يري أولئك الذين يغيظهم ويستفزهم الشد والجذب المصاحبان دوماً لمباريات كرة القدم، والحساسيات التي تعد جزءاً لا يتجزأ من أجواء ملاعبها، أن هذه اللعبة ما هي إلا عامل توتير وتعكير للعلاقات بين الدول والشعوب، هذا إن لم نقلْ إنها خط إنتاج آخر ضمن الخطوط المؤجِّجة للعنف، والتي تصب زيتاً علي نار هستيريا التعصب القومي ونزعة إقصاء الآخر، اللذين يعاني منهما عالمنا اليوم الأمرَّين. أما أولئك الواقعون في أسر الساحرة المستديرة فعلي العكس تماماً يعتبرون أن الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" يستحق عن جدارة، وقبل أي طرف دولي آخر، جائزة نوبل للسلام. فكم هو منقسم علي نفسه عالمنا هذا.. وكم هو غريب! وطبعاً لكلا الرأيين أسباب، وسوابق تاريخية، لا بأس أن نستعرضها في هذه المساحة. وإذا عدنا مع التاريخ قليلاً إلي الوراء سنجد أن جميع أنواع المنافسات الرياضية كانت ممنوعة بشكل صارم في إنجلترا القرون الوسطي بحجة أنها مثيرة للفتن. وعلي شاكلة الإنجليز، نجد أن الفرنسيين _الذين ينتمي إليهم مع ذلك "البارون دو كوبرتان" مؤسس الفيفا- ما كادوا يفيقون من هزيمتهم في حرب 1870، حتي أوصوا بتكثيف الأنشطة الرياضية في صفوف الشباب كنوع من الإعداد الضمني للمجهود الحربي. ويتعزز لدينا أكثر الشعور بدواعي النزعة الوطنية المُتحمِّسة وأبعادها الرمزية، والنزعة "الحربية" العنيفة المترسِّبة، بل المتجلِّطة في لغة ومخيلة عالم كرة القدم، إذا ما تأملنا أكثر لحظات كرة القدم طقسية ورمزية كرفع الأعلام وعزف النشيد الوطني قبيل انطلاق المباريات هذا إضافة إلي جهاز العنف "المفهومي" المتفشِّي في لغة التعليق الرياضي (كوصف المُعلق لبداية المباراة ب "انطلاق المواجهة"، ولمحاولة الوصول إلي مرمي المنافس بأنها "قصف مُركَّز"، و"ضربة قاضية"، "فجَّرت" من خلالها "الكتيبة" المهاجمة "دفاع" الخصم. أما التسديدات الأكثر قوة فهي بكل بساطة "صواريخ" عابرة للقارات!). علي أن العنف علي مستوي الرموز تُرجم مرات عديدة علي أرض الواقع. وهل هنالك من ينسي "حرب كرة القدم" التي اندلعت علي جبهات حقيقية، غير رمزية، سنة 1969 بين دولتي هندوراس والسلفادور، بسبب مباراة كانت حاسمة ومؤهلة لكأس العالم التي جرت بعد ذلك بسنة في المكسيك 1970؟ بل إن مباريات كرة القدم توقظ أحياناً كثيرة حساسيات وعداوات بعيدة. وهكذا تعود أشباح ماضي الزمن الذي يتمنَّع علي مغادرة الذاكرة. وفي البال هنا ما حصل في المباراة النهائية من كأس آسيا سنة 2004 التي جمعت الصين واليابان. ففي وقت مبكر من يوم المقابلة حضر آلاف المُشجعين الصينيين وهم يرتدون الزي الموحَّد لجنود الاحتلال الياباني الذين غزو الصين في الثلاثينيات. وكانت الرسالة الموجهة لليابانيين أبلغ من أن تُفسَّر، ومعناها "نحن مستعدون لمواجهة الغزاة، وعليكم أن تروا حجم التعبئة التي تنتظركم"! وفي نفس الوقت كان آلاف آخرون يلوحون في مدرجات الملعب بلافتات ممهورة بالرقم "300000"، في إشارة إلي عدد المدنيين الصينيين الذين قتلهم جيش الغزو الياباني سنة 1937. ولكن، هل يمكن تحميل كرة القدم وحدها مسئولية تعكير صفو العلاقات الصينية اليابانية؟ لا، إن كرة القدم ليست أبداً سبباً في سوء علاقات البلدين، وإنما هي مجرد تعبير عن احتقان مستديم. إن أهم أسباب ذلك التأزم هو تاريخ مأساوي طويل عريض، لم يعطه البلدان ما يستحقه من اهتمام وفحص، وظنا أن صفحته قد طويت، قبل أن يقرآها سوياً. وعلي نقيض الحالة اليابانية- الصينية، نجد أن مباراة نصف النهائي التاريخي بين فرنساوألمانيا التي جرت في إشبيلية سنة 1982، لم تستدعِ أوجاع الذاكرة والتاريخ ولم تؤثر بأي شكل علي علاقات البلدين والشعبين، ولم تتعد الإثارة والمنافسة مدرجات الملعب، لأن العداء التاريخي القديم بين البلدين كان قد روِّض في النفوس كما ينبغي للعداءات والحساسيات أن تروَّض علي أفضل وجه. وحتي لا نغمط كرة القدم حقها، علينا أن نسجل أيضاً المواقف الإيجابية والرمزية الراقية التي تمكن عالم الساحرة المستديرة من تسجيل اختراقات وإنجازات فيها، أكثر مما سجلته خطب السياسيين الطويلة، خاصة في أكثر النزاعات وبؤر التوتر العالمية حدة وتعقيداً. ويمكن هنا أن نضرب مثالاً نراه متجسداً في كأس العالم التي ستنطلق قريباً في ألمانيا، وهو حالة ساحل العاج. فبإمكان القادة العاجيين، تعلم الكثير من لاعبي منتحب بلادهم، الذين نسوا بعد تأهلهم مباشرة للمونديال انتماءاتهم إلي شمال أو جنوب البلاد المنقسمة علي نفسها إلي شطرين متناحرين. ونفس الشيء يصدق حين نتحدث أيضاً عن منتخب البرازيل، فهو سفير فوق العادة للترويج لمهمة قوات التدخل الأممية التي تقودها البرازيل في هاييتي منذ سقوط نظام أرستيد هناك. وهذا يذكِّر أيضاً بأن إقامة مباراة لكرة القدم كان هو أول ما تم في العاصمة الأفغانية كابول بعد أن وضعت الحرب أوزراها. وليس هذا فقط، فقد سمح التنظيم المشترك لنهائيات كأس العالم سنة 2002 لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، بتسريع خطي المصالحة التاريخية بينهما. وكان عميق الدلالة أيضاً ذلك التصفيق الحار الذي لقيته إنجازات اللاعبين الكوريين الجنوبيين، علي الخط الآخر من خطوط التقسيم، في كوريا الشمالية. بل إن الرياضة تحديداً ظلت علي الدوام بمثابة "بارومتر" يعكس بأمانة حالة العلاقات الكوريتين. ومما يجدر ذكره، في هذا المقام، أن رئيس "الفيفا" السابق "جواو هافيلانج"، صرح ذات مرة بأنه يحلم بتنظيم مباراة بين المنتخبين الفلسطيني والإسرائيلي، وقد دفعه إلي ذلك خاصة نائب الرئيس الأمريكي السابق آل جور، كخطوة مساعدة لواشنطن في جهودها الرامية إلي حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ومفهومٌ أن مباراة كهذه لم ترَ النور بعد، وبالتالي فإن إسهام كرة القدم في سلام الشرق الأوسط مازال معلقاً، هو الآخر. ولكن، هل نلوم كرة القدم، ونتهمها بالفشل، وقد دخل من باب الفشل الذريع هذا، طيلة 50 عاماً، من هو أعظم شأناً وأبلغ تأثيراً، وفي المقدمة الطرفان المتنازعان، ثم جميع القوي الدولية المؤثرة، ابتداءً من القوي العظمي الأمريكية، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، إلي آخر المجتمع الدولي؟ أما مباراة الولاياتالمتحدة وإيران التي جرت في مونديال 1998 فقد كانت إحدي لحظات التآخي الإنساني بين الفريقين. وطبعاً لا أحد يشك الآن، في أن الوضع كان سيصبح أكثر حساسية لو كانت القرعة وضعت الفريقين في مباراة أخري. علي أن للرياضة أيضاً قيماً رمزية أخري تجعل إمكانية توظيفها عملاً مفيداً لجهود الحكومات. فهي تعطيها فرصة استثمار مؤكدة للتأثير في الرأي العام المحلي والدولي، وفي رهان لا يحمل في طياته مخاطر جسيمة. ولقد كتب المفكر نوربرت إلياس (1897- 1990) ذات مرة مبرزاً الجانب الرمزي السلمي في الكرة: "إن مشجعي مباراة كرة القدم يمكن أن يستحضروا أجواء المعارك الأسطورية، ويسقطوها علي ما يجري في الملعب، ولكنهم يعرفون مع ذلك أن مكروهاً لن يصيب لا اللاعبين ولا الجمهور نفسه". ولا يقتصر دور كرة القدم في تحجيم وقع المواجهة عملياً علي المستوي الرمزي، ولكنه يمتد أيضاً إلي تحجيم دواعي ترسبات الحنق ببسط شراع أمل يمكن التعلق بها دائماً لجمهور الفريق الخاسر، فلا توجد في عالم كرة القدم، لحسن الحظ، هزيمة نهائية. ففرص "الثأر" تبقي متاحة دائماً، وفي أجل مسمي هو أول منافسة مقبلة. وعلي ذكر "الثأر"، والتعلق بشراع الأمل المبسوطة دائماً في عالم الساحرة المستديرة، استعدوا نفسياً من الآن ل"ملحمة"- مباراة تجمع فرنساوألمانيا في كأس العالم الوشيكة! فربما "نثأر"، ولكن ليس لمعركة فردون (مدينة في شمال شرق فرنسا اشتهرت بمقاومتها الأسطورية للزحف الألماني سنة 1916) التاريخية، وإنما لمعركة إشبيلية الكروية، في مونديال 1982