عندما يُذكر مصطلح المجتمع الدولى فإن أفضل ما يعبر عنه هو منظمة الأممالمتحدة خاصة جمعيتها العامة، ففى شهر سبتمبر من كل عام تلتقى 193 دولة ذات سيادة فى الجمعية العامة بنيويورك لأجل مناقشة أمور هذا الكوكب الذى نعيش عليه جميعًا. اليأس والاستسلام ينظر الكثير إلى المنظمة الدولية على أنها أداة ضعيفة لضبط حركة مجتمعنا الدولى بسبب توغل قوى الهيمنة على مصائر البشر وإعلاء مبدأ القوة على العدل، لذلك فقدت المنظمة سطوتها على العالم من أجل إقرار السلام وترسيخ التنمية وهما يتعارضان -فى أغلب الأحيان- مع مصالح القوى المهيمنة على مقدرات الشعوب. يبدو هذا الطرح الذى يتبناه الكثيرون منطقيًا عندما نرى حركة المجتمع الدولى والقوى المؤثرة فيه على مستوى الواقع العملى والسياسى المعاش على كوكبنا المثقل بالهموم. يدفع هذا الطرح العقل الإنسانى الباحث عن العدالة والسلام إلى مناطق رمادية من اليأس وتجعله يقبل الاستسلام لهذه القوى المهيمنة على مقدراته بدعوى أنه لا أمل فى تغيير الواقع المكبل بمصالح قوى كبرى. يكشف تاريخ هذه المنظمة الدولية وفلسفة وجودها حقيقة مغايرة بعيدة عن هذا الطرح المؤدى إلى اليأس والاستسلام، فتاريخ الأممالمتحدة وظهورها للوجود كان فى حد ذاته تمردًا على الجانب المظلم فى العقل الإنسانى. بعد أن تخطت البشرية كارثة الحرب العالمية الثانية ظهرت للوجود الإرهاصات المنظمة الدولية، وفى أكتوبر 1945 بدأت الإرهصات تتحول إلى واقع بعد دخول معاهدة سان فرانسيسكو لميثاق الأممالمتحدة حيز التنفيذ. الهيمنة والاستغلال لم تكن وقائع الحرب العالمية الثانية وقائع عادية مماثلة للحروب السابقة التى سقط فيها الجنس البشرى وراح ضحيتها الملايين، فرغم جسامة الحروب السابقة وكارثيتها فأن محركها الأساسى كان الطمع البشرى والصراع على مناطق النفوذ والجشع فى استغلال ثروات الضعفاء. بالتأكيد لم تخل دوافع الحرب العالمية الثانية من آفة الجنس البشرى الأصلية وهى الطمع وجنون الهيمنة على مقادير الأمم البريئة واستغلال ثرواتها. لكن الحرب العالمية الثانية أظهرت آفة أخرى تعانى منها الإنسانية أكثر وحشية وشراسة من آفتها الأصلية وهى الفاشية كأيديولجيا ومعتقد محرك للحرب ويفوق فى همجيته الهيمنة والاستغلال. الفارق بين الآفتين شاسع وكارثى، فآفة الإنسانية الأصلية رغم بشاعتها لها فى النهاية حد يمكن أن تقف عنده بمجرد تحقيق غرضها؛ متمثلا فى استعمار الأمم الأخرى واستغلال مواردها، هذا عكس الفاشية التى لا تعرف حدودًا فى التدمير. يعتبر جزء من تركيب المعتقد الفاشى هذه الهيمنة والاستغلال لكن هدفها الرئيسى لا يتوقف عند تحقيق هذا الجزء لكن هى تريد الفناء الكامل للآخر سواء بسبب انتمائه العرقى أو الدينى، إنها هنا لا تريد الاستغلال بل القضاء الكامل على الإنسانية التى تخالفها فى انتمائها أو معتقدها. السلم والأمن استيقظ العالم على هذه الحقيقة المروعة والتى انحرف إليها العقل الإنسانى وكشفتها الحرب العالمية الثانية بجلاء أمام عقلاء الإنسانية، فكان لازما وضع آلية دولية تستطتع على الأقل تحجيم هذا الانحراف فى العقل الإنسانى، فكانت منظمة الأممالمتحدة. إذ إن نشأة هذه المنظمة الدولية كانت فى أساسها لمواجهة وضبط السلوك المدمر للعقل الإنسانى وليس الفاشية فقط، ومازالت حتى الآن تعمل المنظمة الدولية بهذا المفهوم رغم العقبات ومحاولات القوى الكبرى تحجيم دورها وإبعادها عن القيام بمهامها فى حفظ السلم والأمن الدوليين. هذا بالنسبة للتاريخ الخاص بأكبر المنظمات الدولية على كوكبنا، أما جمعيتها العامة التى تعقد جلساتها طوال هذا الشهر وتستمر لفترات أخرى يحقق انعقاد هذه الجمعية فى كل عام مبدأ مهمًا فى العدالة الإنسانية، فكل أمم العالم يكون لها نصيب متساو فى الحضور والتواجد بعيدًا عن تصنيفات القوة والغنى والفقر؛ وهو ما تسعى إلى تحقيقه الجمعية العامة بمجرد انعقادها، تعطى الجمعية العامة أيضًا فرصة جيدة لجميع الأمم بأن تطرح وجهة نظرها فى الوضع الدولى من خلال الزعماء الذين يمثلونها فى الجمعية العامة. هذه الفرصة ليست هينة بل ضرورية خاصة فى ظل فرض قوى الهيمنة لسطوتها على سوق الميديا، وقدرتها على قلب الحقائق أمام العالم لصالحها أو لصالح حلفائها. فكرة الدولة إذا نظرنا لموقف مصر من المنظمة الدولية وجمعيتها العامة سنجد مصر هى عضو مؤسس للمنظمة الدولية منذ نشأتها ومصر عندما تتعامل مع الأممالمتحدة فإن تعاملها يتخطى المفهوم الضيق للعمل السياسى والقانون الدولى ويصبح التعامل بمفهوم أشمل إنسانيًا وأعمق حضاريًا. تذهب مصر إلى الأممالمتحدة وجمعيتها ليس كدولة عضوة فى المنظمة الدولية فقط بل تذهب مصر كأمة أهدت العالم فكرة الدولة والتسامح الإنسانى وتقبل الآخر، إنها نفس المبادئ التى أراد العالم تثبيتها فى المجتمع الدولى عقب الحرب العالمية الثانية ولكن هذه المبادئ كانت مصر تعمل بها منذ سبعة آلاف عام. عندما تطرح مصر رؤيتها على المجتمع الدولى من خلال اجتماعات الجمعية العامة فإنها لا تطرح رؤية مجردة أو فرضتها الظروف والأحداث، بل هى رؤية نابعة من المشروع المصرى ومحدداته التى صاغها هذا الشعب بنضاله طوال آلاف السنين حتى استقر عليه وأصبح منهج حياة ومبادئ يؤمن بها من تسامح وقبول للآخر ورفض للظلم والهيمنة والعمل على نشر السلام وتجنب الحرب. لكن للأسف يمتلك المجتمع الدولى ذاكرة ضعيفة لقد نسى سبب نشأة المنظمة التى يلتقى فيها أعضاؤها فى سبتمبر من كل عام، لقد كان السبب مواجهة الانحراف الإنسانى المسمى بالفاشية ولقد ذهبت فاشية الحرب العالمية الثانية وظهرت أنواع أخرى من الفاشية كان أخطرها الفاشية الدينية ممثلة فى جماعة الإخوان الإرهابية. للأسف مرة أخرى فقد رعت هذه الفاشية المقيتة قوى الهيمنة الكبرى، وأطلقت يدها لتعربد فى العالم على مدار أكثر من نصف قرن عقب نهاية فاشية هتلر وموسيلينى. معنى التسامح فى عام 2013 قررت الأمة المصرية بذاتها وليس معها سوى الله أن تنهى هذه العربدة التى تمارسها الفاشية الدينية فى العالم، فقامت بثورتها المجيدة فى 30 يونيو لتنهى حكم الإرهاب والطغيان؛ وترفع عن رقبة العالم سيف الخوف الذى سلط عليه طوال عقود. لم تنتظر الأمة المصرية شكرًا أو تحية من أحد، فما قامت به نابع من مشروعها المتسامح الضاربة جذوره فى عمق التاريخ.. بل مصر هى معلمة التاريخ ذاته معنى التسامح. فى العام التالى للثورة وقف رئيس مصر عبدالفتاح السيسى أمام منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ليقول كلمة الأمة المصرية فى هذا الاجتماع الدولى. منذ تلك اللحظة التى وقف فيها رئيس مصر يخاطب المجتمع الدولى بدأ هذا المجتمع يستعيد ذاكرته، ويدرك أن اجتماعه هذا وتاريخ المنظمة التى يلتقون فى أروقتها يقول إن الفاشية بكل أنواعها هى الخطر الأكبر على الإنسانية، وأن كل من يرعاها ويدعمها من أجل مصالح ضيقة ما هو إلا لاعب بالنار.. نار ستحرقه وتحرق العالم. الأمة المصرية لم تكن كلمات رئيس مصر مجرد خطاب موجه للمجتمع الدولى، بل هو مبادئ وأساسيات مشروع الأمة المصرية الذى لا تحيد عنه وطوال السنوات الأربع الماضية كانت الأمة المصرية -وما زالت- تخوض حربها ضد الفاشية بذاتها، كما قامت بثورتها ولا يقف معها سوى الله العلى القدير مؤمنة بأن النصر حليف مشروعها المتسامح. استطاعت الأمة المصرية ورئيسها فى هذه السنوات الأربع إعادة الذاكرة للمجتمع الدولى فأقر أن حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان هو مكافحة الإرهاب، وفى نفس الوقت كشفت أمامه حقيقة المتلاعبين بالنار ومدى وضاعتهم وخستهم ليخرج العالم بعدها ويقول لهم كفى تدميرًا وخرابًا. لم يكن ثمن استعادة المجتمع الدولى لذاكرته هينا بل كان غاليًا.. إنها تضحيات دفعتها الأمة المصرية الصابرة من دماء وأرواح أبناء شعبها وجيشها وشرطتها حتى يستفيق العالم وتحميه من نار الفاشية واللاعبين بها. لم ولن تطلب الأمة المصرية مقابلاً لتضحياتها لكنها ستطالب كما طالب المصرى القديم بالعدالة الناجزة ليدفع الفاشيست ومن وراءهم ثمن إجرامهم وعربدتهم، وكما استطاعت الأمة المصرية أن تعيد للعالم ذاكرته فبإصرارها وإيمانها بمشروعها ستتحقق العدالة فى يوم قريب ليس ببعيد. •