أعلم أن مشاكل مصر كثيرة، وهناك من الملفات ما يستحق الكتابة عنه، وربما يدعو البعض إلى أن نعطي الاولوية لقضايا الفساد والتزوير والتوريث وما شابه.. وهم محقون في ذلك.. غير أن ثمة ملفات بالغة الأهمية لازالت في مساحة المحظور أو المسكوت عنه، أو ربما تجلب لمن يقترب منها شبهة التورط فيما يمهد لتصنيفه ضمن ما يطلق عليهم "القوى الظلامية". وفي تقديري أن أخطر الملفات التي لا يجوز اغفالها أو ارجائها هو ملف هوية مصر التي باتت عرضة لتهديد حقيقي منذ ما يقرب من ثلاث عقود مضت. أوروبا العلمانية ذاتها، قلقة على هويتها، وبالأمس ذكرت ما قالته رئيسة الوزراء الألمانية للمسلمين ونصحتهمم بأن عليهم أن يحترموا الدستور وليس الشريعة وإعادة تأكيدها على أن حضارة وهوية ألمانيا يهودية ومسيحية وأنها ستظل كذلك.. وكانت قد أعلنت في وقت سابق بأنها لن تسمح بأن تعلو قباب المآذن أبراج الكنائس! ونقلت في مقال يوم أمس أيضا عن صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية قولها إن باريس على استعداد لتحريك جيشها حال تعرضت هويتها المسيحية لأي تهديد!.. وتعهد ساركوزي عشية انتخابه أمام بابا الفاتيكان بأنه سيحافظ على مسيحية فرنسا التاريخية! وبلغ القلق في وعي النخبة الغربية حد تدشين جبهة أوروبية أمريكية بزعامة الإيطالية الراحلة أوريانا فالاتشي والأمريكي دانيال بايبس للتحذير من تحول أوروبا إلى "إمارة إسلامية" خلال الخمسين عاما القادمة! القلق الأوروبي ينطلق من مخاوف تتعلق بتنامي الإسلام الرمزي سواء في صيغته المعمارية "المساجد" أو الديمغرافي "اعتناق الاسلام" أو أسلمة الأزياء والتقاليد اليومية رغم أن الإسلام يمثل الديانة الثانية في غالبية الدول الغربية. مصر اليوم تمر بأسوأ تحدي داخلي، يتمحور حول هويتها، ولأول مرة منذ الفتح الإسلامي، تدخل في "صراع هويات" بعد أن أحالت السلطات الدينية الأرثوذكسية في مصر، المسيحية من "دين" إلى "هوية" وتصنيف البلد بين مواطن "أصلي" و"ضيف" تحت مظلة كنسية تتحرك وفق أجندة تأمل إعادة مصر بحسب زعمهم إلى أصولها القبطية. فإذا كانت أوروبا تتحرك من أجل الحفاظ على هويتها المسيحية من "الأسلمة" فإن مصر أيضا ينبغي أن يكون بين أولويات مناضليها السياسيين تشكيل حركة وطنية للحفاظ على هويتها العربية الإسلامية من "النصرنة". وأقول "حركة وطنية" لأنها من المفترض أن تضم مسلمين وأقباطا.. لأن الأقباط أيضا هم مواطنون ثقافتهم عربية إسلامية وإن كانوا يدينون بالمسيحية بمللها المتعددة .. وهو الوعي الذي كان سائدا بين قادة الحركة الوطنية المصرية وصناع الرأي في مصر إلى ما قبل عام 1971. [email protected]