لم يجد شاعر النيل حافظ إبراهيم عقوبة أشد وأقسي يمكن أن يفرضها الاستعمار البريطاني علي مصر من اللعب في ماء النيل أو تحويل مجراه عن مصر.. وحتي إن فعل ذلك فإنه لن يفت في عضد المصريين ولن يسمحوا لأحد أن يمس كرامتهم أو يتعرض لحياتهم بسوء.. فقال في قصيدة وجهها إلي الإنجليز في أبريل 1932: حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا واطمسوا النجم واحرمونا النسيما واملأوا البحر إن أردتم سفينا واملأوا الجو إن أردتم رجوما إننا لن نحول عن عهد مصر أو ترونا في التراب عظما رميما فاتقوا غضبة العواصف إني قد رأيت المصير أمسي وخيما وأمير الشعراء أحمد شوقي كان يري النيل قوة جبارة خارقة لا قبل للبشر بها قال في قصيدة رائعة مخاطبا النيل عنوانها "أيها النيل": من أي عهد في القري تتدفق؟ وبأي كف في المدائن تغدق؟ ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولا تترقرق وبأي عين أم بأية مزنة أم بأي طوفان تفيض وتفهق؟ أتت الدهور عليك مهدك مترع وحياضك الشرق الشهية دفق تسقي وتطعم لا أناؤك ضائق بالواردين ولا خوانك ينفق ويختتم القصيدة الطويلة موجها حديثه للنيل: فاحفظ ودائعك التي استودعتها أنت الوفي إذا اؤتمنت الأصدق للأرض يوم والسماء قيامة وقيامة الوادي غداة تحلق "وتحلق أي تجف - من حلقت الإبل إذا ارتفع لبنها وجف" وهذه من النبوءات لأمير الشعراء أو من التقدير الواعي لأهمية ومكانة النيل وأيضا تحذير مبكر من أن اللعب في النيل أو تجفيف منابعه - لا قدر الله - معناه قيام القيامة نهاية النهاية للوادي الذي كان سعيدا..!. ولشوقي عدد من القصائد التي استلهم النيل فيها. في مقدمتها قصيدته الجامعة "كبار الحوادث في وادي النيل" ملحمة شوقي الكبري التي جعل النيل فيها بمثابة المكان والزمان وجعل حركة الزمن تتوازي وفق حركة النيل وخلوده عبر الزمن. تأتي بعدها قصيدته الثانية "النيل" التي تشكل ملحمة النيل الخالد معددا صفات النيل وما يمثله للبشرية من قيمة. علي الرغم من أن قصيدة النهر الخالد كتبها الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل إلا أنها ارتبطت في أذهان الناس باسم الموسيقار محمد عبدالوهاب خاصة بعد أن لحنها وغناها. مسافر زاده الخيال والسحر والعطر والظلال ظمآن والكأس في يديه والحب والفن والجمال شابت علي أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبال ولم يزل ينشد الديارا ويسأل الليل والنهارا والناس في حبه سكاري هامو علي أفقه الرحيب آه علي سرك الرهيب وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب يا واهب الخلد للزمان يا ساقي الحب والأغاني تجري وتجري هواك نارا حملت من سحرها نصيب آه علي سرك الرهيب وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب وقد غني موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب للنيل عام 1933 للنهر العظيم أغنيته المشهورة.. النيل نجاشي حليوة أسمر عجب للونه دهب ومرمر أرغوله في إيده يسبح لسيده حياة بلادنا يا رب زيده وها هو شاعر العامية العبقري بيرم التونسي يقف أمام النيل متجليا طالبا شهادته فبما أنه مصدر السعادة والهناء والخير فليكن شاهدا علي السعادة والهناء التي يحياها وينعم بها مع حبيبته. وقد شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم في مطلع الخسمينيات فأضافت إلي سحر الكلمات سحرا آخر.. يقول بيرم: شمس الأصيل دهبت خوص النخيل يا نيل تحفة ومتصورة في صفحتك يا جميل والناي علي الشط غني والقدود بتميل علي هبوب الهوا لما يمر عليل يا نيل أنا واللي احبه نشبهك بصفاك لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك وصفونا في المحبة هو هو صفاك مالناش لا احنا ولا انت في الحلاوة مثيل أنا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا مطرح ما يرسي الهوي ترسي مراسينا والليل إذا طال وزاد تقصر ليالينا واللي ضناه الهوي باكي وليله طويل أنا وحبيبي يا نيل غايبين عن الوجدان يطلع علينا القمر ويغيب كأنه ما كان بايتين حوالينا نسمع ضحكة الكروان علي سواقي بتنعي ع اللي حظه قليل يا نيل هكذا كان الغناء والتغني للنيل وبالنيل.. إلي أن انقلب الحال وأصبحنا نعامل النيل أسوأ معاملة حتي يكاد يحتج علينا من المنبع.. أصبح النيل مقلبا للزبالة والنفايات حتي الخطرة منها للمصانع وغيرها والسفن والبواخر السياحية وغير السياحية.. الاعتداءات مستمرة علي جوانبه ليل نهار وعمليات التضييق لمجراه تجري علي قدم وساق وناطحات السحاب علي جوانبه تخنقه وتخنق الناس وتحرمهم من الاستمتاع برؤيته ومشاهدة جماله المتدفق. الآن أصبح النيل يشكو منا بعد أن كان هو الملجأ والملاذ للشكوي والبوح في ساعات الصفا والأنس والقرب وحتي الغضب. نسينا النيل وأهملناه وتلاعبنا به في المصب فلعب الأعداء والمتربصون والحاقدون في المنبع.. أخذونا علي غرة.. ولم نستيقظ إلا علي مشروعات تشييد وسدود تبني ومؤامرات تحاك لتغيير الاتفاقات والمعاهدات.. وفوجئنا بحجج وأباطيل وأكاذيب وتطاول من هنا وهناك ومساومات حتي من الأعداء والباحثين والمتطلعين إلي لعب أدوار علي أي صعيد وكذلك الباحثون عن أوراق للضغط والمساومة والكعبلة واللخبطة وما إلي ذلك مما يعتد به علي صعيد المشاغبات الدولية وليس العلاقات واحترام قواعد القانون الدولي أو ما اصطلح علي تسميته ب "الشرعية الدولية". ومن المفارقات أن تتزامن الحوادث وتجتمع.. أزمة مع دول المنابع.. جنوب السودان علي وشك الانفصال.. وفي الحالتين كنا أشبه بمن ناموا في العسل أو في الوحل علي وجه الدقة ولم ننتبه إلا بعد فوات الأوان وأنه كان من الواجب أن نتحرك مبكرا حتي لا تصل الأمور إلي ما وصلت إليه.. وكما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم: أفقنا بعد نوم فوق نوم علي نوم كأصحاب الرقيم..!!.