الأمن القومي، يظل من المفردات "الغامضة"، وغير الواضحة بشكل جيد، في الوعي العام، وربما يبقى مختصرا في مفهوم واحد، بوصفه "عملا أمنيا" يخص أجهزة الاستخبارات. هذا المعنى أسس في مصر "عقلا اتكاليا" يعتمد على الأجهزة الأمنية، في تقرير ما هو "أمن قومي" من غيره من جهة .. و"عقلا كسولا" من جهة خرى، يميل إلى التثاؤب والكسل والقعود عن تحري المعاني، على النحو الذي يعصمه، من الوقوع في براثن "القابلية للاستغفال". غياب الوعي، عن الأمن القومي، أفضى إلى استسهال تقديم تنازلات كبيرة، في أمهات القضايا، شديدة التماس بالأمن القومي المصري، حين اعتبرها المصريون "تسامحا" أو "تعايشا" ولا شيء فيه. كانت من أبرز تجليات هذه الأزمة في الوعي العام المصري، الصراع على "الهوية المعمارية" لمصر، وأقصد به سباق بناء المساجد والكنائس، بين المسلمين والمسيحيين، إذ انتقدته النخبة بوصفه "فتنة طائفية".. فيما دافعت عنه العامة من المتحمسين الدينيين بوصفه "دفاعا عن الإسلام".. فيما خفي عن الطرفين فحواه ومعناه الحقيقي، بأنه صراع بين قوتين : قوة تحاول تغيير الهوية المعمارية لمصر(نصرنته).. وأخرى تحاول الحفاظ على هويتها الموروثة (أسلمته) والمستقرة منذ الفتح العربي الإسلامي لمصر. والحال أن "هوية" أي بلد في العالم، أيا كان نوعها، معمارية أو ثقافية، هي جزء من "أمنها القومي".. والتنازل عنها يعني التنازل عن "هويتها الحضارية".. وبعض الدول التي توصف بالديمقراطية، تعتبر المساس بتلك الهوية "خطا أحمر". في ألمانيا وهي بلد أوربي علماني شهدت مثل هذا الجدل، و"صراع الهويات" بين "قباب الكنائس" و"مآذن المساجد".. وانتصرت ألمانيا الرسمية في النهاية ل"قباب الكنائس" ورفضت أن تختفي الكنائس، من على صدارة المشهد المعماري في برلين، أو في المدن الألمانية الأخرى، حفاظا على هوية ألمانية المسيحية.. بوصفها مسألة أمن قومي. يغيب عن النخبة المصرية، مثل هذا المعنى، وتتنازل كثيرا عن أسس ومقومات أمنها القومي، تحت ذرائع شتى إما بسبب "المتاجرة" أو "المزايدة" والظهور بمظهر المثقف التنويري.. أو بدعوى نشر ثقافة التسامح في مجتمع يعاني من الغلو والتطرف الديني.. وكلها مبررات لا علاقة لها بأصل الموضوع وفحواه الحقيقي. وفي هذا السياق لا تفهم تلك النخبة، أن "المذهب السني" للمصريين، هو جزء من هوية مصر الثقافية.. وربما يتعدى الهوية إلى ما هو أكبر وأعمق، بوصفها أي مصر قوة "سُنية إقليمة" رائدة، لها دورها الرسالي، بما يحمله ذلك من معاني أخرى، فهي بلد الأزهر، أكبر مرجعية في العالم الإسلامي السني، أحد أهم وأخطر "القوى الناعمة" التي يدخرها صناع القرار في مصر، لحل الأزمات الدولية الكبيرة، خاصة تلك التي تكون الدول الإسلامية السنية طرفا فيها.المذهب السني إذن ليس ملفا ل"ثرثرة النخبة" أو عرضة للتنازل عنه أو تركه مستباحا للتبشير الشيعي.. لأنه باختصار شديد ملف "أمن قومي".. وتُسند إدارته إلى "القوى الخشنة" بالدولة، وليس لبرامج ال"توك شو" على الفضائيات.