استندت أو اعتمدت مبدأ الحوار المتكافئ وفقا للمصالح والمنافع المشتركة والمتبادلة، وبدأ الاتحاد الأوروبى ومصر حوارا حول أولويات الشراكة المستقبلية بما يتماشى مع سياسة الجوار الأوروبية المنقحة فى عام 2016. الحوار هنا جاء بناء على قاعدة المكاشفة والمصارحة مع مصر كقوة إقليمية عظمى سياسيا واقتصاديا وتاريخيا وبابة الدخول إلى القارة السمراء والتى يمر عبر أراضيها الشريان البحرى الاستراتيجى للعالم وللاتحاد الأوروبى وما سوف تقدمه للاتحاد الأوروبى لضمان استقرار المنطقة والحد من الهجرات غير الشرعية وممارسة الدور المحورى فى ملفات المنطقة الأمنية والسياسية. وما سوف تحصل عليه مصر فى اطار الشراكة الجديدة من مكاسب حقيقية. وفى 17 مارس 2024 أعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، رفع مستوى العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبى إلى مستوى استراتيجى وشامل، وتقديم حزمة دعم مالى تبلغ 7.4 مليار يورو لمصر حتى نهاية 2027. وبدا أن العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبى تدخل مرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية الشاملة، تشمل التعاون فى مجالات الاقتصاد والتجارة والتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا، وتسلمت مصر الدفعة الأولى من الدعم بقيمة مليار يورو، على أن يتم التوقيع قريبًا على اتفاق تحويل الأموال لاستكمال باقى الحزمة، فى إطار التعاون القائم بين الجانبين لدعم جهود التنمية والإصلاح الاقتصادى. الأجواء الاحتفالية والاستقبال الفخم للرئيس عبد الفتاح السيسى فى مقر البرلمان الأوروبى ببروكسل فى أول زيارة لرئيس مصرى لمقر البرلمان منذ ثمانينات القرن الماضى، وما للبرلمان الأوروبى دور محورى فى تعزيز الشراكة المصرية - الأوروبية على المستوى الشعبى والرسمى. كانت له معان ودلالات كثيرة، فى مقدمتها أن مصر عادت إلى ممارسة دورها المحورى والتاريخى سواء فى محيطها العربى والافريقى أو فى علاقاتها الخارجية شرقا وغربا وشمالا، مؤكدا مبدأ أن الدور ليس بالوراثة ولكنه بالممارسة والحيوية والفاعلية الدبلوماسية والرئاسية، وهو ما أدركته أوروبا واعترفت به خاصة فى أعقاب الزيارات المتوالية للرئيس السيسى إلى أوروبا عقب توليه مقاليد الحكم وحرصه على تعميق وتطوير هذه العلاقات على أرضية المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة والانتقال من نهج المساعدات إلى الاستثمارات والصفقات المتبادلة. الدور المصرى رسخته المواقف الواضحة والصريحة مع اندلاع أحداث العدوان الإسرائيلى على غزة ثم انعقاد مؤتمر شرم الشيخ وبات واضحا للاتحاد الأوروبى أن هناك قوة سياسية وعسكرية واقتصادية مركزية على الضفة الأولى من المتوسط أصبحت الشراكة معها ضرورة استراتيجية للجميع فى أوروبا وليست خيارا. البيان المشترك للقمة يستوجب قراءة أكثر عمقا وتناوله بالنقاش الأوسع حول بنوده ال23 التى حققت مصر من خلالها العديد من المكاسب فى الشق السياسى، مثل إقرار القمة بالدور المحورى لمصر فى تعزيز الاستقرار من خلال مبادرات السلام وجهود حل النزاعات فى المنطقة، أو الالتزام الراسخ بمبادئ ميثاق الأممالمتحدة بما فى ذلك احترام سيادة الدول وسلامة أراضيها ودعم القانون الدولى، والترحيب بالاتفاق الذى تم التوصل إليه بشأن المرحلة الأولى من الخطة الشاملة لإنهاء الصراع فى غزة التى طرحها الرئيس ترامب، وكذلك بنتائج قمة شرم الشيخ للسلام التى عُقدت فى 13 أكتوبر. ودعوة جميع الأطراف إلى مواصلة العمل على تنفيذ الخطة، والالتزام الراسخ بسلام دائم ومستدام قائم على حل الدولتين، وفقاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وإعلان نيويورك. ودعم جهود الأممالمتحدة فى ليبيا، وخارطة طريق بعثة الأممالمتحدة للدعم فى ليبيا لضمان السلام والاستقرار والسيادة والوحدة فى البلاد، وإعادة توحيد جميع المؤسسات، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال إطار زمنى محدد. كما نؤكد على ضرورة إعادة توحيد جميع القوات المسلحة وقوات الأمن الليبية، وانسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا. والدعوة لوقف إطلاق النار وإيجاد حل سلمى للصراع فى السودان. وينبغى على جميع الأطراف المعنية الانخراط بشكل بناء فى عملية سياسية شاملة يقودها ويملكها السودانيون. كما نؤكد على ضرورة وصول المساعدات الإنسانية بشكل مستدام ودون عوائق إلى الشعب السودانى، وزيادة حجم المساعدات الإنسانية المقدمة للسودان والدول المجاورة ودعم الجهود المتواصلة التى تبذلها سلطات جمهورية الصومال الاتحادية لتعزيز بناء الدولة وإصلاح قطاع الأمن. وحماية الأمن البحرى وحرية الملاحة فى البحر الأحمر، بما يعود بالنفع على الأمن والتجارة الدوليين. وأن عدم الاستقرار الإقليمى الأخير قد أدى إلى تحويل مسارات الملاحة وانخفاض كبير فى إيرادات مصر من قناة السويس. وعلى الجانب الاقتصادى، جدد الاتحاد الأوروبى التزامه بدعم جهود مصر الرامية إلى تحقيق الاستقرار والمرونة على مستوى الاقتصاد الكلى، من خلال حزمة دعم بقيمة 7.4 مليار يورو تُعزز الشراكة الاستراتيجية والشاملة، كما أُعلن عنها فى مارس 2024. وتتألف هذه الحزمة من 5 مليارات يورو كقروض ميسرة، و1.8 مليار يورو فى صورة استثمارات إضافية سيتم حشدها، و600 مليون يورو كمنح. وتوفر المساعدة المالية الكلية الأخيرة دعماً مالياً حيوياً، يُواكب أجندة الإصلاح فى مصر، لا سيما لتحقيق الاستقرار الاقتصادى بالتعاون الوثيق مع البرنامج الجارى تنفيذه مع صندوق النقد الدولى. مخرجات البيان المشترك أكدت على أن التعاون والإصلاحات الاقتصادية تشجع بيئة التجارة والاستثمار فى مصر بشكل أكبر، وتعزيز وصول الصادرات المصرية إلى السوق الأوروبية، مما أدى إلى زيادة كبيرة فى حجم التجارة وتشجيع تنويع الاقتصاد المصرى من خلال اتفاقية المشاركة المصرية الأوروبية. ومواصلة التنفيذ الفعال لمنطقة التجارة الحرة، واستكشاف سبل تحديث الاتفاقية لتتواءم بشكل أفضل مع تحديات اليوم، وتهيئة بيئة مواتية للتجارة والاستثمار. وتعمل آلية الاستثمار بين الاتحاد الأوروبى ومصر على تيسير حشد استثمارات تصل إلى 5 مليارات يورو حتى عام 2027 من خلال الصندوق الأوروبى للتنمية المستدامة. علاوةً على ذلك، يلتزم الاتحاد الأوروبى ومصر بأن تتبوأ شراكتهما موقعاً رائداً فى مجال التحوّل الأخضر فى منطقة البحر الأبيض المتوسط، فى إطار مبادرة التعاون فى مجال الطاقة والتكنولوجيا النظيفة عبر البحر الأبيض المتوسط مجالات كثيرة شملتها الشراكة الشاملة بين مصر وأوروبا فى مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبحث العلمى والتحول إلى الاقتصاد الأخضر والتعاون فى مجالات التحول الرقمى وتحفيز الاستثمارات فى البنى التحتية للبيانات والربط الرقمى الموثوقة والآمنة، وتعزيز الأمن السيبرانى والذكاء الاصطناعى واقتصاد البيانات وتنمية المواهب والمهارات الرقمية. وتعزيز التعاون فى مجال الأمن الغذائى والمائى. البند المهم أيضا لمصر فى البيان الختامى، وهو ما يتعلق بالعلان عن التعاون فى القضايا المتعلقة بالمياه على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية، بما فى ذلك ما يتوافق مع الإعلان المشترك بشأن شراكة المياه بين مصر والاتحاد الأوروبى "فالاتحاد الأوروبى يدرك اعتماد مصر الشديد على نهر النيل فى ظل ندرة المياه، ويُؤكد دعمه لأمن مصر المائى والامتثال للقانون الدولى، بما فى ذلك ما يتعلق بالسد الإثيوبى. ويُشجع الاتحاد الأوروبى بشدة التعاون عبر الحدود بين دول حوض نهر النيل على أساس مبادئ الإخطار المسبق والتعاون و"عدم الضرر". الاتحاد الأوروبى أشاد باستضافة مصر ملايين اللاجئين وطالبى اللجوء، ويُقدر التعاون المستمر مع مصر فى هذا الصدد. وسيواصل الاتحاد الأوروبى ومصر دعم المهاجرين واللاجئين وطالبى اللجوء والمجتمعات المضيفة، مع الاحترام الكامل للقانون الدولى وبما يتماشى مع الأطر الوطنية. ويُقدر الاتحاد الأوروبى الجهود القيمة التى تبذلها مصر فى تعزيز حوكمتها الوطنية للهجرة واللجوء. وأعلن الاتحاد الأوروبى انضمام مصر رسميا خلال القمة إلى برنامج "أفق أوروبا"، بما يُمكن الباحثين والمنظمات المصرية من المشاركة فى جميع جوانب البرنامج، وسيُتيح ذلك للكيانات المصرية تنسيق المشروعات ودعم إصلاحات البحث الوطنى، بالإضافة إلى بناء القدرات المؤسسية. كما يحقق الانضمام إلى برنامج "أفق أوروبا" توسيع نطاق المشاركة فى مبادرة "الشراكة من أجل البحث والابتكار فى منطقة البحر الأبيض المتوسط لتعزيز إدارة المياه، ونظم الزراعة، وسلاسل القيمة الغذائية. ويعتبر برنامج " أفق أوروبا"، البرنامج الرئيسى للاتحاد الأوروبى فى مجالات البحث العلمى والابتكار، يمتد للفترة من 2021 إلى 2027 بميزانية إجمالية تبلغ 93.5 مليار يورو، حيث يمول مشاريع تشمل الجامعات والمؤسسات الصناعية والعامة، ويركز على مواجهة تغير المناخ ودعم أهداف التنمية المستدامة وتعزيز التنافسية والنمو الاقتصادى الأوروبى. وتقرر عقد القمة المقبلة بين مصر والاتحاد الأوروبى فى مصر فى عام 2027. الطريق إلى بروكسل يعد انتصارا جديدا للدبلوماسية الرئاسية والسياسة الخارجية المصرية فى شهر الانتصارات، فالقمة تأتى تعبيراً عن شراكة متجددة بين مصر والاتحاد الأوروبى، تجمع بين الطموحات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، وتضع مصر فى قلب استراتيجيات الاستقرار الإقليمى والتنمية المستدامة، فى ظل واقع إقليمى ودولى يتطلب مزيداً من التنسيق والتعاون الدولى. كما أن القمة تمثل فرصة لتعميق العلاقات السياسية والاقتصادية مع مصر، بهدف تعزيز الاستقرار المشترك، وتحقيق السلام والازدهار فى المنطقة. وتعزز جهود مصر فى الاستقرار الإقليمى والاقتصادى، وعكست الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة مع الاتحاد الأوروبى ثقة الجانب الأوروبى فى السياسات المصرية والإصلاحات الاقتصادية التى تنفذها القاهرة، مشيرة إلى أن الدعم المالى الأوروبى سيسهم فى توفير فرص استثمارية جديدة وتحسين بيئة الأعمال فى مصر.