يُلاقي مصطلح "ما بعد الحداثة" كثيراً من الإشكال حول الاتفاق علي تعريف له؛ وهنا تبدو المفارقة إذ إن جوهر "ما بعد الحداثة" يسعي إلي التحرر من أي تنظير أو تأطير. يدعو تيار "ما بعد الحداثة" إلي طرح المشكلات المعاصرة كالعبثية واللانتماء باحثة عن أجوبة مقنعة تجاه معاناة الإنسان المعاصر، كما تحتفي بضياع الحقيقة المطلقة وغياب المركزية وتقويض المسلمات و"السرديات الكبري"، كما أعلن الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار. وتشهد رواية "ما بعد الحداثة" إزالة للحواجز بين الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية والأجناس الأدبية وغير الأدبية ودمجها في سياق واحد. ورواية "جبل الطير" للكاتب عمّار علي حسن تمثّل توجهاً واضحاً نحو تيار "ما بعد الحداثة" إذ تُوازي الرواية بين عالم الواقع المتمثّل في الظروف المعيشة لأبطالها وما يواجهونه من تحديات الفقر والحاجة والفتن الطائفية ومشكلات التطرف، جنباً إلي جنب مع عالم الخيال والماورائيات عبر الإبحار في مسارب الصوفية والرؤي والسفر عبر الزمن. تقع الرواية في اثنين وسبعين فصلاً مقسمة علي خمسة أقسام، وتدور أحداث كل قسم منها في قرية من قري محافظة المنيا: "طهنا الجبل"، و"دير العدرا"، و"البهنسا"، و"بندر المنيا"، و"جبل الطير". تجري أحداث الرواية علي لسان راوٍ عليمٍ مجهول يتتبع سيرة "سمحان عبد الباطن" خفير الآثار المنوط بحمايتها من اللصوص في وردية الليل. ويبدو أن "سمحان" غير قانعٍ بهذه المهمة ولاسيما وأنّه كان ساخطاً علي إخراج أبيه له من التعليم بعد الابتدائية. ولكن سريعا ما يبدأ صوتٌ خفيٌ في مناداته كل ليلة ليلحق به طائعاً أومرغماً ليشهد إحدي الوقائع التاريخية ويفيق بعدها إما ملطخاً بالدماء أو مصاباً في رأسه. وهكذا يتنقل "سمحان" من حراسة أثر إلي آخر ليعاين حقبات تاريخية متباينة، ويتعلم معها درساً في الصوفية علي يدي "عبد العاطي" الذي يظهر له في كل العصور، حتي يعلو معه تدريجياً ويصير "وليّاً" تجري علي يديه الكرامات. تتسم رواية "جبل الطير" بالتشظّي وعدم الالتزام بالحبكة المتّسقة التي تسير في بنية كرونولوجية متسلسلة. فتأخذ الرواية بنية دائرية إذ تبدأ الأحداث بالشيخ "سمحان" الذي ذُعر عندما فتح النافذة ووجد الجبل مختفياً من قرية "جبل الطير". فتتجمد الأحداث عند هذا المشهد ليبدأ بعدها استرجاع حياته منذ أن كان شاباً حاملاً جواب تعيينه خفيراً علي "مقبرة حتحور". ولا يخلو هذا الاسترجاع من استرجاعات أخري خارج الخط السردي بغية ملء فراغات السرد. ويظل الراوي يلقي معلومات عن "سمحان" عبر استرجاعات غير متسلسلة زمنياً من حين لآخر، حتي إنّ المتلقي لا يعلم باسم "سمحان كاملاً إلا في آخر مقطع من القسم الأول بالرواية. لا يتوقف التوجه نحو الماضي عند حدود الاسترجاع داخل الزمن الروائي، وإنما يخرج عن حدوده الواقعية ليضرب في عمق التاريخ ويستحضر مشاهد غير مرتّبة تاريخيا، فبعد حرقه إحدي أوراق كراسة المرشد السياحي، تنبعث رائحة بخور غريب، "ولاحت مجموعة من الكهنة، رؤوسهم حليقة، يمشون في هدوء نحو البحيرة المقدّسة لتطهير أجسادهم، ثم يدخلون إلي ممرات المعبد المؤدية إلي غرفة "قدس الأقداس" ليعاين مشهداً كاملاً للترانيم في مصر القديمة حتي تتأزم الأحداث وتنتهي إما بسقوطه تحت الأرجل انتهاءً بفقدانه الوعي. وعليه، فإن هذه القصص المؤطّرة لها حبكتها الخاصة من البداية للنهاية، فتشبه جميعها حبات العقد، رغم تباينها إلا أن بها حبلاً مشتركاً ألا وهو "سمحان" المسافر عبر الأزمنة، و"عبد العاطي" الذي يظهر في كل قصة بهيئة مختلفة. إن انصهار الحواجز بين عنصري الزمان والمكان يمثّل أحد ملامح تحولات السرد في رواية "ما بعد الحداثة"؛ فيخرج الزمان والمكان عن حدودهما الواقعية ويتلاحمان فيما يطلق عليه الناقد الروسي ميخائيل باختين الكرونوتوب. ولعل أكثر ما أعان الكاتب علي مرونة صهر الزمان والمكان هو أنّ الفضاء السردي الرئيس في الرواية يقع في مصر، يقول الراوي: "مصر وثيقة قديمة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب علي ما خطه هيرودوت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال كتابة الفراعين تُقرأ بوضوح وجلاء". فيتواجد الدراويش علي مقربة من مقبرة حتحور، ثم يعود الزمن إلي الفراعنة ومعها يتحول المكان ليصير أكثر وضوحاً بعدما ينفضّ غبار الزمن عن النقوش والرسومات الزاهية علي جدرانه ثم يعود إلي العصر الحديث وبعدها يظهر بالمكان ذاته مسوخ من العصر الحجري. وعليه يمنح المكان تجسيداً حياً للتنقل عبر الزمن والحقبات التاريخية المختلفة ليتلاحم القديم مع الحديث دون حواجز أو فواصل. لم يكن لهذا التلاحم أن يتم بهذه المرونة لولا حرية تواجد المتناقضات في فضاء واحد. يتبدّي التفاعل الحر والألفة بين الأفراد ذوي الخلفيات الاجتماعية والثقافية المختلفة، وهو ما يعرف بالكرنفالية. تبدو الشخوص في الرواية علي قدم واحد دون تمييز؛ فيجالس خفير الآثار أحد ملوك العصور الأزلية ويشرب الخمر معه ويشاهد الراقصات حتي كاد أن يأتي بأفعال شاذة لولا تقييد الحراس له. فتنتفي إذن مسئوليات وعواقب السلوك الشاذ دون وجود عقوبات، لأن "سمحان" يستيقظ من سكره وأحياناً أخري يكون علي شفير الموت وكأن شيئاً لم يحدث له. ويعتمد الكاتب عدداً من القصص التاريخية ليس كتأريخ لها. فتنظر مدرسة التاريخانية الحديثة إلي التاريخ كونه محض نصٍ أدبي يمكن تفسيره كما يفسر النقاد النصوص الأدبية. ومن ثمّ غدا التاريخ وقائع سردية يعرض عليها عطب الذاكرة أو الطمس أحياناً. فتأتي القصص التاريخية في الرواية مكاشفة لطبيعة القمع الواقع علي أصحاب الكلمة في مواجهة الباطل. وتتيح مساحة للمهمشين وللأصوات التي طالما أُسكتت، فيدلون بروايتهم عبر "سردياتهم الصغري" متعددة الأطروحات. يقول عن أحد الموحدين الذين تم إسكاتهم من كهنة آمون: "أنا قادم من أخيتاتون، وتركت خلفي كثيرين مثلي، فالعقائد والأفكار لها أجنحة، لا تموت لمجرد أنكم قد نلتم من أصحابها عنوة، وجمعتم خلفكم العوام لتجعلوا الباطل يغلب الحق". ولعلّ أبرز المسلمات التي يتم تقويضها عبر الخط السردي للرواية هي سلطة العقل في الحكم علي الأشياء. فبعد نسف جاك دريدا ل"اللوجوس" أو الحقيقة العقلية المركزية في فلسفته التي أطلق عليها "فلسفة اللامركز"؛ لا ينظر إلي العقل وحده كمركز للمعرفة. فتتبدّي في الرواية محدودية العقل والمستقبلات الحسية للتجربة التي مرّ بها "سمحان"، ولاسيما وأن أحداث الرواية تقع في أماكن أثرية كان لها النصيب الأكبر من الأساطير والسير الشعبية، يقول "سمحان": العقول لا تغني عن الأرواح". وعلي الرغم أن رحلات "سمحان" عبر الزمن ومعايشته الحسية للتاريخ شيءٌ لا يقبله عقل إلا أن كل من سمع روايته لم يرفضها تماماً، فإما يتوجسون منها مثل "والد سمحان" عند سماعه رواية "سمحان" عن مقبرة حتحور، أو يؤكدون عليها. ومن ثمّ، يختلط العقل بالكرامة والأسطورة ويظل العقل محض ناقل للخبرات الخارقة محاولاً تسجيلها كي يتعرف إليها كل الناس. يري تيار "ما بعد الحداثة" انتفاء وجود نص يمتلك مؤلفه حق أصالة إبداعه فالنص لا يكتبه في الحقيقة مؤلف واحد؛ فأي نص ما هو إلا عملية تفاعل بين نصوص متعددة، يستشهد بها أو يستحضرها المؤلف وهو ما يعرف ب"التناص". وفي رواية "جبل الطير" يمكن تتبع التناص علي مستوي الشكل والمحتوي. فيستعين بالاقتباس ميتانصي - بالآيات القرآنية وآيات من الإنجيل والتوراة ونصوص من ترانيم الفراعنة وأناشيد الصوفية وأدعية ابن عطاء الله السكندري. ومن ثمّ فتزول الحواجز بين النصوص الأدبية والنصوص غير الأدبية، وتتلاشي الحدود بين الشعر والنثر، مولّدة (كولاج) نسيجاً أدبياً يقبل التعددية والتنوع ليقدّم وجبة دسمة للقارئ يتمكّن خلالها من فهم أبعادٍ جديدة للنص الروائي. ويتبدّي تناص المحتوي في قصص التاريخ التي أُعيد قراءتها ومراجعتها في ظل مبادئ التفكيكية والتعددية ومن ثمّ إعادة صياغتها ضمن النسيج الروائي. ويحمل هذا النوع قرائن تلميحية اعتماداً علي خلفية القارئ المسبقة. ففي قرية البهنسا يشاهد "سمحان" آلاف الرجال يحفرون نهيراً ويشاركهم "سمحان" الحفر، ثمّ يري علي التبة شاباً "كأنه أُعطي نصف الحسن الذي منحه الله للعالمين". فإن هكذا تناص يحيل القارئ إلي قصة يوسف عليه السلام وخطته لإنقاذ مصر من الجدب. ولكن القصة لا تتوقف عند الحد الذي يألفه المتلقي؛ وإنما تستمر لبعد مغادرة "يوسف" موقع الحفر وهجوم الطيور العملاقة وتبدل الماء بالدماء حتي استُعملت الفؤوس والأزاميل في غير ما أتوا بها له، وغلب الطمع وحاجات الجسد الروح الإنسانية الشفيفة. تظهر ملامح الواقعية السحرية في رواية "جبل الطير" في أكثر من جانب: ف"الهاتف" أو الصوت الخفي المجهول الذي يفعل مفعول السحر في جذب "سمحان" ليعاين المشاهد الخارقة والتاريخية، يوظّفه الكاتب كمعادل موضوعي للحالة النفسية المغتربة والقلقة لدي "سمحان". ويتداخل الصوت مع مشاهد مفارقة للمنطق، فيختفي الجبل والمغارة، وتنبت حديقة عظيمة بين يوم وليلة في صحراء وتظهر قنافذ تحت الأحجار تتحول إلي حبّات مشمش معطوبة. ولتناسخ الأرواح حضور قوي في رواية "ما بعد الحداثة"؛ ففي ظل فلسفة فاقدة للمركزية، لا تنظر إلي الإنسان كونه ذاتاً واحدة لا تتجزّأ، يصير وجود الإنسان الجامد مشكوكاً فيه. فتتناسخ الشخصيات عبر العصور؛ ف"عبد العاطي" يشبه "أخنوخ" أول من علّم المصريين التحنيط، ويشبه المتمرد علي كهنة المعبد، والرجل الذي حرقه الرومان. يلجأ الكاتب في رواية "جبل الطير" إلي المزج بين العالم الواقعي والسريالي، فلا يعلم القارئ إن كان ما يراه "سمحان" حقيقة أم حلماً. ولعلّ إحدي تجليّات السريالية تتبدّي في الجانب الصوفي بالرواية؛ فقد دخلت الصوفية ساحة الإبداع الأدبي بوصفها أحد العناصر المهمة في التيارات الحديثة ولاسيما السريالية. فرحلة "سمحان" عبر الرواية هي في الأساس رحلة تجرّد يتدرّج فيها عبر مقامات الصوفية حتي يصل إلي مقام اليقين؛ يقول "عبد العاطي": "كنت في "علم اليقين" تسمع الخبر وتقيسه بالنظر، ثم وصلت إلي "عين اليقين" فشاهدت وعاينت بالبصر، وارتقيت إلي "حق اليقين" فباشرت ووجدت وذقت وعرفت". ف "سمحان" يعيش حالة من القلق الوجودي وهيامه في وديان الحيرة، وعندها يتأمل حاله ويري عدم جدوي ما يقوم به. وهنا تأتي الإجابة فإن تنقله الجسدي بين الأماكن يعكس حالة الشك الوجودية التي تعتريه وعدم استقراره الروحاني حتي يصل إلي فهم ذاته وقدرته علي التغلب عليها. فتحاول روحه إيجاد وسيلة للخلاص من الأسر الجسدي عبر الانطلاق في فضاءات الروح والعودة إلي قيم البداءة الأولي، والاتحاد مع سائر العصور والحضارات السالفة التي يتعلّم في كنفها دروساً عن التجربة الإنسانية في معاركة الحياة. وأخيراً، فإن رواية "جبل الطير" تنتمي إلي تيار "ما بعد الحداثة". ففلسفة مبعثها فوضوية عصر العولمة والرأسمالية المتأخرة دعي إلي تشظّي البنية السردية مخلّفة القارئ بين شعابها. وكان لعنصري الزمان والمكان دور رئيس في إعطاء المرونة لهكذا تشظٍ. كما شهدت تقويضاً لعدد من السرديات الكبري مثل إعادة صياغة التاريخ. ولم يكن لنص يضرب في عمق التاريخ والأساطير إلا ليعتمد الواقعية السحرية في ثناياه. فيتبدّي الجانب الأسطوري والسريالي عبر توظيف الصوفية داخل النص لتتبع رحلة الإنسان في البحث عن ذاته حتي يفني وتتخلص روحه في النهاية.