دولتنا لا ينبغى أن تسيطر على غزة أبدًا!    مواهب كوكب اليابان    عائلات الأسرى لنتنياهو: إذا قررت احتلال غزة وقتل أبنائنا سنطاردك في كل مكان    مصر ترحب بالتوصل إلى اتفاق سلام بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان    تنسيق الجامعات 2025.. طريقة التقديم للالتحاق بكليات الجامعات الخاصة والأهلية    رسميًا.. ضوابط تحويل الطلاب بين المعاهد الأزهرية ومدارس التربية والتعليم (آخرموعد)    تنسيق المرحلة الثالثة 2025.. توقعات كليات ومعاهد تقبل من 55% وحتى 50% أدبي    «النقل» تحدد أسبوعًا لاستخراج اشتراكات الأتوبيس الترددي لطلاب المدارس والجامعات    الشيخ خالد الجندي يذيع فيديو للشيخ محمد متولي الشعراوي عن قانون الإيجار القديم    اقتربت نهاية دوناروما مع سان جيرمان؟ ليكيب: شوفالييه يخضع للفحوصات الطبية    غليان داخل بيراميدز بعد الوقوع في فخ التعادل أمام «دجلة»    فيديوهات تحمل ألفاظ خادشة للحياء.. تفاصيل القبض على التيك توكر نعمة أم إبراهيم    ضبط تشكيل «بياضة وطوبسية» بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بالدقهلية    نزاع إيجار قديم ينتهي بقتل مالك عقار.. والمحكمة تصدر قرارها    وزير الزراعة يتفقد أعمال التطوير بمحطة الزهراء للخيول العربية الأصيلة    إلهام شاهين تستمتع بإجازتها في الساحل مع نجوم الفن: «ربنا يجمعنا دايمًا في أوقات حلوة»    259 كرسيًا و6 أدوار.. مستشفى أسنان جامعة سوهاج يستعد للافتتاح قريبًا -صور    ينظم الضغط ويحمي القلب.. 6 فوائد ل عصير البطيخ    امتحانات الدبلومات الفنية التحريرية للدور الثاني.. 9 إجراءات من التعليم    محمد صلاح غير راضي عن سعره في الفانتازي "لا يجب أن أكون الأغلى"    3 أبراج على موعد مع حب العمر قريبا.. القدر يخبئ لك مفاجأة    غرق في النيل.. النيابة تحقق في وفاة سائق "توكتوك" بالصف    ترخيص 817 مركبة كهربائية خلال يوليو الماضي ..المركز الأول ل بى واى دى    الموز والتمر- أيهما أفضل لسكري الدم؟    ب"فستان أنيق".. أحدث ظهور ل نرمين الفقي والجمهور يغازلها (صور)    رئيس لبنان: دماء شهدائنا الأبرار لن تذهب هدرا وستبقى منارة تضيء طريق النضال    شيخ الأزهر يلتقى عدد من الطلاب ويستذكر معهم تجربته فى حفظ القرآن الكريم فى "كُتَّاب القرية"    جامعة بنها الأهلية تعقد 3 شراكات تعاون جديدة    محافظ الإسماعيلية يستقبل سفير دولة الهند ويتفقدان مصانع EMBEE    «المستلزمات الطبية» تبحث الاثنين المقبل أزمة مديونية هيئة الشراء الموحد    وزير المالية: حريصون على الاستغلال الأمثل للموارد والأصول المملوكة للدولة    نائب رئيس هيئة الكتاب: الاحتفال باليوم العالمي لمحبي القراءة دعوة للثقافة    اليوم .. عزاء الفنان سيد صادق بمسجد الشرطة    محافظة الجيزة: أنشطة وبرامج مراكز الشباب من 10 إلى 15 أغسطس 2025    «اتفق مع صديقه لإلصاق التهمة بزوج خالته».. كشف ملابسات مقتل شاب بطلق ناري في قنا    حبس مزارع وشقيقته تسببا في وفاة زوجته بالشرقية    «الوافدين» تنظم لقاءات افتراضية مع المكاتب الثقافية للتعريف بفرص الدراسة في مصر    الصحة: إحلال وتجديد 185 ماكينة غسيل كلوي    رغم الغضب الدولى ضد إسرائيل.. قوات الاحتلال تواصل قتل الفلسطينيين فى غزة.. عدد الضحايا يقترب من 62 ألف شخصا والمصابين نحو 153 ألف آخرين.. سوء التغذية والمجاعة تحاصر أطفال القطاع وتحصد أرواح 212 شهيدا    تتبقى 3 أيام.. «الضرائب» تعلن موعد انتهاء مهلة الاستفادة من التسهيلات الضريبية المقررة    أخبار الطقس في الإمارات.. صحو إلى غائم جزئي مع أمطار محتملة شرقًا وجنوبًا    "إكسترا نيوز" تذيع مقطعًا مصورًا لوقفة تضامنية في نيويورك دعمًا للموقف المصري الإنساني تجاه غزة    بحضور صفاء أبوالسعود.. تعرف على موعد افتتاح ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بالشكاوى المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة    تمويلات خارجية وتقنيات متطورة.. خطة الإخوان لغزو العقول بالسوشيال ميديا.. الفوضى المعلوماتية السلاح الأخطر.. ربيع: مصانع للكراهية وتزييف الوعى..النجار: ميليشيا "الجماعة" الرقمية أخطر أسلحة الفوضى    ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله به؟.. يسري جبر يجيب    زوجة أكرم توفيق توجه رسالة رومانسية للاعب    أحمد كريمة: أموال تيك توك والسوشيال ميديا حرام وكسب خبيث    رسميًا.. مانشستر يونايتد يضم سيسكو    ارتفاع أسعار البيض اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    الري: 32 مليون متر مكعب سعة تخزينية لحماية نويبع من السيول    تفاصيل حفل تامر عاشور بمهرجان العلمين    موعد قرعة دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية والقنوات الناقلة    خلال استقباله وزير خارجية تركيا.. الرئيس السيسى يؤكد أهمية مواصلة العمل على تعزيز العلاقات الثنائية بين القاهرة وأنقرة.. التأكيد على رفض إعادة الاحتلال العسكرى لغزة وضرورة وقف إطلاق النار ورفض تهجير الفلسطينيين    «100 يوم صحة» قدمت 37 مليون خدمة طبية مجانية خلال 24 يوما    فتوح : قرار حكومة الاحتلال إعادة احتلال غزة كارثة وبداية تنفيذ خطة تهجير وقتل جماعي    تنسيق المرحلة الثانية.. غدا آخر فرصة لتسجيل الرغبات بموقع التنسيق الإلكتروني    علي معلول: جاءتني عروض من أوروبا قبل الأهلي ولم أنقطع عن متابعة الصفاقسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة فعل عنيف يقترن بالموت حقاً ولكنه فعل ضروري
سردية الخلاص
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 12 - 2011

نجيب محفوظ أديب سياسي بامتياز، تجد السياسة وراء كل حجر في فضائه الروائي الذي ظل ما يقرب من نصف قرن يهندسه ويبنيه ويخلق سكانه، وبرغم أنّ عالمه يبدو ضيقاً علي مستوي المكان، إلا أنه عالم شاسع يجاوز القاهرة العتيقة وبعض شوارع الاسكندرية ليصبح بيتاً رمزياً للعالم كله، السياسة في هذا السياق تنصرف إلي ما هو يومي ومادي ومعيش. السياسة بوصفها السعي والمجالدة والصراع من أجل الحياة والصعود والارتطام..... الخ، وبعبارة أخري السياسة بمعني التاريخ والاحساس به ومقاومة ما ينطوي عليه من فوضي بإضفاء المعني علي الأشياء التي تبدو بلا معني. لهذا يفهم محفوظ الأدب بوصفه خطاباً عن العالم والوجود، وسعياً إلي الاحاطة بما فيهما من تعقد وتنوع، فالرواية شعر الدنيا الجديدة، شعر عصر العلم والحقائق ولذلك فهي مشاكلة لكل ما في هذا العالم، تشبهه لكنها تكمل ما فيه من نقص، تنصت لكل نأمة فيه، لتترجمها وتضعها في سياقها المنتظم الذي أخضعه الأديب لرؤيته؛ هذه الرؤيا التي تداخل فيها اليومي بالحلمي والواقعي بالفنتازي، وصيغت بعد الغرق في الواقع والتفاصيل، ثم اعتزاله لتأمله وتعريضه للأسئلة التي يراها محفوظ قديمة قدم الحياة، أسئلة العدل والحرية، التي ما كفّ البشر يوماً عن ترديدها وتقليب الأجوبة عنها، والبحث عن أجوبة أخري مغايرة.
أتي محفوظ إلي الأدب من دراسة الفلسفة، وقد تعلم فيما تعلم من دراسة الفلسفة أنّ الفن لعبُ، لأنّ اللذة الجمالية مجردة تماماً عن المصلحة كما يري كانط، أما هيجل فقد علمه أنّ الفن أحد أشكال تعبير الروح المطلق عن ذاته، والتعريفان يبتعد كلاهما عن الآخر بقدر ابتعادهما عن تعريف أفلاطون وأرسطو للفن بوصفه محاكاة. هل علمته هذه الرؤي المختلفة لشيء واحد، أنّ الحقيقة تندّ عن الإحاطة بها علي نحو نهائي؟ هل فهم منها أنّ شيئاً واحداً، يمكن أن نراه من أكثر من زاوية؟ وأنّ المرء حين يري كيف رأي المختلفون شيئاً واحداً من مواقع مختلفة، فإنّ عليه أن يتعلم، أنّ الإنسان يحق له أن يختلف مادام موقعه يغاير مواقع الآخرين؟ هل تعلم منها أن التعريف (الجامع المانع) استبدادٌ ونفي لممكنات أخري في الفهم والتأويل، ومن ثم، لا سبيل أمام الراغب في الفهم، إلا أن يصبر، ويستأنف طرح الأسئلة مرة بعد مرة؟
من الواضح أنّ تلميذ الفلسفة الذي كانه محفوظ، كان يقرأ لفيلسوف ما فيندهش وينبهر، وقد يظنّ أن ما قرأه سيحلّ كل مغاليق الكون، لكنه ما إنْ يغادره إلي فيلسوف آخر حتي يندهش وينبهر مرة أخري، ويلوح ما قاله الفيلسوف الأول هشَّاً وقابلاً للنقض، ولذلك أدرك أنه.. ومعه كمال عبدالجواد في الثلاثية - سائحٌ في فضاء الفلسفة لا مقيم، وعلي نحو ما تُسلل إلي وعيه أنّ التعريف الفلسفي قد يكون مفيداً. لكن عليه أن يقبل بوجود تعريفات أخري بجانبه، الفن مثلاً محاكاة وتقليد ومشابهة. لكن محاكاة الفعل الإنساني قد تكون متعددة الأوجه ولها أكثر من «غاية». وقد تكون المحاكاة لعباً فعلاً، لا لمن يحاكي فقط،بل لمن يتلقي المحاكاة أيضاً. اللعب إذن لذة، لكن اللذة متعددة ومتغيرة، وتعريفها علي نحو قاطع وسجنها في علامات لغوية أمر تحوطه الريب. تلك هي الحيرة إذن؛ المحيرة بين النقائض والوجوه المتعددة. والحيرة بين »العيش« و»الحياة« وبين »المعرفة« و»العقل« و»الوجدان«. وبقدر شكّه في قدرته علي إنشاء مذهب، وهو غاية سعي الفيلسوف، كان عليه أيضاً أن يحذر »الريبة« حتي لا يستبدل بمطلق فلسفي مطلقاً آخر. ذلك أن الأديب القاص ينتج شيئاً - قال للعقاد في حوار معه عن القصة وجدواها - يرفع الناس إلي »سماوات الجمال« وفي الوقت نفسه يكون مفيداً و»نافعاً«، فلا تعارض بين »النافع« و»المفيد« و»العقلي« و»الوجداني«. لكن لكي يستطيع إنتاج هذا الشيء كان عليه أن يدفع بالفلسفة إلي منطقة الظلال تحت لافتة النسيان، وهو أمرُ ليس هيناً، فبعد هذه السنوات التي ارتضاها رفيقه، يعمل في خدمتها، وتمنحه الشعور بالامتياز يصعب إرسالها إلي منطقة الظلال دفعة واحدة. وقد احتاج الأمر سنوات عدة، وتدريباً مضنياً ليتحقق له ما أراد: أن يدفع بالفلسفة إلي منطقة بعيدة غائرة، لكن تظل فاعلة في آن. وهكذا بدأ كتابة الرواية والفلسفة تخادعه عن نفسه، وتزيّن له وهما مؤداه أن ما سوف يميزه عن غيره من الأدباء، هو أن يحوّل أفكار الفلاسفة إلي قصص وحكايات. وبعد حين تكشف له أنّ هذا محض وهم، فليست القصة أن تحوّل المفاهيم والمقولات إلي سرد ووصف وشخوص يتحركون ويتجاورون، بل أن تنسي كل ما أحببتته من أفكار ومفاهيم لكي تستطيع أن تنتج رؤية خاصة للعالم، تجعل من القصة خطاباً يتأمل العالم والوجود، ويلتقط ما قد تعجز الفلسفة عن التقاطه، ذلك أن أدوات القصة التي تختلف عن أدوات الفلسفة، هي بطبيعتها تميل إلي الابتعاد عن اليقين والجزم، وأكثر ملاءمة لمساءلة الوجود الهش، بحثاً عن »رؤية« للعالم تحتوي تعدده ونسبيته. القصة حياة ومَسرَّة وتفكّر في الوجود من إنسان مستغرّق في الوجود ومأزقه، لا مجرد برهنة عقلية مجردة ذات طبيعة نسُقيه كالفلسفة، ومن خلالها يمكن للكاتب أن يعيد بناء العالم بعد أن يهدمه، وقد يضطر فيما بعد إلي هدم ما بناه من قبل، فهي دائماً مفتوحة وناقصة، وكلما ظنّ منشئها أنه حقق أقصي درجات اكتمالها، بدت له في سياق آخر، واضحة النقص، ووضوح النقص يغري بإعادة المحاولة مرة أخري، واستئناف النظر والكتابة.
علي أي حال لا مجال هنا لتقصي الفروق بين المعرفتين، الفلسفية والأدبية، كما ظهرت في تجربة محفوظ، كما أنه لا مجال للوقوف لدي تفاصيل مفهوم الأدب، لكني أريد أن أشدد علي أن هذا المفهوم لم يتكون إلا في خضم وعي جديد اجتاح الثقافة العربية، هو الوعي بالحداثة. وهو وعي تكون علي نحو معقد، في عملية مريرة من الهدم والبناء طالت كل شيء بدءاً من تفاصيل الحياة اليومية، انتهاء بمفاهيم اللغة التي تبدّلت، والمكان الذي تم إعادة تشكيله، والزمن الذي لم يعد مجرد خط بسيط متدفق نعرف نهايته، بل صيرورة واحتمال، إن مفهوم الرؤية، أو فهم الكاتب لعمله وطبيعته ووظيفته علي هذا النحو،يعني اختلافاً جذرياً عما ساد في الثقافة العربية من مفهومات للأدب تربطه علي نحو وثيق بوظائف أخري، مثل الوظيفة الأخلاقية المباشرة، وهذا ما يفسر - علي سبيل المثال - تفاصيل ووقائع ما حدث مع رواية «أولاد حارتنا»، إذ تصر الثقافة التقليدية علي لسان حراسها من الموجهين الأخلاقيين ورجال الدين علي أنه لا يحق للكاتب أن يعيد سردية الجماعة عن العالم، إلا من منظورها الأخلاقي، وعبر أدواتها التقليدية التي تحقق الوظيفة الأخلاقية، فيما تفرض أدوات السرد الحديثة القائمة علي مفهوم التمثيل أو التجسيد، أنّ يعيد الكاتب تشكيل هذه السردية، لتقول ما يراه صحيحاً بشأن العالم والوجود، حتي لو تعارض هذا الذي يراه مع ما تراه الجماعة صحيحاً، بل مطلق الصحة.
وقد بدأ محفوظ عمله الروائي برواية «عبث الأقدار» التي حوّل فيها مفهوم هيجل عن العصر البطولي اليوناني إلي حكاية تجري وقائعها في مصر القديمة،وتحديداً في زمن بناة الأهرام. وفي هذه الرواية سنري صياغة بسيطة لمفهوم هوية مصر الذي يقوم علي تجانس السلطة كما يمثلها الفرعون مع الشعب، لكن هذا التجانس الأولي البسيط سرعان ما انتهي إلي علاقة صراعية، في الروايات التالية، سواءاً كانت هذه الروايات «واقعية» أو في الروايات ذات الطابع الأليجوري، التي بدأها محفوظ برواية »أولاد حارتنا«، وتطورت إلي شكل أكثر تعقيداً من الأليجوري، وإن لم ينتف العنصر الأليجوري تماماً، كما في ملحمة الحرافيش، وغيرها.
تعني »واقعية الرواية« في هذا السياق، أن يقوم الكاتب بكتابة »الزمن الحديث«، وهو المفهوم الذي تبلور مع ردّ نجيب محفوظ علي العقاد، الذي انتقض من قدر القصة في حواره مع صديق له، متخيل، في كتابه الوجيز »في بيتي« وما إن مرت سنوات قليلة علي نشر محفوظ لرده علي العقاد، حتي تحولت الأفكار التي تضمنها هذا الرد إلي نصوص روائية اصطلح النقاد علي تسميتها بالواقعية،بدأت برواية »القاهرة الجديدة«، ثم »خان الخليلي« و»زقاق المدق« وبلغت ذروة نضجها في الثلاثية.
يمكن القول إنّ هذه الروايات - الواقعية - تعمد إلي إنتاج صورة عن العالم الحديث كما شكلته تجربة الحداثة في مصر. بل إن رواية »الثلاثية« تكتب الانتقال من العالم القديم إلي عالم آخر مختلف، يوغل في الحداثة يوما وراء آخر من خلال مصائر أسرة السيد أحمد عبدالجواد عبر أجيالها المتتابعة. وهنا بالتحديد يلمس قاريء محفوظ المفاهيم الأولي للثورة، كما نراها من خلال شخصيات تشترك في الثورة وتؤمن بها مثل فهمي الذي يلقي مصرعه علي أيدي الجنود الانجليز، ومثل الأب أحمد عبدالجواد الذي يقف علي حافتها، محاذراً الاقتراب، لكن شظاياها تصل إليه أولاً حين يجبره الجنود الانجليز علي تغيير عاداته في السهرة اليومية، ويصل الأمر إلي قمة التورط حين يفقد فهمي بعد مصرعه، وهو العتبة الأولي في تدهوره الحثيث البطيء نحو الشيخوخة.
تأخذ الحداثة في مثل هذه الروايات الواقعية صيغة تغيّر لا يمكن إيقافه، تغير يطوح بالبنية المغلقة علي نفسها، المتجانسة، ويستبدلها ببنية أخري تنطوي علي القلق والتوتر، وبرغم مزاياها إلا أنها تحمل في ثناياها مفاهيم جديدة مربكة عن العلاقة بين الرجل والمرأة كما في حالة الحب الرومانتيكي بين كمال عبدالجواد وعايدة، وعن علاقة الناس بالمكان التقليدي القديم المغلق علي نفسه كما نري في »زقاق المدق« الذي يغزوه العالم الحديث عبر القوّاد، الذي يجيء مع »الانتخابات«، ليقود «فاتنة الزقاق» الطموح حميدة إلي القاهرة الحديثة، لتكون «سلعة» يستعملها جنود الاحتلال وضباطه.
وهكذا تتجلي الحداثة اجتياحا يعيد صياغة الحياة التقليدية، لكنه تغير مشوّه، تعصف به علاقات الفساد في شقق الدعارة، وفي معسكرات الانجليز، وفي دواوين البيروقراطية الحديثة. ومن ثم تجيء مشروعية الثورة كما تصلنا أصداؤها في الثلاثية وفي نصوص »حكايات حارتنا«، وكما يحلم بها علي طه في »القاهرة الجديدة«.
تأخذ الثورة صورة حدث بالغ العنف، يقترن بالطوفان والزلزال والنيران التي وقودها الجسد البشري. فالثورة في منظور الطفل، سارد «حكايات حارتنا» فعل استثنائي، يتجسد في المظاهرات التي تملأ الميادين، حيث هدير الصوت البشري، الرافض لوجود الآخر المحتل، وسرعان ما ينتج عن هذا الفعل رد فعل أكثر عنفاً، فالجسد العاري يواجهه الرصاص، ومن ثم يبدأ وعي الطفل السارد بحدث وجودي، لعله الأكثر قسمة وغموضاً في الوجود البشري، هو الموت، الذي ينتج عنه مفهوم جديد هو مفهوم الشهادة.
وفي هذا السياق نلمس أحد المفاهيم التي لن تكفّ عن الظهور في أدب محفوظ، وهو مفهوم الأب الزعيم كما يمثله سعد زغلول، وهو مفهوم للأب الرحيم الذي يخرج من صلب الجماعة، مجسداً لخصائصها الأصيلة الجوهرية، في لحظة تمتحن فيها أصالة هذه الجماعة بوصفها جماعة بشرية مفرقة في القدم، مستمرة في الزمن.
صورة الأب الرحيم علي هذا النحو مغايرة لصورة الأب الآخر الذي يمثل رمزياً خيانة قيم الجماعة، ومن ثم القيم الأخلاقية الإنسانية، كما نراها في صورة رءوف علوان وهو أب رمزي بمعني ما، يخون القيم التي بثها في تلميذه »سعيد مهران« في رواية »اللص والكلاب«، ومن هنا تأتي مشروعية التمرد عليه، لكن هذا التمرد الذي يمثله سعيد مهران، يظل تمرداً فردياً ذا طابع إرهابي، لذلك تخطيء رصاصاته أهدافها، وتصيب الأبرياء.
الثورة فعل عنيف يقترن بالموت حقاً، لكنه فعل ضروري للخلاص، تلمس الثلاثية بعض أطيافه ولكنه عنصرُ من عناصر اللوحة الشاسعة للجماعة، وتكمن أهميته في أنه فعل للحفاظ علي تجانس الجماعة، وإصرارها علي رفض ما يناويء نسيجها ويهدده، ولذلك فهو فعل واقعي تاريخي، اقترن بظرف محدد هو الاحتلال، ومن هنا فهو جزء مهم من أجزاء سردية وطنية هي معني من معاني سردية أكبر ذات طابع إنساني،هي سردية الثورة.
لكن مفهوم الرواية «الواقعية» له إكراهاته التي تحول دون انتاج سردية أخلاقية أكثر اتساعاً هي سردية الخلاص، وهو ما حاول محفوظ كتابته في روايته ذات الطابع الأليجوري، أعني رواية أولاد حارتنا. وهي كما نعلم إعادة كتابة لتاريخ العالم كما سردته النصوص السامية المقدسة من خلال مفاهيمها عن »بداية الكون« وعن »الخالق« وعن نهاية هذا الكون. وفي هذه النصوص يبدو العدل عنصراً كامناً في نسيج الوجود، ومن ثم لابد من تحققه في نهاية المطاف. فقد خلق الله البشر متساوين في الحقوق والواجبات، لكن انطواء هذا العالم علي الشرّ، ومرور الأيام، أحدث قطعاً في هذا النسيج المتجانس، فانقسم الناس إلي كثرة مظلومة حرمت من كل شيء، وأقلية ظالمة اجتازت كل شيء، ومن هنا تأتي مشروعية الثورة وأخلاقياتها، بل تأتي قيمتها، إن الجماعة التي سلبت ميراث الأب العادل الجليل تظلّ في حالة انتظار لمخلصها البطل الفرد، القوي الأمين، والذي اصطفاه الأب ليحقق رغبته وكلما دب الفساد في العالم بفعل النسيان والخيانة، أي بفعل الشرّ الناتج عن مرور الزمن وصيرورته، فإنّ هذا يعني ضرورة الثورة، التي تبدأ بمجاوزة الظلم لكل حدّ، ومن ثم الحلم بالخلاص وانتظاره علي يدي بطل فرد تحوطه القداسة. كأننا إزاء دورة لابدّ منها، تبدأ بتحقق العدل بعد الثورة، ثم يجيء العطب والتدهور، ثم تأتي الثورة التي تأخذ صورة خلاص ديني عبر فرد مصطفي.
هكذا صاغ محفوظ سرديته عن الثورة التي تعني كما يقول في نهاية »أولاد حارتنا« مصرع الطغيان، ومشرق النور والعجائب. وبرغم أن ملحمة الحرافيش تؤكد المعاني ذاتها، إلا أنها تحاول أن تجعل الخلاص فعلاً جماعياً، يقوم به الناس بقيادة فتوتهم، لا مجرد حلم لفرد مصطفي يمثل تجسيداً لمفهوم خلاصي. إلا أن هذا الفعل الجماعي ظل فعلاً عنيفاً، أو صورة من صور الحرب، لكنها حرب مقدسة، مما يربط هذا الفعل بالمفاهيم المهيمنة في الثقافة، مثل مفهوم الخروج علي الطاغوت، ويصله بمفاهيم حديثة أخري عن الثورة بوصفها فعلاً عنيفاً كما أصلته الحداثة، بدءاً من الثورة الفرنسية، وتحوّل هذا العنف إلي استراتيجية تكاد تكون عقيدة مع صعود الأفكار الاشتراكية وبخاصة في صيغتها لدي لينين وتلاميذه.
لكن الثورة التي تتبدّي فعلاً رومانتيكياً في منظور الطفل سارد حكايات حارتنا، وتصبح شعوراً مريراً بالفقد لدي أمينة والدة الشهيد، سرعان ما تدخل في اختبارات قاسية، كما حدث لثورة 1919 الوطنية، التي ظل محفوظ يتعقب مساراتها بعد تحولها من فعل ثوري إلي مؤسسات سياسية، لم تحقق ما كان الثائرون يحلمون به، وربما يمثل رصد محفوظ لصيرورة الثورة علي المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، أحد العناصر الأساسية في كثير من رواياته مثل السكرية،والمرايا، وبداية ونهاية، والقاهرة الجديدة....... الخ، ويبدو أنّ القانون الذي تكتبه الروايات ذات الطابع الأليجوري، مثل أولاد حارتنا والحرافيش، والذي يقول بأن فترات العدل يعقبها تدهور حتمي يمنح الثورة من جديد شرعيتها وثيق الصلة بتأويل محفوظ لمسارات ثورة 1919 التي ظلت تفقد زخمها يوما وراء يوم حتي انتهت إلي مؤسسات سياسية وبيروقراطية، ينخرها الفساد والجمود.
تنفجر الثورة ويتحقق حلم «الناس» في العدل، لكن هذا الحلم بفعل الزمن والنسيان يشحب ويتلاشي، فيعم الظلم واليأس والطغيان، حينئذ يبدأ الناس ثانية في الحلم بثورة أخري حيث يشهدون مصارع الطغاة ومشرق النور والعجائب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.