بادئ ذي بدء عندما نقول أن العالم والمجتمع الدولي أصابه الوهن والضعف فإننا نشير إلى الخلل الذي أصاب عملية حكم هذا العالم. فالحكم هو مفهوم قديم قدم التاريخ الإنساني. وهو يشير إلى مجموعة مركبة من العمليات والهياكل، العامة والخاصة على السواء، التي تضمن استيعاب وتوفيق المصالح المتعارضة والتوصل إلى حلول توافقية. كما أن الحكم – بشكل عام - يعني مجموعة القواعد التي يتم من خلالها إنفاذ القوة لصالح مجموعة معينة. وبالتالي فإن حكومة العالم تتصرف لصالح الدول وعليها أن تتيح لهم فرصة المشاركة في صنع القرارات بصورة متكافئة وفي إطار من الشفافية، والمصداقية، بل وتكون مسئولة أمامهم، وهو ما يجعل أي حكم حكما جيدا. وتعتبر الأممالمتحدة بمنظماتها المتعددة تعبيراً عن هذا الحكم من خلال الوعي بضرورة حوكمة العالم بعد الحرب العالمية الثانية بسبب خلفته من دمار وخراب ونتيجة لصراع الأيديولوجيات وحروب الهيمنة والسيطرة والاستحواذ بين كل من دول المحور ودول الحلفاء. لذلك لا تقتصر الحوكمة العالمية على النظر فقط نحو المؤسسات وإجراءاتها، وإنما البحث في فلسفات وجودها وعمق القيم التي تحكم بقائها. إن مفهوم أو فكرة الحوكمة كمفهوم معاصر تم صياغته في العقد الأخير من القرن العشرين كفكرة مبتكرة هدفها تسيير أمور البشر بشكل يضمن لهم حياة كريمة على المستويين الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، يقود إلى التساؤل حول ما إذا كانت القرارات السياسية التي تتخدها منظمة الأممالمتحدة وطريقة عمل منظماتها مازالت قادرة على تيسير أمور البشر في المجتمع الدولي المعاصر وضمان حياة كريمة لهم من خلال تحقيق السلم والأمن الدوليين؟ الإجابة بكل وضوح "لا". فما يشهده العالم من توترات ونزاعات وصراعات تتفجر غرباً وشرقاً وشمالا وجنوباً مؤشر على ضعف قدرة حكومة العالم ممثلة في الأممالمتحدة على الاضطلاع بأدوارها التي صاغتها عقب الحرب العالمية الثانية. فقدرتها على منع نشوب الحروب أقل بكثير عن الحروب التي تنفجر بين الحين والأخر. بل إن ما يثير الدهشة والريبة هو أن بعض الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والتي دعت إلى إنشاء منظمة الأممالمتحدة هي نفسها التي تضرب بأهداف الأممالمتحدة وقيمها عرض الحائط لصالح لغة القوة والهيمنة والاستحواذ، الأمر الذي تسبب في تزايد الأصوات التي تطالب بإعادة النظر في حوكمة العالم لتجنب كارثة الانزلاق نحو حرب عالمية جديدة! ومن أهم مطالب الحوكمة العالمية الجديدة الانتقال الذهني والفعلي من مرحلة الحرب العالمية الثانية التي ولت وانتهت منذ عقود طويلة إلي حالة إدراك وجود عالم جديد مترابط متعدد الأقطاب والنفوذ والمصالح. وهو ما يعني وجود دول فاعلة لابد وأن تنضم لمجلس اتخاذ القرارات الدولية مثل البرازيل والأرجنتين والهند وجنوب أفريقيا ومصر والمملكة العربية السعودية...إلخ. كما أن هذه الدول جميعها دول عالم نامي أو آخذ في النمو وتتشابك مصالحها مع دول العالم المتقدم بل ترفده بالموارد البشرية والمادية. المطلب الثاني في عملية إصلاح الحوكمة العالمية هو تطوير قواعد التصويت في مجلس الأمن المعني بالأساس بالتسوية السلمية للمنازعات وإتخاذ الإجراءات في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، بالإضافة لعمليات حفظ السلام، بأن يكون التصويت بنسبة الثلثين بعد ضم أربع دول تمثل دول العالم النامي ليصبح مجموع الدول الدائمة في عضوية مجلس الأمن تسع دول بدلا من خمس. أما بالنسبة للمطلب الثالث فهو البحث عن آلية مستدامة ومبتكرة وحديثة لتمويل الأممالمتحدة ومنظماتها بعيداً عن استئثار دولة أو عدة دول بالحصة الأكبر في التمويل. وهو ما يقتضى أن تضطلع دول العالم جميعها بدور أكبر في رفد المنظمة بموارد مالية تمكنها من أداء مهامها بشكل أكفأ. ويرتبط بما سبق قيام منظمة الأممالمتحدة بإدارة أفضل لمواردها وأصولها. ما سبق يشير إلى أهمية أن تغتنم دول العالم اللحظة الراهنة لطرح نموذج حوكمة عالمية جديد يحقق الامن والاستقرار والعدالة والانصاف والتنمية المنشودة للبشرية.