اعتبر الدكتور جلال أمين المفكر الاقتصادي المصري أن العوامل الخارجية تعيننا تماما على فهم أسباب تردي أداء مصر الاقتصادي على مدار التاريخ منذ عصر محمد علي وحتى اليوم ؛ فعلى سبيل المثال تعد فترتا محمد علي من 1810 وحتى 1840 وجمال عبدالناصر من 1956 حتى 1967 من أزهى عصور مصر الاقتصادية، والسبب أن الدول الغربية كانت مشغولة عن مصر بصراعاتها العسكرية ، لكن فيما بعد ركزت القوى الأوروبية والأمريكية على الشرق الأوسط ومصر بالتحديد ، فقاموا باستغلال ديونها لصندوق النقد الدولي ولهم في إملاء شروط على مصر مجحفة تكرس التبعية والذل. وقد اشترط الدول العربية المانحة بمؤتمر الخرطوم في السيتنيات أن يقلل عبدالناصر من نبرة الحماس للقومية العربية والمقاومة للمشروع الغربي الصهيوني، والرجل لم يستجب تماما لشروطهم، لكن السادات استجاب وقد أمروه، كما وصف أمين، أمروه بأن يفتح البلد للاستثمارات الغربية التي تضعف من اقتصادنا ففعل، وشهدنا الانفتاح الاقتصادي الذي أصبح "سداح مداح" بلا أي رابط والأخطر زيارة إسرائيل وتوقيع معاهدة كامب ديفيد بتوصية من نيكسون . وفي الثمانينات استجاب مبارك لشروط صندوق النقد الدولي بعد أن بلغت مديونية مصر الخارجية نحو 45 بليون دولار ، وقام بالخصخصة وبيع القطاع العام وما أسماه وقتها ببرنامج الانفتاح الاقتصادي وكان في الحقيقة كارثة على البلاد، لكن في المقابل ردت أمريكا بإعفاء مصر من نصف ديونها المستحقة لها!! .
وقد شهدت مكتبة الشروق مساء أمس حفلا شهد حضور غفيرا لتوقيع كتاب جلال أمين الجديد "قصة الاقتصاد المصري" ، بحضور المهندس ابراهيم المعلم والصحفي وائل جمال والكاتب أسامة عرابي والمستشار محمود فهمي الرئيس السابق لهيئة سوق المال .
وردا على تساؤل "محيط" قال جلال أمين أنه لو أصبح حاكما للبلاد كان سيبادر بمنع الدور السلبي للسفارات الأمريكية بمصر حتى لو وصل الأمر بإغلاقها، وكذلك كان سيختار عشرة من الرجال الوطنيين الأكفاء بالاقتصاد لوضع خطة انقاذ عاجلة وطويلة المدى ، وأخيرا كان سيبادر بتغيير "20" اسما في المواقع الحساسة المصرية وبينها الوزارات بالطبع .. قائلا : مشكلة مصر يحلها رجال وطنيون وليسوا عباقرة ؛ فحتى لو أعدنا تدريس الكتب التي كان طه حسين يختارها في الخمسينات سنجد جيلا متعلما ومثقفا ، لكن المناهج التعليمية اليوم في منتهى السفه .
وردا على تساؤل آخر، أكد "أمين" أن الثورة لا يد لها في أزمة مصر الاقتصادية؛ فالحقيقة أن مبارك يبدو تعرض لضغوط أمريكية لتعيين وزراء يستجيبون لسياسة صندوق النقد، وقد اختار الرجل أحمد نظيف وكان وزيرا غير هام على الإطلاق، وجعله رئيسا للحكومة، ثم جاء نظيف بوزراء مصريين مقتنعون تماما بسياسات صندوق النقد ، والحقيقة أنه خلال السنوات الأولى من حكومة نظيف أي خلال 2004 – 2008 كان معدل النمو يزداد ووصل 8%، ورغم أن الزيادة كانت نابعة من استثمارات لا تشغل العاطلين ولا تحقق تنمية ولكن كان هناك بادرة أمل، ثم لما جاءت الأزمة المالية العالمية عاد معدل النمو للانخفاض ، وبالتالي فليست الثورة هي السبب وإنما من يحكموننا بعد الثورة هم السبب.
وأضاف : أستشعر اليوم أن صندوق النقد أملى على حكامنا بيع المرافق العامة وخصخصتها، ففكروا في موضوع "الصكوك" لتكون وسيلة للبيع، لكن أعطوها صفة "إسلامية" وهو ما عارضه الأزهر، ثم لما وجدوا أن الصندوق غير راض عن الوسيلة سكت الحديث عن هذه الكارثة تماما ! وكمثال آخر للتبعية التي نعيشها نرى قيادي بحزب الحرية والعدالة هو الدكتور عصام العريان يقول بأهمية عودة اليهود المصريين! ولا نعلم من أين اختلف هذه القضية ومن هم الذين يخاطبهم !
أما المؤسسة العسكرية فيرى أمين أنها مسئولة عن خطايا اقتصادية كثيرة عشناها، ولكنها كانت على أية حال أخف من الذي جرى بعد أن حكم الرئيس مرسي .
وفي إجابة عن سؤال حول تجارب الأمم الناهضة وكيف استطاعت الفكاك من عقال الغرب، قال جلال أمين : كل حالة من حالات الدول الكبرى تخفي قصة لها خصوصيتها؛ فعندنا مثلا الصين ذات الحجم الضخم الذي يبتلع أي معوقات أمامه ، وكذلك الهند التي صنعت برنامجا صناعيا مميزا ، والبرازيل استطاعت في العشر سنوات الأخيرة أن تضاعف مواردها ، وهذا فيه إشارة لأهمية الاتجاه بالتعاون مع تلك الدول وعدم الاكتفاء بالغرب ، لابد أن نمد أيدينا لإيران وتركيا والصين والهند ، حتى لو غضبت أمريكا وستفعل قطعا . وأتذكر حين قال لي قريبي وكان سفيرا لمصر بالبرازيل أن حاكمها كان أيام مبارك يتمنى زيارة مصر وكان الأخير لا يمكنه استضافته خوفا من خشية أمريكا !
أما عن حكومة هشام قنديل الحالية فهي برأي أمين "سايبة" لا تفعل شيئا، وكل شيء ينهار أمامها ولا تحرك ساكنا، وتساءل: هل هناك صعوبة حتى في تأمين مبنى المجمع المصري لتيسير مصالح المواطنين ؟!
سأله وائل جمال، الصحفي الاقتصادي البارز، عن سر إصرار الغرب على إقراض مصر رغم عدم وجود فوائض مالية لديها حاليا، فأكد جلال أمين أن مصر بالتحديد لديها كل الثروات من موارد بشرية وطبيعية والغرب يعلم أنها سوق كبيرة لمنتجاتها وللاستثمار ويكفي أن لدينا فوق كل ذلك البترول وقناة السويس، لكن الأزمة – يواصل أمين – أن القوى الكبرى لا تريد مصر قوة مثلها لها صوت، ومن هنا فهي تقرضها وتشترط عليها أن تفعل أشياء بعينها في المقابل لضمان التبعية، ومنها إلغاء الدعم على السلع أو الخصخصة أو فتح باب الاستثمارات الغربية وكلها لا تكون إنتاجية عادة ..
وأضاف أمين : الحقيقة أن الحديث عن القروض الدولية أو الخليجية ذو مرارة بالغة، وقطر بالتحديد مثلا وجه لأشياء مخيفة حقا . يمكن أن نكون اليوم في وضع نتعرض فيه للحديث عن سيناء وتدويلها ، أو استغلال الكهرباء وقناة السويس والمرافق لصالح الغرب والخليج !
أخيرا أكد أمين أن أخلاق المصريين بخير والدليل ما قاموا به خلال الثورة المصرية فكنا نرى السيدة القبطية تصب الماء للشيخ المسلم ليصلي، وكنا نرى الشباب ينظفون الميادين ويطلونها بالألوان الزاهية ، لكن الحقيقة أن الإحباط سكن الجميع بعد الأنظمة الرديئة التي سادت بعد الثورة .. واللحظة تلك تذكرنا بما قبل ثورة 1952 حيث كان الحديث فقط عن الإقطاع وفساد الحاشية والملك ، ولما جاء محمد نجيب وجدنا ليلى مراد تغني بالاتحاد والنظام والعمل وكأنها تلهم الشباب بأسباب النهضة وكان الجميع يشمر عن سواعده للعمل بعد الثورة ..
وأكد أمين أن هذا الشعب يتعامل مع همومه بسخرية بالغة، ونقل ما ذكره صديقه جون ووتر مدير الجامعة الأمريكية السابق ببيروت من أنه التقط صورة لرجل يمسك بالأتوبيس بالكاد وسط زحام رهيب ويبتسم لمن يصوره، أو اليافطات التي رفعها الثوار في عز الأزمات بميدان التحرير ليرحل مبارك . وهذه تؤكد أن هذا الشعب لا يمكن أن يموت .