"فتاة الحلوي"للكاتب محمد توفيق رواية آسرة، رغم برودة لغتها السردية، سواء في مستواها البلاغي، كالتشبيهات والاستعارات والكنايات والمجازات، أو عندما يتعامل الرواي مع العالم المرويّ عنه أو الموصوف بحياد شديد، مستخدما لغة بصرية وسينمائية مكثّفة. لذا، لا نستطيع وصف هذه الرواية بأنها ذات حبكة بوليسية، وكفي! ففيها قدر كبير من المعرفة والفلسفة والخبرة الروائية اللافتة التي قد لا يعكسها خفّة عنوانها الذي هو استعارة كبري لأشياء أخري مستبطنة في ثنايا هذا العالم الثريّ بتفصيلاته وشخصياته وحبكته الهندسية. تنهض البنية السردية للرواية علي استراتيجية الموجات المتتالية أو المنشورات الزجاجية المتوازية أو الثنائيات المتضادة؛ إذ هناك خطان سرديان رئيسان. يحيل أحدهما إلي مصر، ومدينة الجيزة تحديدا، حيث البيت الذي تسكن فيه الشخصية الرئيسة بأسمائها المتعدّدة (الدكتور مصطفي محمود قرني/ المخّيخ/ ميكي ماوس/ مفتول العضلات)، وهو نابغة من نوابغ مصر في الهندسة وعلوم الرياضيات، استطاع أن يحقق إنجازا علميا غير مسبوق عندما توصّل إلي طريقة تشييد مبانٍ خرسانية يمكنها حفظ المحطات النووية العراقية من أي استهداف عسكري، وهو ما يمثّل بداية الأزمة الدرامية التي أقيمت عليها ثيمة المطاردة في الرواية. بعد سقوط صدام حسين، يقرّر "المخّيخ" الهروب من فضاء العراق الملتهب، عائدا إلي مصر، محمّلا بنوستالجيا جارفة؛ ليستقر في بيت قديم يقع في حيّ متواضع من أحياء الجيزة، حتي لا يتمكّن متابعوه من ملاحقته عبر شبكاتهم وأجهزة تلصّصهم المذهلة. ويحيل الخط السردي الثاني إلي مدينة شارلوت بكارولينا الشمالية، حيث المكان المغلق الذي يُوحي بملامح عالم إسمنتي، كأنه "دشمة" عسكرية، هو "مركز الأشباح"، أو مركز العمليات المعدّ خصصيا لمراقبة الشخصيات المهمّة علميا وسياسيا في دول العالم الثالث؛ وذلك لخدمة أهداف استعمارية محض، سواء بغرض المراقبة الاستخباراتية أو التصفية الجسدية إذا لزم الأمر. في المقابل، ثمة شخصان آخران حاضران في فضاء "شارلوت- نورث كارولينا" هما "مارتن" و"جاما"، أما ثالثهما "بيتا" فقد قرّر الاختفاء فجأة في ملابسات غامضة، بعدما اكتشف أن هذا المركز يمارس أعمالا لا أخلاقية، تهدف إلي تصفية العلماء والباحثين في الدول النامية. تتمثّل الرواية فكرة الموجات السردية المتتابعة التي تحيل الصورة الواحدة إلي صور متكاثرة، متناسخة، تعرّي أحداثها، أو إحداثياتها، البنية السفلية للمجتمع المصري؛ أقصد إلي بنية المسكوت عنه، في السنوات العشرين الأخيرة، سواء من حيث رصد مؤشّرات التدهور الاجتماعي أو التدنّي القيمي والسلوكي أو حالات التجريف الثقافي التي مرّ بها المجتمع المصري، وهو ما تم وصفه بعملية "سلت القيم" التي ستؤدي لا محالة إلي مستقبل غائم. وأغلب شخصيات الرواية في أمكنتها المصرية تعزّز مثل هذه الوضعية الكارثية (الست الطيبة صاحبة البيت الذي يسكنه المخيخ، "ديدي" الممثلة، الفتاة السمراء التي تشبه كوندوليزا رايز، .. إلخ). أما "طاهر" فيمثّل امتدادا لقيمة العلم الذي لا ينفصل عن أخلاقيات المعرفة التي سبقه إليها الدكتور مصطفي (المخّيخ). هكذا، تتحرّك بنية الرواية علي محوري/ مفهومي "الواقع" و"الصورة"، أو "الأصل" و"السيمولاكرا Simulacra"، بحمولة المصطلح التفكيكية والثقافية التي تؤكد نسبية الأشياء؛ إذ لا حقيقة راسخة في هذا العالم المجنون. فالحقيقة ذاتها نسبية في مكانها وزمانها واحتمالية حدوثها. والرواية فضاء من احتمالات منفتحة علي عالم قائم علي فلسفة "النَّرْد" الذي يحيل كل وجهين متقابلين فيه إلي الرقم سبعة. لكن: أيّ وجه أملس سوف يَثبت عنده نرد الحقيقة الروائية؟! "فتاة الحلوي" رواية تنهض بالأساس علي تفكيك جملة وردت علي لسان إحدي شخصياتها، تقول: "إن انتصار الإمبراطورية الأمريكية حتمية تاريخية". لكنّ بقاء شخصية طاهر -في نهاية المطاف- بوصفه امتدادا معرفيا للمخّيخ الذي تمّ اغتياله، أو مشروعا علميا واعدا، منبثقا من قلب الظلام المصري، أمر ينقض كولونيالية العبارة/ التصوّر »oncept، ويعيد ضبط موازين القوي التي يراهن علي التلاعب بإحداثياتها أقطاب الكولونيالية الجديدة.