لقد أثبت البحث العلمي صعوبة أو استحالة خطر منع تدفق مياه النيل الأزرق من الحبشة إلي مصر, رغم ما أدي إليه هذا الهاجس من قلق طبيعي في مصر, سواء بسبب الجهل العلمي التاريخي, أو بسبب التهديد الاستعماري الحديث. وبوجه خاص, كان الاستعمار البريطاني يلعب دورا مزدوجا بالغ الخبث والخسة, إذ كان يوغر إلي الآخرين بفكرة الادعاءات المائية أو التلويح بها أو التلميح إليها ويكاد يضع كلماتها في أفواههم, وفي الوقت نفسه يتقدم إلي مصر ذاتها في ثوب المدافع والمكافح الصلب عن حقوقها المشروعة ضد هذه الادعاءات. ومن قبيل الجهل العلمي التاريخي, أنه حين تعاظم المد الثوري الوطني المصري ضد الاستعمار الفارسي في القرن الرابع قبل الميلاد, فكر أردشير الثالث في تحويل مجري نهر السند, الذي كانوا يعتقدونه حينذاك رافدا أو منبعا للنيل, لكي يمنع مياهه عن الوصول إلي مصر تأديبا لها وردعا, كما نقرأ لدي جمال مرسي بدر في دراسته' نهر النيل في تاريخ الفكر الجغرافي'( المجلة, أكتوبر1957). ثم جاء جغرافي الإسكندرية العظيم إتر اتو ستيني في القرن الثالث قبل الميلاد وكان أول من رسم خريطة للنيل تشمل العطبرة والأزرق, وأشار عابرا إلي أن النيل كما ينبع من بحيرات تقع حوالي خط الاستواء فإن فيضانه يرجع إلي سقوط الأمطار في المناطق الاستوائية. وهكذا, ومع المعرفة بمنابع النيل, حين شحت مياه الفيضان ووقع الغلاء العظيم المعروف بالشدة المستنصرية في منتصف القرن الخامس الهجري' أشيع أن الحبشة سدت مجري النيل, فتوجه البطرق أو الخليفة المستنصر بالله إلي الحبشة وطلب منهم إطلاق النيل', كما نقرأ لدي أمين سامي في تأريخه الشهير تقويم النيل. وبعد أن خنق البرتغال مصر موقعا بطريق الرأس, فكروا في أن يخنقوها موضعا عن طريق أعالي النيل, فاتصل أحد مغامريهم الفاتحين بملك الحبشة يطلب شق مجري من منابع الأزرق إلي البحر الأحمر, تتحول المياه إليه, وتترك مصر بعد فطامها تموت جفافا حتي تختفي من الخريطة, لتصبح من' الواحات المفقودة'! كما نقرأ لدي جمال حمدان في شخصية مصر. وجاءت مرحلة الاستعمار الإيطالي الفاشستي للحبشة فأعطت فرصة للاستعمار البريطاني في مصر كي يدعي ويبدو أنه حامي حمي مصر من الخطر الإيطالي المحدق والمطوق مرتين, مرة من الغزو العسكري من ليبيا ومرة من العطش المائي من الحبشة. ويرصد صاحب شخصية مصر أن الاستعمار البريطاني منذ دخل حوض النيل سارع- غير مدعو- إلي الحصول أكثر من مرة علي تأكيدات وتعهدات دولية من إمبراطور الحبشة بعدم التدخل أو التصرف في مياه النيل بأي شكل دون الرجوع إليه والاتفاق معه. ولم يكن لهذه التأكيدات والتعهدات من داع سوي مجرد فتح عيون الحبشة علي إمكانية ذلك التدخل أو التصرف بعينه الذي طلب الابتعاد عنه, من ناحية, وتهديد مصر بطريقة ملتوية غير مباشرة حتي تخضع لوجوده وسيطرته, من ناحية أخري. وفي السودان اتخذ الاستعمار البريطاني من مياه النيل أداة للضغط السياسي والمساومة يرغم بها مصر علي الخضوع له, وانتحل حججا مكشوفة- مثل حادثة السردار- ليخلق عقبات في مجري النهر يسلب بها مصر جانبا من الماء. ويوضح محمد عوض في كتابه' نهر النيل' كيف أن الاستعمار البريطاني قد أوعز إلي بعض عملائه المحليين بأكذوبة وخرافة' الحقوق المغتصبة' يشرعها في وجه' الحقوق المكتسبة', ويبين كيف أن العبث بمياه النيل بقصد إلحاق الأذي بمصر وسكانها أمر جري في رؤوس كثير من الإنجليز. فمنذ كيتشنر علي الأقل كان القصد النهائي من السياسة المائية البريطانية في السودان هو تهديد مصر سياسيا والتحكم فيها وإخضاعها للإرادة الاستعمارية! ويعترف فالنتين تشيرول في كتابه' المسألة المصرية'( لندن عام1929) بأن:' خطط تخزين مياه النيل الأزرق والأبيض في السودان كانت توضع وتعد تحت إشراف لورد كيتشنر الشخصي'... وكانت السياسة البريطانية المخططة العامدة هي الإكثار من السدود والخزانات والمشاريع المائية والزراعية في السودان, لتضع في' أيدي هؤلاء العابثين سلاحا شديد الخطر'. وكان التمادي في تلك السياسة يهدد مصالح مصر, إذ تؤدي بالضرورة وفي النهاية إلي تخفيض مستوي النيل, بحيث يتعذر ملء الحياض في بعض السنين علي الأقل, ويتفاقم خطر الجفاف عموما في سني الفيضانات الشحيحة جدا علي الأرجح. وتنفيذا لهذه السياسة فرضت بريطانيا علي مصر اتفاقية مياه النيل سنة1929, التي كان فيها إجحاف واضح بمصالح مصر وضغط حاد عليها, وأعطت بريطانيا مزيدا من التحكم في مياه النيل. وعمليا, تم تحت السيطرة البريطانية إنشاء خزانين للمياه في السودان. فقد أقيم خزان سنار ليغذي مشروع الجزيرة لزراعة نحو ثلث مليون فدان قطن, وحتي قبل أن يتم المشروع كان قد تحول إلي سلاح سياسي ضد مصر, حيث اهتبلت بريطانيا فرصة حادثة السردار ذريعة لتطلق يدها في التوسع في مشروع الجزيرة إلي مليون فدان, وهو ما كان كفيلا بتهديد موارد مصر في سنوات الفيضانات الفقيرة. وأقيم خزان جبل الأولياء لحساب مصر للإفادة المنظمة من ظاهرة تحول النيل الأبيض إلي شبه بحيرة مغلقة أثناء الفيضان تحت قوة اندفاع مياه النيل الأزرق. لكن جسم السد بني أعلي من مستوي الحجر كثيرا, الأمر الذي كان يعني إمكانية زيادة التخزين أمامه مستقبلا, إما لمصلحة مصر وإما ضدها, حيث من الثابت أن' من يتسلط علي خزان جبل الأولياء وتسول له نفسه أن يضر القطر المصري يمكنه أن يتحكم في إيراد المياه الصيفية الآتية للقطر المصري من النيل الأبيض', الذي هو مورد مياه النيل الوحيد في فترة التحاريق. وبذلك وبغيره نجحت بريطانيا, أو كادت, في أن تختلق تعارضا ظاهريا في المصالح المائية الحيوية بين مصر والسودان. وتكررت سياسة الدس والإيقاع بين دول الحوض وتأليبها علي مصر مائيا بصورة مكشوفة. وهكذا, صرح أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية:' لو أنني كنت المهدي لجعلت مصر تدفع ثمن كل لتر من الماء يجري في النيل'! وفي عهد عبد الناصر ارتفعت أصوات في مجلس العموم نفسه تطلب' منع مياه النيل عن التدفق إلي مصر'! كما حدث في أزمة السويس, وعمدت بريطانيا الاستعمارية قبل أن ترحل إلي استثارة أوغندا وكينيا وتنزانيا للمطالبة بحصص في مياه النيل! وفي عملية السد العالي, كانت إحدي الذرائع التي تعلل بها الغرب لسحب عرض قرض تمويل بناء السد- بعد أن وافق عليه فنيا وهندسيا- هي زعم أنه' يضر ببعض الدول الإفريقية الواقعة في حوض النيل'! وكان من المهازل تهديد العميل تشومبي في الكونغو( زائير) بتحويل منابع النيل بها عن طريقها الطبيعي! ردا علي موقف مصر ضد حركته الانفصالية. وفي عهد السادات, ارتفعت في إثيوبيا المرتبطة بالنفوذ السوفيتي نغمة التهديد بالتصرف في مياه النيل من طرف واحد! والواقع- كما يخلص جمال حمدان- فإن حقوق مصر الطبيعية والتوازن الطبيعي بين الموارد والحاجات المائية وكفاية المياه الطبيعية لكل بلدان حوض النيل وضمانات الطبيعة لمصر, إضافة إلي بناء السد العالي, توفر الأمن المائي لمصر. لكن هذا كله, لا ينبغي أن يقلل من عزيمة مصر علي تعزيز أمنها القومي والإنساني وحماية أساس وجودها بمضاعفة النفع المتبادل بينها وشقيقاتها من بلدان حوض النيل, ليس فقط بمجابهة لخطر نقص المياه في السنوات العجاف, بل أيضا بتنمية الموارد المائية المتاحة لها جميعا بمضاعفة الاستغلال المشترك لوفرة المياه في السنوات السمان, وهو ما استهدفته مبادرة حوض النيل. وتبقي علي مصر المسئولية الأهم للمبادرة بتعظيم فرص التعاون الاقتصادي والتنموي الشامل علي أساس تبادل المنافع وتوازن المصالح, وهو ما تسعي إليه الحكومة المصرية أخيرا وبجدية ملحوظة خاصة مع السودان وإثيوبيا. [email protected] المزيد من مقالات د. طه عبد العليم