- مآذن أثرية في محافظات الدلتا غير مسجلة رسميا - القنائي والمتولي والغمري ودومقسيس .. شواهد للجمال - المساجد بناها أمراء وليسوا سلاطين وشقت مآذنها عنان السماء
كتب – السيد حامد
حظيت القاهرة وأثارها بجل كتابات المؤرخين .. ولهذا رأى بعض المفكرين أن تاريخ مصر هو نفسه تاريخ القاهرة وما جري في قصورها من أحداث.. ربما جاء ذلك باعتبارها مركز الحكم سواء كان في الفسطاط أو القطائع أو القاهرة الفاطمية ، وقلعة الجبل في عصر المماليك ، وقصر عابدين في عهد الخديوي إسماعيل.
وتنافس حكام العاصمة وقاطنوها من الأغنياء على تشيد جوامع طالما شدت مآذنها وقبابها الأبصار ، وتعلقت بها العيون ، فيما توارت المنشآت الدينية التي ارتفع بنيانها في أقاليم مصر بما لها من جمال وما فيها من إبداع ..
لاستكمال الصورة الناقصة لتطور العمارة في مصر الإسلامية أصدر الدكتور مجدي عبد الجواد علوان ؛ رئيس قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة أسيوط , كتابه القيم "مآذن العصرين المملوكي والعثماني في دلتا النيل".
الكتاب كان في الأصل رسالة ماجستير تقدم بها الدكتور علوان إلى كلية الآداب جامعة طنطا عام 1998 م. ويتضمن مسحا شاملا قام به الباحث لقري ومدن دلتا النيل لحصر النماذج الأثرية ، سواء كانت مسجلة ضمن الآثار الإسلامية أو غير مسجلة.. والمفاجأة التي قدمها الباحث هي عثوره على العديد من المآذن التي لم تدرج ضمن سجلات المجلس الأعلى للآثار.
يقول المؤلف في مقدمة كتابه " ولن أكون مبالغا إذا ما قلت أن مآذن الدلتا بما احتوته في نماذجها الباقية من تنوع معماري وثراء زخرفي واستقلالية في الطراز الفني جديرة بأن تصنف وتدرج ضمن النماذج الشهيرة الواسعة من المآذن في مصر على وجه الخصوص ، غير أن مآذن القاهرة حازت على قصب السبق في تلك الشهرة ضمن التصنيفات العالمية".
ومستشهدا بعبارة العلامة الراحل الأثري الدكتور حسن عبد الوهاب "يوجد في النهر (الدلتا) ما لا يوجد في البحر (القاهرة)" ، يقدم المؤلف دراسة دارسة تفصيلية لما احتوته مدن الدلتا على عمائر دينية من جوامع ومدارس وزوايا متنوعة الطرز والوظائف ، تعد انعكاسا لما شهدته دلتا النيل من نهضة كبري امتازت بانتشار المذاهب الفقهية وكثرة طوائف الصوفية، بالإضافة إلى النشاط العملي والفكري الملحوظ.
عمائر مدن الدلتا باختلاف أنماطها المعمارية وإغراضها الوظيفية ، تمتاز في أنها ليست عمائر سلطانية كعمائر القاهرة ، بل هي عمائر أميرية أقامها أمراء أو ولاة أقاليم كانوا يعينون من قبل السلطان المملوكي أو الوالي العثماني ، والغالبية العظمي منها عمائر أهلية ، أقامها المصريون باختلاف طبقاتهم من علماء وتجار ومتصوفة يتقربون بها إلى السماء.
الباحث الذي جاب قري ومدن الدلتا وقدم وصفا ل 55 مئذنة ، يقرع الأجراس لإنقاذ المآذن التي بدأت تتهاوي بفعل تعدي الزمن عليها وأيدي التخريب ، وقلة الوعي بأهميتها ، وفوق ذلك إهمال الأجهزة المسئولة.
الكتاب ينقسم إلى نصفين، الأول يتضمن مسحا شاملا لمنارات الدلتا، فيما يقدم النصف الثاني دراسة تحليلية لها. واتبع الباحث في عرض المآذن التقسيم الجغرافي لمناطق الدلتا ، فسقمها إلى ثلاث مناطق رئيسية:
أولا- منطقة وسط الدلتا: وشملت محافظتي الغربيةوكفر الشيخ وتضمنت منارات مدن وقري المحلة الكبرى ، سمنود ، أبو صير ، أبيار ، محلة مرحوم ، فوه ، مطوبس ، محلة أبي علي بدسوق. ثانيا- منطقة شرق الدلتا: وشملت محافظات الدقهليةودمياطوالشرقية ، وتضمنت المنارات الباقية بمدن ميت غمر ، المنصورة ، دمياط ، بلبيس. ثالثا- منطقة غرب الدلتا: وشملت محافظتي البحيرة والإسكندرية ، وتضمنت دراسة منارات رشيد ، ديبي ، ديروط بحري ، إدفينا ، ومنارة واحدة بالإسكندرية.
وبلغ عدد المآذن التي شقت سماء وسط الدلتا لترفع نداء التوحيد نحو أربعا وثلاثين منارة ، بنسبة 64 % من جملة المنارات ، فيما حازت منطقة غرب الدلتا على ثلاث عشرة منارة تركزت معظمها في مدينة رشيد ، وتذيلت القائمة منطقة شرق الدلتا ، بعدما حافظت على ثماني منارات احتفظت بها من العصور الإسلامية.
في مدينة المحلة تزين سمائها مئذنة جامع المتولي والمعروف بجامع الطريني الكبير ، والذي يعد الأثر الكامل الوحيد المتبقي بالمدينة إلى الآن. ومنارته من أضخم منارات المحلة وأجملها على الإطلاق. ومنشأ الجامع هو أحمد بن على بن يوسف المحلي المعروف بالطريني، والملقب بمشمش. وبني جامعه قبل سنة 813 هجريا/ 1410 ميلاديا، وتوالت عليه الإضافات عبر العصور، محتفظا بمنارته الأصلية.
أما بالنسبة لتسميته بالمتولي- فيذكر الكتاب- أن تلك التسمية شاع إطلاقها على الجامع الكبير بالبلدة أو القرية والذي كان مخصصا لصلاة متولي الحكم فيها، وكانت عادة ما تعلق به المراسيم السلطانية, وهي تسمية انتشرت في مدن مصر وقراها بكثرة، فنجد جامع المتولي بسمنود وأبو صير بنا وجرجا وغيرها من المدن المصرية.
أما الصوفي الكبير الشيخ أبو العباس الغمري (1384- 1435 ) فقد كان محبا لبناء الجوامع حتى قيل أنه بني خمسين جامعا، نقل إليه الأعمدة من الكيمان والمعابد ما يعجزها عنها السلطان كما يقول عنه الشعراني في كتابه الطبقات الكبرى. وأشهر جوامع الغمري الباقية للآن جامع التوبة في مدينة المحلة الكبرى والذي أزيل حاليا وبُني على الطراز الحديث، وبقيت منارته المملوكية، لتنفرد أيضا بكونها الوحيدة من بين مآذن الدلتا التي بنيت من الحجر. وترك الشيخ المتصوف أيضا في ميت غمر مئذنة فريدة من نوعها في منطقة الدلتا ، قليلة في عددها حتى في القاهرة ، وهي المنارة المزدوجة للجامع الذي يحمل اسمه لليوم. وهي النموذج الوحيد المتبقي بالوجه البحري للمنارات المزدوجة الرأس.
ومنارة الغمري في ميت غمر تختلف عن نظيرتها في المحلة في الشكل ومادة البناء ، فهي هنا مبنية من الطوب ، وتتكون من ثلاثة طوابق مربعة بارتفاع 27 مترا ، تعلوها رقبتان على هيئة قمع أو قلة بدنها أملس مسلوب لأعلي ، تحملان خوذتين على هيئة عقد منكسر ، يخرج من مركز الواحدة سفود بارز به ثلاث تفافيح يعلوها هلال.
وفي سمنود يطوف بنا الكتاب بين مساجدها البديعة ، ويبدأ بجامع المتولي الذي بُني في القرن الثامن الهجري ، لكن الزمن أتي عليه ، ليعاد بناءه على الطراز الحديث ، ويفتح أبوابه للمصلين سنة 1995 ، ولم يبق من الجامع القديم إلا منارته التي تقوم على قاعدة مربعة شاهقة الارتفاع ، يليها طابق مثمن ، ثم طابق ثان أصغر من سابقه تعلوه خوذه على هيئة مبخرة يعلوها سفود طوب. وبعد جامع المتولي يعرج بنا الكتاب إلى جامع سلامة بن نزيها والذي يقال أنه كان صحابيا للرسول واستقر بمصر ، وقد اندثر الجامع وبقيت منارته التي تقوم على قاعدة مربعة يعلوها طابق مثمن يعلوه بدن اسطواني منخفض الارتفاع تعلوه رقبة مسلوبة المنتصف، كانت تعلوها خوذة بصلية سقطت في زلازل 22/11/1995، قبل أن يعاد بنائها عام 1997.
وفي مدينة فوه ، بمحافظة كفر الشيخ ، يقدم الكتاب منارة جامع القنائي (العارف بالله المشهور) كمثال لاستخدام منارات الجوامع التي تطل على صفحة النيل في إغراض دنيوية، حيث استخدمها المسلمون في هداية السفن، شاركها في ذلك منارة جامع سالم أبي النجاة والتي ترجع للعصر المملوكي قبل سنة 916 هجريا/ 1510م، وقد ظلت هذه المنارة قائمة حتى سنة 1735 م، وكانت شاهقة الارتفاع، تعلو في السماء 40 مترا، ويتمدد أمامها على شاطئ النيل ميناء ترسو فيه السفن.
رحلتنا في كتاب "مآذن العصرين المملوكي والعثماني في دلتا النيل" وصلت سفينتها الآن إلى ميناء رشيد ، المدينة الباسلة التي تصدت لزحف الحملة الفرنسية ، فكان نصيبها مدافع التي دكت بعض بيوتها وخربت المنارة الغربية لمسجدها الرويعي، فيما نجت منارته الشرقية بطوابقها الثلاث، وتعلوها رقبة أسطوانية تحمل خوذة بصلية. أما جامع دومقسيس، فينفرد بين باقي جوامع رشيد بكونه الوحيد المعلق، أي يضم حوانيت ومخازن يستفيد منها عامة المسلمين. ومنارته أيضا تقوم على قاعدة مربعة يعلوها طابق مثمن.
ويختتم الباحث كتابه بتلك الكلمات القوية لعلها تنبه العيون الغفلى والقلوب اللاهية ، يقول "أن الدلتا في مصر كانت تحتفظ بمجموعة عظيمة وكبيرة من العمائر الدينية ما بين مساجد ومدارس وزوايا ولكن ما أصابها من إهمال قضي على كثير منها".. العجيب أن هذا الإهمال جاء نتيجة عدم تسجيل بعض المنارات ضمن الآثار الإسلامية بحجة ضرورة أن يكون الجامع بأكمله أثريا كما حدث مع منارتي الطريني وابن عز بالمحلة الكبرى مما أدي إلى قيام الأهالي بهدمهما. ومآذن الدلتا رغم ما أصابها وضياع أغلبها في غفلة المسئولين مازال الباقي منها يؤكد أن لكل إقليم طرازا فنيا بذاته ، ومنها ما ساير العمارة الإسلامية في القاهرة إبان ازدرها في العصر المملوكي ، ومنها ما امتاز عليها أحيانا حين تعثرت نهضة العمارة الإسلامية في العصر العثماني. وما تبقي كان دليلا على أنه " يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر".