نكتة تنتشر فى واشنطن، هذه الأيام، وتقول إن أكثر الأماكن ازدحامًا فى وزارة الخارجية هذه الأيام هى الكافتيريا، إذ تكتظ كافتيريا الوزارة بالدبلوماسيين المخضرمين الذين إمّا تلقّوا أوامر للقيام بأعمال أقل من المعتاد، أو يخشون القيام بأى شىء ذى معنى خشية أن يغضب رؤساؤهم من السياسيين المعيّنين. والأسوأ من ذلك، أنه يمكن وصفهم بلقب أبناء «الدولة العميقة»، وهو ما قد يقضى عمليًا على حياتهم الوظيفية. ويعمل بمبنى وزارة الخارجية الأمريكية، المكوّن من 8 طوابق، عدة آلاف من الموظفين والدبلوماسيين والمتعاقدين الحكوميين، إلا أن مركز الثقل الحقيقى واتخاذ القرار يقع فى الطابق السابع، الذى لا يضم الكثير من الدبلوماسيين المهنيين ولا الموظفين المحترفين، بل كبار المسئولين المعيّنين، وعلى رأسهم الوزير ونائبه وكبار مساعديه ورؤساء الإدارات والأقسام المهمة. وتقليديًا، ومع وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، خصوصًا إذا كانت تنتمى للحزب المنافس، تعيّن الإدارة الجديدة مئات المقربين من الحملة الانتخابية فى مناصب رفيعة. وحاليًا هناك ثلاث فئات رئيسية بين العاملين فى الوزارة، ويمكن تقسيمهم على النحو التالى: أولًا: المعيّنون من المتشدّدين فى حركة ماجا الذين يميلون إلى أن يكونوا انعزاليين ومعادين للسامية ومؤيدين بشدة لإسرائيل فى الوقت نفسه. ومثل المحافظين الجدد، ينظرون إلى إسرائيل على أنها مثال ممتاز لدولة تفعل ما تريد دون أى اعتبار للقانون الدولى أو الأممالمتحدة أو الرأى العام أو وجهات نظر الدول الأخرى. إلا أنهم ضد تمويلها لأنهم لا يريدون إنفاق الأموال على أى بلد آخر غير الولاياتالمتحدة. ثانيًا: المعيّنون من الجمهوريين الأكثر تشددًا، ويمثلهم وزير الخارجية ماركو روبيو وكبار مساعديه، وهم شديدو التأييد لإسرائيل ولتمويلها وتسليحها. ثالثًا: الدبلوماسيون المحترفون فى الوزارة، ورؤية الكثير منهم لا تتماشى مع الفريقين السابقين، وهم أغلبية من الليبراليين أو الوسطيين أو المحترفين غير المسيسين. ويكونون أكثر دقة فى مقاربتهم الداعمة لإسرائيل وأقل عداءً للفلسطينيين مقارنة بالفصيلين الآخرين، إلا أن نفوذهم أقل بكثير فى دائرة صنع القرار، رغم أنهم يشكلون الغالبية العظمى من موظفى الوزارة. فى مايو الماضى، أبلغ وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو الكونجرس نيته خفض عدد العاملين فى وزارته بنسبة 15%، أى ما يقرب من ألفى موظف، ضمن إعادة تنظيم شاملة. واتهم روبيو بعض الإدارات داخل الوزارة بتبنّى «أيديولوجيا سياسية متطرفة»، وبالفعل قام فى يوليو الماضى بتسريح 1300 دبلوماسى أمريكى فى خطوة أولى تتبعها خطوات أخرى. • • • تصلنى كل ليلة رسالة إلكترونية عن جدول ولقاءات وزير الخارجية روبيو، الذى يشغل كذلك منصب مستشار الأمن القومى بالبيت الأبيض. ويجمع بين الرسائل المتتالية جملة: "سيتواجد الوزير غدًا بالبيت الأبيض حيث لديه العديد من الاجتماعات واللقاءات". وأصبحت أعتبر هذه الرسالة بمثابة تأكيد ما هو مؤكد من تهميش كبير للوزارة فى فترة حكم ترامب الثانية. ورغم التهميش الكبير، لفت دبلوماسى، نالته حركة التسريحات الأخيرة، نظرى إلى وجود منظمة غير هادفة للربح، ومسجّلة وتعمل على الملأ، وقد أصبحت مسيطرة على وزارة الخارجية مع إهمال روبيو شئونها اليومية الروتينية، بما يشبه مفهوم «وزارة داخل الوزارة». وتُسمّى هذه المنظمة «زمالة بن فرانكلين»، وتُعدّ -بحسب قوله- القوة الحقيقية وراء كل ما تشهده الوزارة من تغيّرات خلال الأشهر القليلة الماضية. وقال الدبلوماسى: «إذا كنت تريد معرفة من يدير وزارة الخارجية هذه الأيام بالفعل، فمن المفيد الاطلاع على الموقع الإلكترونى الخاص بمنظمة جديدة نسبيًا ذات ميول محافظة تسمى زمالة بن فرانكلين». قد سجّلت الجماعة نفسها كمنظمة غير ربحية معفاة من الضرائب بموجب القسم 501 (ج) (3) من قانون الضرائب، وهو ما يسمح لها بتلقى مساهمات مالية مخفّضة الضرائب. وتم تمويل المنظمة إلى حد كبير من مؤسسيها، لكنها تسعى للحصول على منح وتقبل التبرعات. أُسست «زمالة بن فرانكلين» على يد ثلاثة مسئولين سابقين فى أكتوبر 2024 قبل أيام من انتخابات العام نفسه. لكنها تطوّرت لتصبح جماعة أيديولوجية مغلقة تختار أعضاءها وتدعوهم إلى الانضمام إليها، ولا يمكنك التقدم إليها من تلقاء نفسك، سواء كنت دبلوماسيًا داخل الوزارة أو من بين الدبلوماسيين السابقين أو الذين انتهت فترة عملهم. • • • وتضم المنظمة أقل من 100 شخص، واتخذت اسم بنجامين فرانكلين باعتباره أول دبلوماسى فى التاريخ الأمريكى، إلى جانب كونه أحد أكثر الآباء المؤسسين نفوذًا. وكان فرانكلين -الذى تظهر صورته على الورقة من فئة 100 دولار- كاتبًا وعالمًا ومخترعًا ورجل دولة ودبلوماسيًا وطابعًا وناشرًا وفيلسوفًا سياسيًا. وساهم فى كتابة الدستور الأمريكى، وكان أحد الموقعين على إعلان الاستقلال. وبسبب كثرة المؤسسات والمنظمات التى تتخذ من بنجامين فرانكلين اسمًا لها، اختصرت المنظمة اسمه الأول ليصبح «بن» فقط. يرى البعض أن المنظمة جاءت ردًا على تبنّى الإدارات الديمقراطية سياسة «التنوع والإنصاف والشمول»، وهى مبادرة صُممت لخلق بيئة عمل عادلة وشاملة لضمان تكافؤ الفرص ومعالجة أوجه عدم المساواة التاريخية للنساء والأقليات المختلفة. ووصف الدبلوماسى السابق المنظمة بأنها «تجمّع ومظلة مؤيدة لحركة ماجا من الدبلوماسيين الحاليين والسابقين ذوى الأداء الضعيف والساخطين من الرجال البيض، ويتم ترقيتهم الآن داخل وزارة الخارجية بصورة استثنائية ومبالغ فيها، مع أن مؤهلاتهم الرئيسية هى اتفاقهم مع أجندة ترامب، ويتم استبدال الموالين السياسيين بالمهنيين المخضرمين، بما يقوّض أحد المبادئ الأساسية للدبلوماسية الأمريكية. يُنظر إلى العضوية فى زمالة بن فرانكلين على أنها تعهد بالولاء لترامب، الأمر الذى أثار غضب بعض منتسبى السلك الدبلوماسى الأمريكى الذين يفتخرون بكونهم مهنيين بيروقراطيين غير مسيسين، ويشيرون إلى أنهم أقسموا على الولاء للدستور الأمريكى ومصالح بلادهم، وليس لشخص الرئيس. • • • ومع تراجع دور وأهمية الدبلوماسية فى شكلها التقليدى منذ ظهور الهواتف المحمولة والتطورات التكنولوجية المتسارعة، يبرر الكثيرون ما يحدث من تهميش للخارجية الأمريكية. لكن ما أراه يتجاوز مجرد تصحيح، فهو عملية تطهير تُظهر ازدراء ترامب للدبلوماسية الأمريكية واضحًا فى نهجه المتكاسل تجاه التعيينات، مع وجود فراغات فى عشرات المناصب القيادية بالوزارة وعشرات السفارات بالخارج. وبدلًا من ذلك، دعم ترامب مناصب «المبعوث الخاص»، كما يظهر فى التعامل مع مفاوضات روسيا وأوكرانيا بستيفن ويتكوف وجاريد كوشنر، ومؤخرًا السودان بنسيبه مسعد بولس، وقبلهما أزمة غزة بصديقه ويتكوف وصهره كوشنر كذلك.