دخلت وعلي وجهها القمحي القام وجع الأيام وقطرات العرق تتصبب من جبهتها المتشققة تحمل علي ذراعيها طفل لا يتعدي عمره عشرة شهور بينما يتعلق بذيل جلبابها الأسود طفلين .. ولد وبنت لا يعبآن بشئ فلم يعرفا من الحياة سوي سنوات تعد علي أصابع اليد ، ثم تأتي خلفها بنت جميلة ذات شعر قصير وكأنه تم قصه منذ فترة ليست بطويلة يبدو علي ملامحها الإرهاق والتعب الجسيم تتوجع من كثرة الأم الذي لحق بها .. لا تعبر ثانية حتي تراها تتفوه بكلمة آه ..آه دون مجيب . جلست الأم وأولادها حولها بعربة المترو التي كنت أستقلها للذهاب إلي عملي .. جلست وفي عينيها حزن غامر لأيام قست عليها .. أيام لم ترحمها لصغر سنها فهي ‘مرأة في ريعان شبابها أذاقتها الحياة العذاب بفقر مدقع تراه علي ملابسها وملابس أولادها المهلهلة ولك تكتفي الحياة بذلك بل حملتها ثقل أكبر وهو أربعة أولاد في رقبتها إحداهم بنت مريضة متوجعة لا يعلم أحد أين أبيها ولماذا هو ليس الآن معها يحمل عن عن أمها شيئًا مما تكهله كاتفيها ؟!. ولكن رغم كل ذلك لم تعبر هذه القسوة التي عانت منها إلي قلبها فما زال يملؤه الإيمان القويم بإله قد يظن الجميع عندما يري حالها ويسمع سيرتها أنه تركها ونبذها .. اله يعيش في قصر بعيد في السماء لا يبالي بحال البشر الفقراء .. ولكن هي ما تزال تراه بعين الإيمان في قلبها وحياتها تثق بيده وعمله مؤمنة بأنه عن قريب سيمد يد العون ويشفي ابنتها . فكلما توجعت الابنة قائلة "آه .. يا أمي مش قادرة أستحمل الوجع " تجد الأم ناظرة اليها بنظرة عطف وحنان مجيبة بقولها "معلش يا حبيبتي .. استحملي .. ارفعي عينك وقولي يارب .. قولي الحمدلله". سمعتُ هذه الجملة وصعقت " الحمدلله" رغم كل ما بها من الآلآم تحمد ربها علي الرغم من أن كثير ممن يعيشون حياة كريمة مرفهة عندما تصيبهم بلوة صغيرة يتذمرون ويلومون الههم متسائلين لماذا يفعل بنا هذا ! وتصل بهم الدرجة لأن يتذمرون علي خالقهم " ارحمنا .. أنت تقسو علينا " واضعين في بالهم أن الله مترصد لهم بالأخطاء ماسكاً سوطاً يعاقب به البشر علي كل صغيرة وكبيرة غير عارفين أن الله لا يشتهي الشر بل يحب الانسان فلهذا خلقه ، وأن كل ما يلحق بالانسان من بلايا يأتي نتيجة أفعاله الحمقاء وما زرعه آباؤه من تشوهات في الطبيعة "فكل ما يزرعه الانسان فاياه يحصد ". ولكن هذه الأم المؤمنة لا تدخل إلي عقلها أو قلبها تلك الأفكار فالايمان قد تعمق في قلبها لدرجة تحاول بها زراعته في ابنتها المتوجعة من شدة المرض واثقة بمعونة الله اياها فبعد أن تركها البشر لا تجد هذه البائسة سوي اللجوء الي الله القدير الرحيم الذي يحتضن بأذرع الحنان كل الذين خاب آمالهم فيمن حولهم . انها أم بمعنى الكلمة بل وأيضاً انسانة رقيقة رغم فقرها وجهلها وبيئتها التي تظهر في هيئتها الا أنها تعلمت أصول التعامل الذي يجهله كثير من أصحاب الشهادات العليا .. فرغم أننا في محطة مترو مزدحمة والجميع يتلاصق ببعضه الا أن هذه المرأة لا تضايق أحدا ً وان ضايقت أحد عن غير عمد تسرع بالأسف وان قدم لها أحد مساعدة بأن يجلسها مكانه لمرض ابنتها وطفلتها التي علي يدها همت بالشكر والابتسام رغم ما بها من هموم . وبهذا كانت فعلا هذه الأم نموذجاً رائعاً للأم المصرية الأصيلة التي مهما أنهكتها الأيام والمحن لن يعبر الضيق الي قلبها المملوؤ بالايمان والرجاء . انها صورة جميلة للمصرية العريقة .. نعم ليست فخمة أو مبهرة ولكنك تشتهي النظر اليها تأخذ منها قدوة وعبرة تتذكر ايمانها عندما تقسو عليك الأيام . وكانت لحظات تعجبتُ فيها ولكن تعلمتُ الكثير فلم يقدم لي عالم جليل الموعظة كما قدمتها لي هذه المرأة الفقيرة العطيمة .. فخرجتُ من العربة وصورتها تعلقً بذهني وكلامها يتكررُ إلي أذني .. ونظرتها تلوحُ أمام عيني بين الحين والآخر .. وخرجت وفي بالي صورةٌ لها .