لقد كان لانتصار أكتوبر أثر هائل على مسار الفنون المصرية فى مختلف أشكالها. السينما، التى طالما كانت مرآة المجتمع، انشغلت بتخليد البطولة وتوثيق تفاصيل الحرب، فأنتجت أفلامًا أصبحت علامات فى تاريخها مثل الرصاصة لا تزال فى جيبى والعمر لحظة. والفن التشكيلي، بريشته وألوانه، رسم الجندي وهو يعبر، وصوّر الدم والتراب والنيل والعلم، حتى تحولت اللوحات إلى أيقونات بصرية تشهد على تلك اللحظة التاريخية. أما الأدب، فقد استعاد صوته بعد صمت طويل، فكتب الشعراء والروائيون عن البطولة والفقد، عن معنى الأرض والكرامة، عن الإنسان الذى ينهض من تحت الركام ليعيد كتابة مصيره. ما يميز أثر حرب أكتوبر على هذه الفنون هو هذا الكمّ الهائل من الأعمال التى ظهرت بعدها مباشرة، وكذلك التحوّل العميق الذى أحدثته فى بنية الوعى الفنى ذاته. لقد علّمت أكتوبر الفنان المصري أن الفن يمكن أن يكون سلاحًا، وأن الجمال لا ينفصل عن الحقيقة، وأن الكلمة قد توازى الرصاصة فى أثرها، والصورة قد تكون أكثر بقاءً من المعركة ذاتها. من هنا نستطيع القول إن أكتوبر لم يغير مجرى السياسة والتاريخ فقط، بل غيّر مجرى الفن والثقافة، وأعاد إليهما رسالتهما الأولى: أن يكونا لسان الأمة وعينها وذاكرتها. الصورة السينمائية السينما.. الذاكرة المرئية للانتصار من بين كل الفنون التى استجابت لانتصارات حرب أكتوبر، كانت السينما هى الأكثر حضورًا وتأثيرًا فى تشكيل صورة النصر داخل الوجدان الشعبي. فالسينما، بما تمتلكه من لغة بصرية قادرة على اختراق الوعي، لم تكتفِ بأن تحكى ما جرى، لكنها جعلت من لحظة العبور أسطورة حيّة تُعاد روايتها بالصوت والصورة والحركة واللحن. ولعلنا إذا أردنا أن نقرأ أثر الحرب على السينما، فإننا لا نقرأ أفلامًا وحسب، بل نقرأ كيفية صياغة أمة لذاكرتها عبر الشاشة الفضية. جاء أكتوبر، وإذا بالسينما تنقلب من خطاب الحزن إلى خطاب النصر. ظهرت أعمال سينمائية سريعة عقب الحرب مباشرة، كان الهدف منها تثبيت صورة النصر فى الوجدان، مثل الوفاء العظيم وبدور والعمر لحظة. غير أن الأثر الأبرز ظل متمثلًا فى فيلم الرصاصة لا تزال فى جيبى للمخرج حسام الدين مصطفى، والمأخوذ عن قصة للكاتب إحسان عبد القدوس. هذا الفيلم لم يكن مجرد رواية بصرية عن الجبهة والقتال، بل كان وثيقة نفسية عن المواطن المصرى الذى عاش الهزيمة، ثم شارك فى النصر. بطله "محمد" يعود من الحرب مثقلًا بذاكرة النكسة، لكنه يعيد اكتشاف ذاته فى لحظة العبور، ليصبح رمزًا لجيل كامل استعاد إيمانه بنفسه. وإذا كانت بعض الأفلام قد سعت إلى التوثيق المباشر لمعارك الحرب وأحداثها، فإن أخرى حاولت أن تحكى الحرب من خلال مصائر إنسانية صغيرة، لتجعل البطولة أكثر قربًا من الناس. فى فيلم العمر لحظة، نتابع حكاية صحفية مصرية تعيش تفاصيل الجبهة، لتكتشف من خلال الجنود أن البطولة ليست فى العناوين الكبرى فقط، بل فى تفاصيل الحياة اليومية: جندى يكتب رسالة إلى أمه، أو آخر يخبئ خوفه بابتسامة. هنا، تلعب السينما دورًا مزدوجًا: من جهة تعيد صياغة صورة الجندى كبطل، ومن جهة أخرى تكشف عن إنسانيته، لتصبح البطولة امتدادًا للحياة لا انقطاعًا عنها. كما قدّمت السينما نوعًا آخر من التسجيل غير المباشر: تسجيل الوجدان الجمعي، أى تصوير كيف عاش المدنيون الحرب من بعيد، وكيف تحولت الشوارع المصرية إلى فضاءات مشحونة بالانتظار، بالقلق، ثم بالفرح العارم بعد إعلان العبور. فالفن السينمائى هنا لم يقتصر على تصوير ساحة المعركة، بل وسّع زاوية الرؤية ليشمل البيت، والجامعة، والقرية، فى توازٍ مع الجبهة. بهذه الطريقة، جسدت السينما مقولة أن حرب أكتوبر لم تكن حرب الجيش وحده، بل حرب الأمة بأكملها. ولعل ما يميز الأفلام التى ظهرت بعد أكتوبر أنها لم تكتفِ بالتسجيل، بل حملت وظيفة علاجية للوجدان. كانت البلاد بحاجة إلى أن تُشفى من جرح الهزيمة، والسينما لعبت هذا الدور، حيث نقلت المشاهد من صورة الانكسار إلى صورة الانتصار. إنها عملية إعادة كتابة السردية الوطنية من جديد: من "أين كنا؟" إلى "أين أصبحنا؟". فالفيلم لم يعد مجرد تسلية، بل صار أداة لصياغة التاريخ النفسى للأمة. إن السينما المصرية بعد حرب أكتوبر لم تكن مجرد انعكاس للحرب، بل كانت فى حد ذاتها معركة أخرى: معركة ضد النسيان، معركة ضد الهزيمة النفسية. لقد صنعت السينما صورة بصرية للنصر ستظل عالقة في ذاكرة المصريين لعقود طويلة، وربما لهذا السبب نرى أن كل ذكرى لانتصار أكتوبر تستدعى عرض هذه الأفلام مرة أخرى، وكأنها لا تزال تكتب التاريخ، وكأن الرصاصة حقًا "لا تزال فى جيب المصري"، لا بمعناها الحربى فحسب، بل بمعناها الرمزي: أن مصر تحتفظ دومًا بطاقة المقاومة والقدرة على النهوض. هكذا نستطيع أن نقول إن السينما لم توثق الحرب فقط، بل أعادت صياغتها جماليًا، ونقلت التجربة من حدود الزمان والمكان إلى فضاء أرحب هو فضاء الذاكرة الوطنية. كانت الشاشة البيضاء أشبه بمرآة جماعية، يرى فيها المصريون أنفسهم وهم يعبرون القناة، ويعيدون كتابة قدرهم بدمائهم وأحلامهم. لم يقدّم الفيلم المصرى بعد أكتوبر الجندى كبطل خارق منفصل عن البشر، بل قدّمه كإنسان له ضعف ورغبات، لكنه يكتشف فى لحظة الخطر طاقته الكامنة. فمحمد بطل الرصاصة لا تزال فى جيبى ليس شخصية أسطورية منذ البداية، بل هو شاب مهزوم، عاش تجربة الأسر والخذلان بعد النكسة، ثم حمل داخله الرغبة فى الانتقام واستعادة الكرامة. هنا تكمن قيمة البناء الدرامي: البطولة لا تولد من فراغ، بل من معاناة، من تجربة الهزيمة، من تراكم الألم. وهكذا تصير الحرب لحظة انبعاث شخصى قبل أن تكون نصرًا قوميًا. أما فى العمر لحظة، فإن البطولة تتجلّى فى شخصية الصحفية (ماجدة الصباحي) التى لم تحمل بندقية، لكنها حملت القلم والكاميرا، وعاشت مع الجنود فى الخنادق، لتكشف أن البطولة ليست حكرًا على من يقاتل بالسلاح، بل أيضًا على من يوثّق ويشارك الوجدان. هذا التوسيع لمفهوم البطولة منح السينما أفقًا أوسع: لم يعد البطل جنديًا فقط، بل قد يكون طبيبًا فى المستشفى الميداني، أو أمًا تودع ابنها، أو حتى امرأة تكتب مقالًا فى صحيفة. ومن اللافت أن السينما التى تناولت النصر لم تتخلّ عن عنصر الحب، بل وظفته كخيط درامى يربط بين حياة الفرد والحرب. فى الرصاصة لا تزال فى جيبى نتابع علاقة محمد ب"فاطمة"، التى تمثل رمز الانتظار والصبر، فهى المرأة التى اختبر حبها محنة الغياب والخذلان ثم انتصار العودة. هذا الربط بين قصة الحب والمعركة جعل البطولة أكثر إنسانية، إذ يصبح القتال ليس فقط من أجل الأرض، بل من أجل أن يعود المحارب إلى من يحب. الحب هنا ليس تفصيلًا ثانويًا، بل هو ما يمنح التضحية معناها. الفن التشكيلى يرسم ملامح الانتصار إذا كانت السينما قد خلدت الحرب بالصوت والصورة، فإن الفن التشكيلى قد التقط لحظاتها فى اللوحة والتمثال والملصق. برزت معارض عديدة بعد الحرب تحمل أعمالًا للفنانين المصريين الذين نقلوا مشاهد العبور، وجعلوا من خط بارليف رمزًا يتكرر فى التشكيل كجدار تحطّم تحت إرادة الجندي. لوحات حامد ندا وحسين بيكار وصلاح طاهر وغيرهم صوّرت الجندى فى لحظات العبور، والعلم المصرى وهو يرفرف على الضفة الشرقية للقناة. كان اللون الأحمر حاضرًا كرمز للدم والشهادة، والأصفر كرائحة الصحراء، والأخضر كبشارة بالنصر. أما التماثيل والنصب التذكارية فقد خلدت فى الحجر لحظة النصر، كما فى نصب الجندى المجهول، الذى تحوّل إلى فضاء رمزى يجمع الأمة حول ذكرى من ضحوا. لم يكن الفن التشكيلى محايدًا، بل انخرط فى مهمة وطنية واضحة: رفع الروح المعنوية، وتسجيل لحظة الانتصار للأجيال القادمة. لكن مع ذلك، لم تخلُ اللوحات من بعد جمالى خالص، إذ استطاع الفنانون أن يحوّلوا الحرب من مشهد دموى إلى أيقونة جمالية. فالجندى على القماشة لم يكن مجرد مقاتل، بل بطلًا أسطوريًا يندمج فيه الواقعى بالرمزي. وهكذا جسّد الفن التشكيلى روح أكتوبر، بين التوثيق والرمزية، بين الحقيقة والحلم. الأدب يرفض الهزيمة كان الأدب المصرى بعد نكسة 1967 مثقلًا بالمرارة والخيبة، لكن أكتوبر فتح نافذة جديدة للأمل. ظهرت قصص وروايات تعكس تجربة الحرب مثل أعمال يوسف إدريس فى قصصه عن الجنود، ورواية الرجال والجبال لعبد الرحمن فهمي. كذلك قدّم الشعراء مثل عبد الرحمن الأبنودى وصلاح جاهين قصائد تمجّد الانتصار وتعيد رسم صورة الجندى بوصفه ابن الشعب. الأدب هنا لعب دورًا مزدوجًا: من ناحية تسجيل أحداث الحرب، ومن ناحية أخرى إعادة بناء وعى الأمة بالبطولة. كان الانتصار مادة خامًا للكتابة الإبداعية التى مزجت الواقعى بالملحمي، فجعلت الحرب جزءًا من الأسطورة الوطنية. الرواية، بطبيعتها، أكثر الفنون الأدبية قدرة على الغوص فى أعماق التجربة الإنسانية. وقد ظهرت نصوص كثيرة تركز على تجربة الجندى العادي: خوفه، شوقه لأهله، لحظات الانتظار قبل المعركة، وذاكرة أصدقائه الذين رحلوا. فى هذه النصوص، لم يكن الانتصار عسكريًا فقط، بل إنسانيًا أيضًا، لأنه كشف عن طاقة الفرد على التضحية، وعن قدرة الإنسان على تجاوز ضعفه. الرواية ما بعد أكتوبر لم تُكتب كلها بلغة التمجيد، بل حمل بعضها لغة التأمل والبحث عن معنى الحرب نفسها، وعن ثمن النصر. وهكذا قدم الأدب وجهًا آخر للانتصار، وجه الذاكرة والإنسانية. كان الشعر أيضا الوسيلة الأسرع والأكثر انتشارًا فى التعبير عن حرب أكتوبر. عبد الرحمن الأبنودى بملحمته أحمد سماعين، وصلاح جاهين بأشعاره العامية، وأمل دنقل بقصيدته الشهيرة لا تصالح التى حملت بعدها السياسي، كلها نصوص جسّدت الحرب فى بعدها الوطنى والإنساني. الشعر هنا لم يكن مجرد إبداع فردي، بل صوت جماعى يردده الناس فى الشوارع والبيوت. لقد أعاد الشعر صياغة الوعى الجمعي، وأثبت أن الكلمة لا تقل فى أثرها عن البندقية. حضور طاغ أربعون عامًا وأكثر مضت على حرب أكتوبر، ومع ذلك ما زالت هذه الحرب حاضرة فى السينما، فى اللوحات، فى الروايات، وفى الأغاني. لقد تجاوزت الحرب كونها حدثًا عسكريًا إلى أن أصبحت رمزًا ثقافيًا يعاد إنتاجه فى كل جيل. فى كل ذكرى للانتصار تُعرض الأفلام مرة أخرى، وتُقام معارض تشكيلية، وتُقرأ قصائد، وكأن أكتوبر لم ينتهِ، بل هو نص مفتوح لا يكفّ عن توليد المعاني. إن أثر حرب أكتوبر على الفنون والثقافة المصرية لا يكمن فقط فى ما أُنتج بعدها مباشرة، بل فى كونها أصبحت مرجعًا للهوية الوطنية، ومصدرًا دائمًا للإلهام. لقد علّمت الفنانين أن الفن يمكن أن يكون سلاحًا، وأن الجمال يمكن أن يكون وجهًا آخر للانتصار. حرب أكتوبر ليست مجرد صفحة فى كتاب التاريخ العسكري، إنها فصل كامل فى كتاب الإبداع المصري. السينما حفظت اللحظة بالصورة، والفن التشكيلى باللون والخط، والأدب بالكلمة. كل فن سجّل انتصار أكتوبر بطريقته، لكن جميعها التقت عند هدف واحد: أن تبقى مصر حيّة فى ذاكرتها، قوية فى صورتها، مؤمنة بقدرتها على الانتصار مهما عظمت التحديات. لقد أثبتت حرب أكتوبر أن الفن ليس زينة للحياة، بل جزء من صلبها، وأن الكلمة واللوحة والصورة قادرة أن تحمل، مثل البندقية، معنى النصر ووهج الكرامة.