ألقى الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" ، الكلمة الرئيسة في افتتاح جلسة العمل الخاصة في مدينة باكو لمناقشة موضوع : (الحوار بين أتباع الأديان باعتباره أداة لبناء الثقة) . و أشار إلى أن كثيرًا من النزاعات الشائكة والأزمات الناشبة والحروب الطاحنة التي تشهدها اليومَ مناطقُ شتى من العالم، لها جذور مختلفة منها ما هو ديني، للانحراف في فهم رسالة الأديان، وللتعصب والتشدّد المفرط وما ينتج عنهما من تطرف وعنف يعطلان التفكير السليم، وانتهاج السلوك القويم الذي من مقوماته احترامُ الحق في الاختلاف وقبول الآخر والتعامل معه بالحكمة، والاقتراب منه للتعرف على هويته والتقارب بين ثقافته. وهو ما يتحقَّق به السلام الثقافيّ، والتعايش الديني، والوئام الحضاري. وأكد المدير العام للإيسيسكو أن الدين في حقيقته هو رسالة هداية للبشر، ودعوة إلى الخير والعدل والفضيلة والسلام والإخاء، وليس دعوة إلى الصراع والصدام، أو تحريضٌ على الكراهية. وأبرز أن التعارف في اللغة العربية يعني تبادل المعرفة بين البشر الذي يُفضي إلى إيضاح الحقائق وتصحيح المفاهيم، ويدفع في اتجاه نمائها وتعدد مناحيها. وفي ذلك إنماء للثقافات وازدهار للحضارات وإقرار للأمن واستتباب للسلام، موضحًا أن المعرفة الصحيحة قوة للإنسان، وطاقة لا حدود لها للبناء الحضاري، وهي تتأسّس على العلم الصحيح الذي ينفع الناس، وعلى الوعي الإنساني الذي تستنير به الضمائر، وتقوى الهمم للعمل من أجل الارتقاء بالحياة الإنسانية. وأعلن أن الحوار بين أتباع الأديان، هو فرعٌ من الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، وهو أعمق دلالة ً وأشدّ تأثيرًا من أنواع الحوار جميعًا، وعلى مختلف المستويات. ولذلك كان التركيز على تمهيد السبل أمام المؤمنين كافة، ليلتقوا على أرضية مشتركة، وليبحثوا القضايا الإنسانية من المنطلقات الدينية المشتركة، وفي ضوء التعاليم السماوية السمحة، بعيدًا عن التعصب والانغلاق، وازدراء المخالف أو الخوف منه، هو إحدى الوسائل العملية لبناء التعايش السلمي بين أتباع الأديان، تعزيزًا للتعايش الديني الذي هو الأداة الفعالة للإسهام في صياغة النظام العالمي الجديد على أسس ٍ راسخةٍ من التفاهم والوئام والإخاء الإنساني. وأوضح أن من خلال هذا المنظور الإنساني الممتد الآفاق، وانطلاقًا من إدراكنا العميق لطبيعة المتغيرات المتسارعة التي يعرفها العالم في هذه المرحلة الحرجة، فإن توظيف الحوار بين أتباع الأديان في إرساء قواعد السلام العالمي، يشكل دعمًا قويًا للجهود التي يبذلها صانعو السياسات على الصعيد الدولي لمواجهة الأزمات الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، بحيث يكون الحوار الديني مكمّلا ً للحوار الثقافي، وقاعدة للحوار السياسي. وقال : « إن التجربة العملية التي مارسناها على مدى سنوات من العمل في هذا المجال الحيوي، تؤكد لنا أن السبيل إلى تعزيز الحوار بين أتباع الأديان لبناء الثقة بين الأمم والشعوب ولترسيخ قواعد السلام العالمي، ينطلق من احترام القوانين الدولية ذات الصلة التي تجرّم ازدراء الأديان، وتأجيج الكراهية، والتمييز الديني والعرقي والثقافي، والتي تحمي التنوع الثقافي الخلاق، وتؤكد على احترام الخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب». موضحًا أن انتهاك القوانين الدولية يترتَّب عليه فساد في الأرض، ودمار للحضارة، وهلاك للإنسان. وهو ما يَتَعَارَضُ كليًا مع القيم الأخلاقية التي جاءت بها الأديان لتخرج الإنسان من ظلمات الظلم والقهر والعدوان، إلى أنوار الحق والعدل والإنصاف. وأضاف إن الوقت قد حان لإعادة النظر في السياسات المعتمدة للتعامل مع ظاهرة الإرهاب التي باتت تهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، بعد أن أثبتت التجارب طوال العقدين الماضيين، أن المقاربة الأمنية التي تتم بمعزل عن المقاربة الثقافية بالمفهوم الواسع، لم تحقق الهدف المنشود. وذكر أن الحوار بين أتباع الأديان في إطار التسامح والاحترام المتبادل، وقبول الاختلاف الديني والثقافي، هو جزء لا يتجزأ من هذه المقاربة الثقافية والفكرية التي قال إنها ضرورة مؤكدة التي تلزمنا بها مسؤوليتنا إزاء مواجهة الأخطار المحدقة بالإنسانية. يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم : )ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين(. مشيرًا إلى أن اختلاف الألسنة والألوان، هو اختلاف الثقافات والأجناس وما تنتمي إليه من أديان. وذلك كله آية ٌ من آيات الله في خلقه. وأوضح أن النظام العالمي الحالي، الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بإنشاء منظمة الأممالمتحدة سنة 1945، قام على أسس لم تكن راسخة الرسوخ اللازم، وانطلق من الحرص على مصالح القوى العظمى المنتصرة في الحرب، مشيرًا إلى أن ميثاق الأممالمتحدة لم يكن منسجمًا تمامًا مع المبادئ الإنسانية، ومتشربًا بالقيم الأخلاقية، بالقدر الذي يجعله يعبر عن الضير الإنساني، ويلبي احتياجات الأمم والشعوب للحرية، وللكرامة، وللعيش الآمن. كما أعلن أن النظام العالمي الحالي لا يعبر عن جوهر الإنسان الذي جاءت الرسالات السماوية متجاوبة ً معه، ومؤصّلة ً له، وداعية ً إلى صونه والحفاظ على نقائه. ولذلك يتوجَّب النهوض بالمسؤولية التي نشترك فيها جميعًا، من أجل تجديد البناء للنظام العالمي، تعزيزًا لدواعي الأمن والسلم الدوليين. وقال : « هنا تكمن الأهمية القصوى للمسألة الحيوية التي نعرض لها في هذه الجلسة الحوارية، التي هي في حقيقة الأمر، إحدى أهم المسائل التي يعنى بها هذا المنتدى العالمي الذي نجتمع في إطاره، والتي تعدّ المفتاح للولوج إلى عالم تسوده قيم التعايش والتسامح والوئام، وتنتصر فيه إرادة الخير والحق والفضيلة والعدل، على إرادة الشر والباطل والرذيلة والظلم». وبيّن الدكتور عبد العزيز التويجري أهمية الموضوع الذي تناقشه الجلسة، فوصفه بأنه من موضوعات الساعة الأكثر إلحاحًا على الصعيد العالمي، لأن الأسرة الدولية تتطلع اليوم إلى البدائل للفشل في معالجة الأزمات المستعصية حتى الآن على التسوية، في منأى عن القيم الدينية، مما يدفع إلى تنامي الصراعات وتفاقم النزاعات وتعاظم المخاطر. وقال ليس هناك من بديل أقوى تأثيرًا في مسارات الأحداث العاصفة الجارية في مناطق شتى، من تعزيز الحوار الحضاري والواعي والمسؤول بين أتباع الأديان، في ظل القيم الدينية السامية. ومضى قائلا ً : « لئن كان المناخ الدولي الذي يسود في هذه المرحلة، حيث تَتَصَاعَدُ موجات الكراهية والعنصرية والإسلاموفوبيا، لا يساعد في إنجاح المساعي الحميدة على صعيد تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات، فإن الإصرار على مواصلة بذل الجهود، بدافع من الاقتناع بجدوى هذا العمل الذي نقوم به، يقوي فينا العزيمة على بلوغ الأهداف التي نسعى إليها، من أجل إنقاذ عالمنا من أهوال الحروب، وفواجع الأزمات، ومخاطر النزاعات المهددة للسلام العالمي». وأعلن في ختام كلمته أن عالمنا اليوم في أشدّ الحاجة إلى تقويم الاختلال في موازين القوى، بما يرجّح كفة العدل والمساواة وحقوق الإنسان، ويقوّي إرادة السلام، ويهزم إرادة الحرب والصراع والصدام. وقال إن تلك هي مسئولية أولو العزم من القيادات الدينية والفكرية والثقافية التي جعلت من تعزيز الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، رسالة ً لها في الحياة تؤديها على الوجه الأكمل، وتنهض بها في هذه المحافل بصدق وإخلاص.