محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    ألاعيب سيارات الاستيراد.. واستفسارات عن التحويل للغاز    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    «حماس» تتلقى ردا رسميا إسرائيليا حول مقترح الحركة لوقف النار بغزة    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    استشهاد شابين فلسطينيين في اشتباكات مع الاحتلال بمحيط حاجز سالم قرب جنين    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    عاد لينتقم، خالد بيبو: أنا جامد يا كابتن سيد واحنا بنكسب في الملعب مش بنخبي كور    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    كولر : جماهير الأهلي تفوق الوصف.. محمد الشناوي سينضم للتدريبات الإثنين    "في الدوري".. موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد الفوز على مازيمبي    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    نظر محاكمة 14 متهما في قضية "خلية المرج".. السبت    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    حمزة عبد الكريم أفضل لاعب في بطولة شمال أفريقيا الودية    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحاضر بوصفه تاريخا عند نجيب محفوظ
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 10 - 2011

مائة عام من الأدب‏!‏.....عامنا هذا هو المتمم لمئوية الراحل العظيم ا نجيب محفوظ وكان المخطط له أن يكون كرنفالا متنوع الفعاليات بطول السنة, يبدأ يوم2010/12/11 وينتهي في2011/12/11 كتب - أسامة الرحيمي:
بواقع احتفالية كل شهر في المجلس الأعلي للثقافة, وأنشطة موازية بمكتبة الاسكندرية في الوقت نفسه, مع إتاحة المجال للمؤسسات الخاصة, والأفراد, لإقامة الندوات, والاحتفاء بأديب نوبل كما يشاؤون, لتكون السنة كلها لمحفوظ رسميا وشعبيا.لكن الأقدار شاءت أن تهيمن اثورة يناير البهيةب علي الشأنين العام, والخاص منذ مطلع العام, لتشغلنا جميعا بأحداثها العظيمة. وعزاؤنا أن تكون هتافاتها وصلت إلي ا نجيب محفوظب في مرقده, وسعد بتحقق حلم الحرية المتكرر في جل أعماله, وأحاديثه, في ملحمة تشبه ثورة1919 المجيدة, الأثيرة لقلبه, والتي عدها في ثلاثيته الشهيرة, مثالا ساطعا لإرادة الأمة المصرية ووحدتها الوطنية.
والآن. بعد هدوء الهتافات, واستحالة الحماس الشعبي إلي تأمل وبحث عن سبل الخلاص الديمقراطي, تجدد االأهرامب الاحتفاء ا بمئوية محفوظب علي ضوء الثورة, كأحد المبشرين بها, وكونه أحد أبناء وكتاب المؤسسة, للتذكير به وبأعماله, في الجمعة الأولي من كل شهر, في ملحق الأهرام الذي نشر العديد من أعماله, استلهاما لروحه التي ما زالت تحوم في وجداننا.
الحاضر بوصفه تاريخيا عند نجيب محفوظ
يتميز العالم الروائي والقصصي عند نجيب محفوظ بالاكتشاف الفني للحظة التاريخية الحاضرة. والحاضر عنده ليس التفاصيل الجزئية الطبيعية المعيشة فورا في العالم الخارجي الواقعي, إنه ليس معطيات تقدمها الحواس عن عالم نهائي التحدد نحياه مباشرة مرسوم في صور فوتوغرافية للسطح الملموس; بل إن رواياته وقصصه االتاريخيةب لم تقدم وقائع أو شخصيات الماضي لذاتها, ولكنها أبدعت تجربة إنسانية متخيلة استمدت نسيجها من قضايا أساسية عاشها المصريون المعاصرون في زمن الكتابة. وأصبح لأحداث الماضي وشخصياته دلالة راهنة. فقد أسقط محفوظ أوجها للواقع المصري الحديث علي وقائع الماضي ونماذجه الإنسانية. فقد كانت وجهة النظر الروائية في كفاح طيبة مثلا مستمدة من وجهة النظر الوطنية المعاصرة أيام كتابتها ومنطق الأحداث الجارية. فالحاضر أو المعاصرة المتدفقة استمرار دائم التحول للماضي ويتحرك نحو مستقبل غير متوقع.
فقد ظل يسرد الحاضر كتاريخ, ورواياته التاريخية عبث الأقدار(1939) ورادوبيس(1943) وكفاح طيبة(1944) كان مقصودا بها أن تكون جزءأ من مشروع أكبر تخلي عنه في النهاية, وكان قد أعد نفسه لكتابة تاريخ مصر بأكمله في شكل روائي بالطريقة نفسها التي قام بها اوالتر سكوتب لتاريخ بلاده. وعلي الرغم من أنه تخلي عن الرواية التاريخية فقد استمر في التأريخ الفني للحاضر.
حفلت كفاح طيبة برؤية استعادة المجد التليد ممثلا في الإصرار علي صد الغزاة عند القائد العسكري المحنك, وفلسفة الحكم عند الفراعنة, وسمو الإبداع لدي الفنانين. وأكرر إنه في عالم محفوظ الروائي والقصصي سلسلة من الفترات الانتقالية, إلا أن كل الفترات بطبيعة الحال انتقالية, وإن يكن بعضها أكثر اتصافا بالطابع الانتقالي من الأخري. وقد صورت الروايات الواقعية المبكرة حركة مصر ذات الاستقلال الشكلي التي يحتلها الإنجليز ويحكمها ملك وباشوات إلي مصر الأخري التي كانت وعدا وأمنية عند مثقفي اليسار والإسلام السياسي. كما صورت الروايات ذات التطلعات الفكرية مصر بعد ثورة52 وأمنياتها المعلنة وانتصاراتها وهزائمها وإنجازاتها وإخفاقاتها. وظل الحاضر يواصل تحولاته في الروايات والقصص اللاحقة بعد1970 وحكم السادات: الانفتاح وانعكاس المسار وظهور أشكال جديدة من الصراع الفكري والسياسي. ويقول نجيب محفوظ تعليقا علي المرحلة التي تسمي فكرية في كتاباته: احين بدأت الأفكار والإحساس بها يشغلني لم تعد البيئة ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها, فالشخصية صارت أقرب إلي الرمز أو النموذج, والبيئة لم تعد تعرض بتفاصيلها بل صارت أشبه بالديكور الحديث مختصرة مجردة. واعتمدت الأحداث في اختيارها علي بلورة الأفكار الرئيسيةب. وينطبق هذا التحول علي الرواية لا علي القصة القصيرة, لأن نجيب محفوظ لم يمر في القصة القصيرة بمرحلة واقعية بالمعني الشائع لكلمة واقعية. فمنذ البداية كانت الأفكار والإحساس بها يشغل أكبر مساحة من قصصه القصيرة ولكن تلك الأفكار لم تكن مسبقة أي مستمدة من النظريات السياسية أو الفلسفية أو الاجتماعية. بل كانت منبثقة من تقنيات اكتشاف الحاضر في كلية الواقع المصور والموقف من منطق صيرورته ومن مكان الشخصية الإنسانية ومصيرها في العالم. وذلك بالإضافة إلي أن الحياة العقلية للشخصيات جزء من الحاضر المعيش وأن الصراع بين وجهات النظر المختلفة سمة مميزة لتجربة الحياة الاجتماعية في الحاضر. فليس الفن الروائي والقصصي للحاضر مرادفا للوقوف عند التجربة التلقائية الفورية للفرد, فقد يكون ذلك تجريدا من روابط الحياة وحركتها. فلا تؤخذ التجربة الروائية أو القصصية التي تصور الحاضر عند نجيب محفوظ من الواقع علي نحو مباشر كما تؤخذ أخبار صفحة الحوادث في جريدة, بل هي ثمرة المخيلة الإبداعية والفكر الخلاق اللذين يخرجان بها من الجزئية والسطحية والتبسيطية لكي تكون عالما متكاملا. ولكن قضايا الحاضر الفكرية لا توجد كأجسام غريبة داخل العمل القصصي أو الروائي فهي تنبع من وتشارك في أفكار العصر. فاللحظة التاريخية الحاضرة كما يقول محفوظ مزدحمة بالكثير من الأفكار والمشاكل( الهلال ذ فبراير1970).
وابتداء من الروايات الأولي التي شاع أنها واقعية, القاهرة الجديدة1945 وخان الخليلي1946 وزقاق المدق1947 وبداية ونهاية1949 ثم قمة الواقعية المصرية الثلاثية1956-57, لم تكن واقعيتها محاكاة سطح الواقع في تفاصيله اليومية الجزئية أو سلخ جوانب من الواقع المباشر وتكديسها. ولم تكن تعني من ناحية أخري تصوير أساليب حياة فئات شعبية بعينها ووصف معاناتها وبؤسها أو الدفاع عنها بواسطة أفكار مجردة تتعلق بالعدالة الاجتماعية أو الوطنية, بل كانت من الناحية الإيجابية تصوير الحاضر تصويرأ ناشئا عن فهم مقتسم مشترك بين الناس. وكانت هذه الأسس المشتركة راسخة عندما كان هناك تحالف بين الطبقة الوسطي وبقية الطبقات الشعبية في الحركة الوطنية. ولم يكن محفوظ في هذه الروايات يغرق حائرا في حياة واقعية لامتناهية الاتساع تتألف من سلاسل أحداث ووقائع ومدركات مختلطة متقاطعة تفتقر إلي الاتساق. ولكنه كان يقدم أنساقا من التجربة تعني أشياء محددة بالنسبة إلي ثقافة المؤلف وثقافة القراء معا. وتلك الأشياء المحددة تتعلق بما يعتبره الفهم المشترك الاتجاه الأساسي لحركة الواقع بكل تناقضاته وبما يعتبره هذا الفهم المشترك جوهر الأمور ومنطقها. ولم يكن محفوظ يصور الجوهر الاجتماعي في خطوط عجفاء للمصير الإنساني المجرد بل من خلال نماذج حية لأفراد ومواقف. ولم يكن العالم الروائي انعكاسا مرآويا للحياة الحاضرة بل اكتشافا لبنيتها الكلية ومسار حركتها الشاملة. والشمول والكلية هنا لا يعنيان الاتساع وحده بل الكثافة المتعمقة للحاضر في ثراء يفوق كما سبق القول خبرة الحياة المباشرة للفرد ويتجاوزها. وكانت الأشكال والتقنيات الروائية والقصصية تقوم بعملية الاختيار والتجريد والتعميم. فلم تكن طريقة تصوير الشخصيات والمواقف والحبكات تحاكي شخصيات فردية ومواقف وأفعالا محددة, بل كانت تستعمل ذلك لتخلق عالما كليا قائما بذاته, فصدق تفصيلة تناظر الواقع وكولاج من مواد فوتوغرافية كان أمرا عرضيا, أما المهم فكانت العلاقة العضوية الدينامية بالكل الذي يبدعه الروائي أو القصاص. إن خان الخليلي أو زقاق المدق لهما كحيين وجودهما المكتفي بذاته وهو وجود ليس مستمدا من صدق المطابقة ودقتها بالقياس إلي الموقعين الحقيقيين. فقد كانت هناك في التصوير الأدبي تقنية تشبه المنظور المركزي في التصوير التشكيلي فأبدعت للحيين تمثيلا موحدا تسوده وجهة نظر مفردة تجعل القارئ يدرك أجزاء الحي في انطباع موحد يسري في العمل ويقوم علي التزامن. ولكن هذه التقنية ليست اطبيعيةب فنحن لا نري الواقع في صورة مكان موحد متسق التنظيم. وقد ركزت الروايتان في تصوير الزمان علي تقنية التدفق والتغير وتعدد الإمكانات, علي الصيرورة والحركة الدائمة في الحاضر نحو مستقبل بعيد عن الاكتمال والتوقع. وفي الثلاثية في أثناء حكم الأقليات في العهد الملكي في سنين يسميها محفوظ سنين الإرهاب والعهر من السياسيين والجلادين. وتصور السكرية القبض علي شقيقين يساري وإسلامي في هذا الوقت. وقد انبثقت عند محفوظ البشائر الأولي للتقنيات الحداثية في تصوير الحاضر داخل التقليد الواقعي متمثلة في رواية اللص والكلاب(1961). ففي هذه الرواية يرصد السرد الحاضر منصهرا في وعي البطل وهذا البطل في الرواية مستعار من حادثة شهيرة واقعية, حادث محمود أمين سليمان الذي لقبه الإعلام بالسفاح. وتترتب الوقائع تبعا لمنطق شعور البطل لا لمنطقها الموضوعي. ومن بدايتها إلي نهايتها تنزع الرواية الألفة عن العالم الواقعي وعن قيمه المنافقة وتصور عالم إحباط لا إنساني.
وقد لقيت هذه الرواية استقبالين نقديين مختلفين. إن عبد القادر القط يكتب االلص والكلاب رواية فاشلةب في أخبار اليوم(1961/5/12) فهو يأخذ عليها في المرحلة المسماة فلسفية أو فكرية تركيزها علي حاضر البطل دون اكتمال صورته بربط ماضيه بحاضره. ويري في ذلك إفسادا للبناء الفني. ولكن فاطمة موسي تري أن اللص والكلاب قفزة ونقطة تحول عند محفوظ في الخروج من محاولة نقل الحاضر بكل تفاصيله في الأعمال السابقة عليها والالتحاق بركب الرواية العالمية الحديثة باستعمال أرقي وأعقد الأدوات الفنية كالرمز والاستعارة. ومنطق هذه الرواية الصادقة عنده أهم من منطق الواقع الجزئي أو الكلي, فمنطقها قائم بذاته مستقل. وهي تعتبر اللص والكلاب أعلي مستوي من الثلاثية لاستخدامها أدوات فنية أرقي وأعقد( فاطمة موسي: نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية). ولكن نجيب محفوظ في تصويره للحاضر يتعارض مع نظرة واقعية ساذجة تصور أشياء ثابتة جامدة في وجودها السطحي, فهو يصور الواقع الحاضر في حركته وتطوره التاريخي وفي علاقاته الجوهرية وتناقضات القوي الفاعلة داخله. ويري نقاد آخرون أن بطل اللص والكلاب رمز للإنسان في رحلته الأبدية الهادفة إلي تحقيق العدل. ويعتمد محفوظ في الطريق والشحاذ واللص والكلاب اعتمادا كبيرا علي الحقيقة المصورة من داخل الشخصية بدل الاعتماد في الروايات المسماة واقعية علي الحقيقة المصورة بأبعادها الخارجية المعروفة باستخدام تيار الوعي. ولا تناقض بين تصوير العالم الداخلي للشخصيات والواقعية. أليس العالم الداخلي واقعيا؟ ولقد طور محفوظ أدوات روائية تتناول عملية ظهور ونمو وصراع الانفعالات والأفكار المختلقة داخل النفس الإنسانية. ومحفوظ لا يأخذ تيار وعي الأفراد المغتربين باعتباره الحقيقة الأساسية في حياتهم. إنه يستخدم هذا التيار لتوسيع مدي تصوير الحاضر الواقعي عموما, فهو واقع الفعل الاجتماعي والحلم وأحلام اليقظة والكوابيس والأمنيات المتخيلة. وهو يستخدم تيار الوعي مع تقنيات أخري مثل تعدد وجهات النظر إلي الشخصية لكي لا يتحول تيار الوعي إلي ذاتية مغلقة.
لم تكن أفكار ومثل الطبقة الوسطي في الثلاثية مقصورة علي أفراد طبقة واحدة. فقد أدخلت عناصر من أفكار ورؤي أنماط تاريخية عتيقة مثل الفلاحين من صغار الملاك وهم آباء سكان المدينة والحرفيين والتجار التقليديين. وكانت رؤية الطبقة الوسطي تبدو باعتبارها رؤية الأمة بأكملها في فترات المد الثوري في أثناء ثورة.1919 وفي أثناء حركة مقاومة الديكتاتورية في النصف الأول من الثلاثينيات. وفي تلك الفترات التي صورتها الروايات الواقعية كان الحاضر الوطني يبدو تاريخا ما يزال في مرحلة الصنع; يمكن أن تصنعه الإرادة الوطنية. وتصور هذه الروايات سعد زغلول ومصطفي النحاس باعتبارهما استمرارا لقيادة الحركة الوطنية منذ الهبة العرابية إلي الحزب الوطني بقيادة مصطفي كامل ومحمد فريد. كما كانت تعتبر الزعيمين الوفديين رمزين لحركة مصرية خالصة متحررة من الولاء للخلافة العثمانية المتشحة بالإسلام ومن الانصياع للأسرة المالكة غير المصرية. وهي تفسح الصفحات الطوال متعاطفة مع هذا الاتجاه في الحوارات المسهبة حول دور الوفد وكيل الأمة وممثل الوطن. ولا ينقل السرد معلومات تاريخية جاهزة رغم ما فيه من نزعة تسجيلية واضحة, بل يقدم استراتيجيات نصية تقوم علي غلبة الحوار الدرامي وعلي صراعات الاستجابات الشخصية المتغايرة للمواقف السياسية, وعلي إبراز اللغة المشتركة التي تدرك المعاني المتحررة والقيم الجديدة متفاعلة ومصطدمة بأعراف الحياة اليومية والعالمية والسمات الشخصية. لقد تجسد انبثاق عقلانية سياسية للأمة المصرية بكاملها في شكل سردي تطوري قائم علي الاستمرار التاريخي في بين القصرين وقصر الشوق وبداية السكرية. كما بلور السرد صورة الأمة المصرية حول قادة سياسيين يبتعثون ذكرياتها المجيدة ليؤكدوا هوية مصرية مفردة وعناصر كثيرة مشتركة بين الجميع متطلعة إلي الأمام. ولكن السرد المحفوظي لا يقدم للهوية المصرية جوهرا عنصريا أو طائفيا, فهو يتتبع اختلاط عناصر متنوعة في مرجل التاريخ المشترك( آل شوكت بأصولهم التركية يصاهرون آل عبد الجواد علي سبيل المثال). ويصور السرد الهوية المصرية والناس يضيفون إليها ويحذفون منها ويضفون عليها معاني جديدة من قبيل واجبات المرأة والأبناء ومعايير السلوك وقيم الحياة ونماذج الجمال والعدالة. فالأمة المصرية شخصية بارزة في الثلاثية كما كانت في روايات محفوظ التاريخية هي تضامن ضخم تشكل من الماضي والحاضر وآفاق المستقبل, بين استمرار قيم الفاعلية والإبداع والجماعية والانتماء والتضحية والتكريس. ولا يبدو الجانب القومي المصري ميلودراميا صارخ اللون أو معتمدا علي نزعة صوفية تاريخية, فهو يتغلغل في حياة الأفراد والفئات وفي صلاتهم المادية والروحية, ويربطهم معا في حركة قوية كأنه نسيج ضام.
وقد أسهمت روايات محفوظ منذ البداية( القاهرة الجديدة1945 وخان الخليلي1946 وزقاق المدق1947 وبداية ونهاية1949) في تحديد الأمة المصرية بتمثيلاتها الجمعية في خطاب روائي. لقد عملت رواياته علي إيقاظ القراء المصريين والأمة المصرية علي الوعي الذاتي وعلي إبراز استمرار تاريخي قد يكون متخيلا مأمولا في بعض نقاطه ويشكل تقليدا قوميا مثاليا في النضال من أجل الحرية. وكانت أعمال محفوظ تصهر العالم المتخيل داخلها بالعالم الاجتماعي التاريخي خارجها في وحدة لا تنفصم عراها.
وقد تتبعت روايات محفوظ وقصصه عموما في رسمها للحاضر انقسام الأمة المصرية إلي أمتين بعد الاستقلال الشكلي, واستقطابا من ناحية بين الطبقات الرجعية والطبقات الشعبية والديمقراطية من ناحية أخري. وأبرزت السكرية حدود الدور الذي كان الوفد قادرا علي القيام به في فترة تصاعد القوي الشعبية خارج الطبقة الوسطي ومحاولتها اكتساب الوعي المستقل عن وعي تلك الطبقة الوسطي( عدلي كريم وهو مقابل سلامة موسي وتلامذته وأحمد عاكف وسوسن حماد ورفاقهما). ومن الواضح أن محفوظ لا يتبني الاتجاهات اليسارية رغم تعاطفه مع نوايا ممثليها. ويقول محفوظ في مجلة الكاتب ذيناير1963- الا أعتقد أن أحدا قرأ الثلاثية دون أن تتركز عواطفه في شيء معين واضحب. ومن المؤكد أن الشئ المعين الواضح هو البحث عن حل للمأساة الاجتماعية والإيمان بإرادة الحياة والناس واتباع مثلهم العليا حينما تكون صحيحة; فهذا هو معني الثورة الأبدية. ولكن السرد لا يتبني ما ينسب إلي اليسار من إلحاد فهو يضع علي لسان الأخ المسلم كلمات لم يكن يرددها الإخوان عادة مثل الإلحاد سهل وهو حل هروبي من الواجبات التي يلتزمها المؤمن حيال ربه ونفسه والناس. ويفسح عالم محفوظ للدين والوجدان الديني والبحث عن المطلق والاتحاد به مكانا مرموقا.
بعد تلك الفترة في ثرثرة فوق النيل(1966) يصور محفوظ الانهزامية والهروبية في المجتمع المصري بكل طبقاته قبل هزيمة(1967) مباشرة. وتفضح رواية الكرنك(1974) الدولة البوليسية في الفترة الناصرية. أما ثرثرة فوق النيل فتدور في عوامة علي النيل حيث تهرب مجموعة من الناس ينتمون إلي مستويات اجتماعية متعددة من واقع بغيض إلي تعاطي الحشيش وممارسة الجنس وترديد ترهات سياسية. وتتصاعد هروبيتهم وسلوكيات نزقهم حتي تؤدي إلي مصرع فلاحة يصدمونها بسيارتهم, فلا يتوقفون لرؤية ما حدث لها ولا يذهبون إلي قسم الشرطة, بل يعودون سريعا إلي العوامة. ويحكي محفوظ أن مسئولين بأعيانهم رأوا أيامها أن الرواية قد تشير إليهم وأنها خرقت الحدود المسموح بها. وقد استشار عبد الناصر ثروت عكاشة حول السماح بالرواية فكان رأيه لصالحها في فترة كانت السجون فيها جزءا من الواقع, وكان النظام يضرب بشدة أي معارضة أو نقد. وفي ميرامار(1967) توقع السرد الهزيمة كما لجأت قصص محفوظ القصيرة في تلك الفقرة لجوءا عميقا إلي الرمزية. أما الكرنك(1974) فقد فضحت التعذيب في المعتقلات وما يحدث للسياسيين المساجين في الفترة الناصرية. لذلك نشرت في سهولة نسبية في أثناء فترة بداية انتقال السلطة إلي السادات, علي الرغم من أن أحمد بهاء الدين رئيس تحرير الأهرام أيامها رفض مخطوطتها وأوصي بها كمال أبو المجد رئيس تحرير مجلة الشباب. كما أن رواية الحب تحت المطر(1973) نشرت مسلسلة في جريدة الشعب وليس في الأهرام. وقد وافق محفوظ بنفسه علي حذف قسم كامل منها لكي يسمح بنشرها في كتاب( سامية محرز: كتاب مصريون بين التاريخ والقص المتخيل ذبالإنجليزية). وبعد أربعة عقود من الوظيفة الحكومية نشر محفوظ روايته حضرة المحترم(1975). وتلك الرواية صورة ساخرة لعقلية الوظيفة الحكومية, فهي تراها وظيفة مقدسة مثل الدين. فالموظف المصري هو أقدم الموظفين الحكوميين في تاريخ المدنية. وقد يكون المواطن المثالي في أمم أخري جنديا أو سياسيا أو صاحب حرفة أو بحارا, ولكنه في مصرلابد أن يكون موظف الحكومة. وحتي الفراعنة أنفسهم كما يفكر فيهم الموظف لم يكونوا سوي موظفين عينتهم آلهة السماء لحكم وادي النيل بواسطة طقوس دينية وترتيبات إدارية واقتصادية وتنظيمية. وتتابع الرواية تاريح حياة رجل تستهلكه النيران المقدسة للخدمة العامة. ولكن محفوظ علي العكس من هذا المحترم اعتبر الوظيفة دائما جزءا من قدر غير مرحب به ولن ينقذه منه إلا تدخل مباشر من الله سبحانه. وكان يأمل أن ينقذه الله من وظيفته... اأو يجعلني أفوز بورقة يانصيب, وقد أرسل الله إليه بدلا منها جائزة نوبل. وفي رأي محفوظ أنها جاءت متأخرة ويشعر في مفارقة أنه صار موظفا عند جائزة نوبل. فقد كان يري نفسه رجل أدب داخل نطاق النظام, كفرد هو جزء من المؤسسة. وهو في مقالاته لا يتخذ موقفا مؤيدا ضد جانب آخر وتظل تسود كلامه النزعة المحافظة. وحينما ينتقد شيئا أو وضعا يقول صراحة الست واعظا ولست موهوبا لكي أقوم بالعمل السياسي بمعني التخطيط والقيادة, وبعد1952 أصبحنا جميعا أعضاء في الاتحاد الاشتراكي. وكان ذلك يشبه تماما وظيفة جديدةب.
ويبدو محفوظ للكثيرين في أعماله مصورا للعالم في حياد, ولكنه يقوم بذلك دون أن يكون محايدا فعلا كما في عمله أمام العرش(1983) وعنوانه الفرعي حوار مع حكام مصر من مينا إلي أنور السادات. في محكمة يرأسها أوزوريس وإيزيس ويتوافد عليها الزعماء المصريون. وعلي الرغم من أن العمل يشبه محاكمة فلا حكم يصدر علي أي من الحكام الذين ظهروا, وظل العمل حوارا, وحتي حينما يكشف خلال الحوار عن المناطق الحرجة في حكم كل زعيم فإن العمل يتجنب إصدار حكم ويصر علي الحياد المميز لمحفوظ. وقد جعل نجيب آتوم ممثل ثورة الفلاحين علي الفراعنة وكبار الملاك والكهنة خالدا بين الخالدين ينطق دائما بلسان الثورة الدائمة. وآخر الزعماء الذين ظهروا في المحاكمة كان أنور السادات ويسأله ناصر اكيف امتلكت الجرأة لتتخذ موقفا عديم الاحترام لذكراي, ويجيب السادات القد كنت مضطرا لأن جوهر سياستي تأسس علي تصحيح الأخطاء التي ورثتها من حكمك, ويرد ناصر اولكنني عهدتك مؤيدا وصديقا, ويقول مصطفي النحاس للسادات القد أدهشني أن أسمع دعوتك للديمقراطية ثم اكتشفت أنك أردت ديمقراطية من خلالها تستطيع ممارسة سلطاتك الديكتاتوريةب. ويرد السادات القد أردت ديمقراطية تستطيع أن تحمي أخلاق القرية وحقوق كبير العائلةب. وهنا يجيب زغلول اولكن الديمقراطية الحقة تؤخذ ولا تعطي, لذا لا تبالغ في لومهب. ويواصل مصطفي النحاس القد كان الشعب مقهورا وبدأت علامات الحرب الأهلية والتطرف في الظهور, لقد تركت الأمور تسير كما لو لم تكن شغلا من شواغلك, ثم انفجرت فجأة ووضعت الجميع في السجن بحيث أغضبت المسلمين والمسيحيين والمتطرفين والمعتدلين وانتهي كل شيء بمأساة اغتيالكب. وعند تلك النقطة قالت إيزيس اشكرا لهذا الابن. لقد عادت روح البلاد إلي الحياة واستعادت مصر استقلالها الكامل مثل الأيام قبل الغزو الفارسي, لقد ارتكب أخطاء مثل الآخرين ولكنه صنع من الصواب ما يفوق الكثيرينب. وهكذا يقول أوزوريس اأرحب بك وسط أبناء مصر الخالدين, ستقدم فيما بعد إلي المحكمة التالية بتوصية رفيقة مناب.
ولم يكف محفوظ عن تأريخ الحاضر في يوم قتل الزعيم(1985), رواية الانفتاح وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية علي الطبقة الوسطي المصرية. وماذا عن حيادية محفوظ؟ فتبعا له تظهر كل تعاطفاته وتضاداته وأحلامه وضياع أوهامه بطريقة أو بأخري ضمن السرد الروائي نفسه وليس خارجه, فتجاوز ذلك يصير عنده صراخا. وفي يوم قتل الزعيم يرتفع صوت علوان مثلا معبرا عن صوت جيله الذي يستمع إليه في مقهي ريش وسط القاهرة حيث تحول ناصر إلي رمز للآمال الضائعة, آمال الفقراء والمهمشين. وهناك أيضا شلالات السخط تنقض علي بطل النصر والسلام( السادات), النصر الذي تكشف عن لعبة والسلام عن تسليم علي مسمع من السياح الإسرائيليين حينما يقول السادات صديقي بيجن وصديقي كيسنجر: اما هو إلا ممثل فاشل. الزي زي هتلر والفعل شارلي شابلنب. ويقول الجد شيئا مماثلا: ما هذا القرار يا رجل؟ تعلن ثورة تصحيح في15 مايو ثم تصفيها في5 سبتمبر, وتزج بالمصريين جميعا في السجن, مسلمين وأقباطا ورجال فكر. ولا يبقي حرا إلا الانتهازيون. فلك الرحمة يا مصرب. أي أننا لن نجد في يوم قتل الزعيم حيادا بل صرخة لم يسمح محفوظ لنفسه بالنطق بها من قبل.
وفي روايات محفوظ لا تكون الحركة التاريخية تعبيرا عن قوي خارجية مجردة توجه الأحداث من قصورها وقلاعها البعيدة, بل قد جري استئناسها وتحويلها إلي تجارب شخصية. فالاستعمار الإنجليزي نصب معسكره أمام بيت السيد أحمد عبد الجواد, ورأينا الجنود الذين يطلقون الرصاص علي المصريين ويقتلون المجاهدين باعتبارهم أدوات لقوة لا شخصية أفرادا من البشر العاديين أفرغوا في الزي العسكري وسيقوا بعيدا عن أهلهم وديارهم وطبيعتهم الإنسانية يلعبون مع كمال الطفل ويقدمون له الشوكولاتة ويرددون وراءه الأغاني, ويغازل أحدهم مريم كما تعجب بشكله الجميل إحدي أخوات كمال. لقد كان هذا الطفل يعتبرهم أصدقاءه ويحبهم في تبدياتهم الفردية الشخصية. ومن السخف القول إن محفوظ يتخذ موقفا محايدا بين صداقة الإنجليز عند طفل لا يعي الكثير وبين شقيقه فهمي طالب الحقوق الذي يشارك في النضال ضدهم. فوجهة نظر الطفل الساذجة إلي سطح الأشياء يوظفها السرد للكشف عن مسألة جوهرية تتعلق بقهر الاستعمار لأفراد شعبه وتشويههم والزج بهم في مذبحة الحرب العالمية الأولي وفي الاعتداء علي يشعوب المستعمرات. فلم تكن الحركة الوطنية المصرية معادية للشعب البريطاني. وتصور الثلاثية في البداية حركة الأحداث باعتبارها جزءا من الأحاديث المزجاة بين تضاعيف الحياة اليومية وإن اعتمد السرد التركيز علي أحداث فاصلة. وحينما يقدم السرد سعد زغلول في الثلاثية أو في ميرامار لا ينحت له في جميع الأحوال تمثالا مهيبا, فيوجد حوله خلافات شتي. وهو مثل كل حدث سياسي في عالم محفوظ يصور منكسرا علي وعي الشخصيات ذوات التركيب النفسي والسياسي المتباين. إلا أن التجربة الجمعية اللعالم العموميب لا تنكشف بكل بساطة من خلال التجارب الذاتية الخاصة, فتقنيات السرد تدل من حيث التنسيق والمزاوجة بين وجهات النظر الخاصة المختلفة والوزن النسبي لكل منها وإحاطتها بالتأكيد أو التهكم علي أن هناك فجوة قد تضيق وقد تتسع بين الوعي الفردي والواقع التاريخي. فهذا الواقع كما توحي الروايات والقصص بمساره محصلة صراع بين قوي لا شخصية وقد يكون مغايرا لمجموع خبرات وعي الأفراد. وليس الواقع ببساطة ما يسجله أو يستجيب له وعي شخصيات الروايات أو القصص المتباين. ويكشف مسار الأحداث في الأعمال الأدبية أن لذلك الحاضر التاريخي إيقاع حركته المستقل عن إرادة الأفراد, فالأوضاع تتغير ويتغير معها الناس, فيكون هناك تمايز رغم التداخل بين الزمن التاريخي وأزمان السير الشخصية, كما أن المسائل المثارة تتخطي حدود المساحة الشخصية ولا يمكن احتواؤها داخل تاريخ علاقات الشخصيات فيما بينها, فللروائي أو القاص منظور ثابت حافل بإصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات, وهو يخرج عنها ليعبر عن طبيعة حاضر الفترة التاريخية التي كانت تمر بها مصر إما بالتأكيد السافر أو بالافتراض الضمني, باللجوء إلي الأشياء التي لا نزاع حولها في التاريخ والتي يتفق عليها الجميع بما فيهم القراء( من قبيل الموقف من الاستعمار والاحتلال والأحكام العرفية والديكتاتورية وتسخير الناس وإطلاق الرصاص علي المظاهرات السلمية), وهو منظور يمكن تصنيفه بأنه ليبرالي وطني. ولا تشير الروايات من قريب أو بعيد إلي أن التاريخ قصة متخيلة, فهي ترسي أسس واقعيتها في أحداث تفصيلية تاريخية محددة. ومحفوظ لا يقدم روايات وقصصا تاريخية ذات تصميم نظري جامد, بل يحاول أن ينفذ إلي قلب العملية التاريخية من خلال التوتر بين وجود الإنسان علي المستوي الخاص ووجوده علي المستوي العام. فلكل فرد تاريخ وتشكله الأحداث وهو يؤثر في الأحداث سلبا وإيجابا, فهناك تفاعل بين توجيه التاريخ العام للحيوات الفردية في الأعمال الأدبية وإسهامها في إيقاع مساره بالمشاركة الفعلية أو مجرد التعاطف أو باللامبالاة أو بركوب الموجة الرابحة في فترة تهادن وسلبية أو بمناوءة الحركة الصاعدة. ولا تقدم الأعمال المحفوظية مواد متحفية بل تبرز فهما لتداخل الماضي والحاضر, لتأثير الماضي الجمعي وعلاقته بما يحدث اليوم في الحاضر. فهي تصور طرائق الحياة والحالات الذهنية لفترات متعاقبة راصدة خطوطا بيانية موضوعية يقدمها الراوي من وجهة نظر الحاضر عند كتابة العمل, ناسجة العناصر الواقعية والإشكالية معا. فالتحرير من خلال التاريخ ينطوي في أعمال محفوظ علي المفارقة ويتضمن الكسب مع الخسارة وواقعيته أكثر من أن تكون طريقة خاصة في محاكاة الحاضر فهي تعني التعرف والتفهم والتقييم من خلال المشاركة الإنسانية في عالم فني من المعاني والقيم المقتسمة. إن عالم الحركة والتغير والسرد التاريخي في أعمال محفوظ يرفض أن تكون حركة التاريخ فوضوية بلا معني أو أن تكون عبثية بلا منطق. وزمنه الروائي القصصي التاريخي يقف طويلا عند اللحظات الحاسمة في صعود وهبوط عصر ما وليس تجريدا فكريا عن مسار خطي مستقيم يسير إلي الأمام, بل باعتباره متغلغلا في أعماق شخصيات حية. وأهم لحظات التاريخ المصري تحدد سلوك الشخصيات بوصفها التاريخي وبوصفها دلالات لمواقف اجتماعية من الأحداث.
ففي حديث الصباح والمساء(1987) والتي تتناول مرحلة ممتدة تشمل فيما تشمل الثورة العرابية نجد شخصية في الرواية لا تحدد موقفها من الثورة انطلاقا من موقف سياسي أو وطني ولكن من زاوية الأموال والأملاك. فهي تؤيد الثورة حينما تكون منتصرة وحينما فشلت أعلنت ولاءها للخديو. ويعلن وريث تلك الشخصية عقب ثورة1919 انحيازه للملك, لا لسعد ولا عدلي, فالإنجليز في تقديره لن يغادروا مصر كما أن مصر لا تستطيع أن تعيش بغير الانجليز. أي أن محفوظ قد قدم لونا من التأريخ الفني لأهم نقاط الحاضر الممتد من مجيء الحملة الفرنسية حتي مصرع السادات, وهذا اللون لم يعتمد في جميع الأحوال علي أحداث بارزة أو تجريدات بل تنسجه شخصيات من لحم ودم تأثرت بنقاط تحول فاصلة. وهناك شخصيات ثورية بالمعني الإيجابي تحمست للثورة العرابية وناصرتها بالقلب واللسان وتعرضت بعد هزيمتها للسجن والغربة, ولكنها ذابت في قلب التاريخ وتخللت نسيجه واعتبرت في الضمير الشعبي صاحبة بطولة تضاف في هذا الوجدان إلي عنترةوالهلالي وآل البيت( فاروق عبد القادر: أوراق من الرماد والجمر). ومن أحفاد هذه الشخصية نقرأ عن شباب وطنيين في ثورة1919 وعن ضباط يوليو1952, وعن شهداء في المعارك حتي أكتوبر.1973 ومن الملاحظ أن نجيب محفوظ في جميع أعماله ظل سرده يتعاطف مع قيادة سعد زغلول وخليفته مصطفي النحاس للحركة الوطنية والديمقراطية. أما قرينة الشخصية الثورية الحقة فهي أيضا ثورية بطريقتها المتميزة لأنها موسوعة ملمة بالغيبيات والخوارق والطب الشعبي وسير الأولياء وكراماتهم وأسرار السحر والعفاريت والأرواح التي تسكن القطط والطيور والزواحف, والأحلام وتأويلها وقراءة الطالع وبركات الأديرة والقديسين والقديسات. فهي الوجدان الشعبي الحافل بكل الموروث وهذا الوجدان انطبعت عليه أهم أحداث الثورة العرابية وثورة19, فسجلت هذه القرينة في قاموسها الخالد وليا جديدا اسمه سعد زغلول وبعد ذلك وليا آخر اسمه مصطفي النحاس. وآخر الأولياء الذين عاصرتهم هو جمال عبد الناصر ولكنه رفع أحفادا لها حتي السماء وخفض أعزة منهم إلي الحضيض والسجن, فراوحت بين الدعاء له والدعاء عليه. و حديث الصباح والمساء رواية أجيال مثل الثلاثية والباقي من الزمن ساعة وملحمة الحرافيش. وهي تتناول صباح التاريخ المصري الحديث ومساءه, الحياة بكل مجالاتها وتناقضاتها وحركتها إلي الأمام.
ويقال إن بعض أعمال محفوظ بعد الحرافيش حاولت تسجيل أحداث معاصرة وأبدت رأيه فيها ولكنها تنازلت في بعض منها عن الإحكام في البناء وتكثيف الصور وشاعرية اللغة وإن أسهبت في سرد مشاكل حاضرها مثل عصر الحب والباقي من الزمن ساعة. وبعضها الآخر معارضة أدبية لعمل من أعمال التراث مشبعة بنظرة إلي الحاضر وتحولاته: ليالي ألف ليلة وليلة(1982) ورحلة ابن فطومة(1983). وابن فطومة لا يحدد موطنه فأي مدينة من دار الإسلام تصلح موطنا له وقد تعرض لتجارب مزلزلة فرجال الدين خانوه بأن جعلوا الدين لا يتعدي الجوامع تاركين المؤمنين فرائس الفقر والجهل, وخانته أمه لأنها قبلت الزواج من معلمه وخانته حبيبته فتزوجت من حاجب الوالي. وحينما بدا له كل شيء كالحا تخايل له حلم الرحلة في طلب الحكمة خلاصا وحيدا. وكانت عيناه في رحلاته مشدودتين إلي نظام الحكم والسياسة من جهة وإلي العلاقات بين الرجال والنساء من جهة أخري. وهنا تسقط رحلته علي الماضي نظم الحاضر, الصراع بين رأسمالية الغرب واشتراكية الشرق, ويبدو أن الرحالة يميل إلي نظام الغرب الديمقراطي دون تحفظ من جانب محفوظ, فالشرق عدواني يهاجم جنوده الغرب. وقد واصل محفوظ رصد الحاضر المصري المتغير بعد هزيمة1967 وهي هزيمة نظام وسياسة وقادة ومؤسسات تركت أثرا مستمرا في إبداع محفوظ. ففي قشتمر(1989) يقول الراوي اغلب علينا الاستسلام للواقع الذي بدا لنا هنيئا إذ تخلصنا من كثير من رواسب الماضي واجتاحنا النعاس والحلم حتي فزعنا علي صوت انفجار كالبركان في5 يونيوب. وقد أحدث ذلك عواطف متناقضة وكانت القصة القصيرة هي الشكل الفني الملائم. فبعد الهزيمة اجتاز محفوظ أزمة كالتي دفعته للتوقف سبع سنوات كاملة بعد1952, فصار يبدأ كتابة القصة القصيرة دون أن يعرف كيف تنتهي, ولم تعد لديه تخطيطات لأعماله كما كان الأمر في الماضي. فمن يستطيع مثل هذا التخطيط؟ فالانفعال اليومي هو عذابه وعزاؤه. وهل يستطيع أن يثبت ما في الخارج لكي يطيل النظر إليه ثم يتناوله بالمعايشة والتحليل لأن الرواية عند محفوظ في حاجة إلي رؤية متكاملة تضم الذات والموضوع والماضي والحاضر وتستشرف المستقبل. وهذا ما لا يستطيعه في هذا الوقت( حديث محفوظ مع الناقد الراحل فاروق عبد القادر في روز اليوسف-1970/6/29). ويري فاروق عبد القادر أن محفوظ يكشف عن التزامه الحار بقضايا حاضر وطنه وهموم أهله ويعرض حيرته ودهشته وفجيعته وتشتته واضطراب خطاه, ولكنه لم يغفل لحظة واحدة عن أن بلاده تخوض معركة شاملة. فملمح قصصه القصيرة الأساسي عنده في تلك الفترة هو الصراع الذي يشمل العالم كله. ويري الناقد رشيد العناني أن مجموعة تحت المظلة القصصية تمثل خروجا جوهريا علي طريقة محفوظ المعتادة في إعادة خلق الحاضر الخارجي داخل قصصه حتي وقت صدورها. فالعالم في هذه المجموعة عند رشيد العناني عالم لا ارتباط فيه بين النتائج والمقدمات, ولا تضمن لغته إطلاقا القدرة علي التواصل, وهو أيضا عالم دون حس بالغرض يسوده العنف والعقم والفوضي. ويصل الناقد من ذلك إلي أنه عالم مصور بواسطة أفضل تقاليد أدب اللامعقول. وقد يختلف آخرون مع أن تحت المظلة قفزة مباغتة خارج المسار القصصي السابق لنجيب محفوظ, فقصة همس الجنون كانت تشير إلي حالة العقل المتوائم في ركود وسلبية مع منطق لا معقول يسود الحاضر أيامها وإلي عناصر الجنون في هذا الحاضر. كما أن قصة قوس قزح من مجموعة بيت سئ السمعة(1965) تصور بالمثل ما في الآلية المنتظمة التي يطلق عليها أنها عاقلة وإن استهدفت التسلق من دواعي اللامعقولية والجنون. أما المنظر في قصة تحت المظلة فقد أوشكت الرتابة أن تجمده وهو مثل الأحداث التي تقع في الطريق لا يسير وفق المنطق اليومي االمعقولب المعتاد ولا وفق الصورة التي تقدمها أجهزة الإعلام للواقع. فلقطة مطاردة لص والانهيال بالضربات عليه حتي يوشك علي الموت تنتهي بإصابة المطاردين بالإعياء وبلهاثهم, ثم الانغماس في مناقشة معه فيبدو اللص كأنه يخطب. أهكذا تعبر هذه اللقطة اللامعقولة عن منطق تعامل المطاردين مع اللصوص في واقع ما قبل الهزيمة؟ فهل كانت حجج اللصوص تبدو لهم جديرة بالإصغاء أم كانوا مستعدين للمصالحة مع اللصوص؟ ويظل الشرطي المدافع عن قانون النظام بلا حراك, كما أن النظارة لا يبرحون مكانهم خشية المطر. فهل كانت اللامبالاة هي التي تطبع الموقف من كوارث الصراع الاجتماعي والسياسي الحاد الدامي في حاضر تلك الفترة؟ ويخلع اللص ملابسه ويتجرد عاريا ويرقص في رشاقة ومطاردوه يصفقون له تصفيقات إيقاعية. فهل كان الحاضر السياسي في تلك الفترة عروضا تمثيلية غرائبية للأوضاع المجنونة؟ ولكن لقطات لا معقولة أخري يمكن اعتبارها أجزاء معقولة في مكانها المعتاد من المركب الكلي للحاضر الواقعي المرفوض وهي تشويهات منطقية بالقياس إلي هذا السياق الشامل للحياة الاجتماعية السياسية. وفي تصوير فترات الهزيمة والتمزق والإحباط استخدمت قصة تحت المظلة تقنية المونتاج السينمائي, أي تجاور لقطات متشظية مبتورة غير متصلة لتؤدي إلي نقل الإحساس بتدمير الكلية الإنسانية في حاضر تلك الفقرات. ولكن هذا المونتاج الذي ربط بين لقطات متغايرة متباينة يحدث في المتلقي صدمة حادة تدفعه إلي استبصار رافض للمنطق المختل دون لجوء من جانب الكاتب المبدع إلي نزعة اللامعقول. إن عالم محفوظ في قصصه ورواياته التي تكتشف الحاضر باعتباره حلقة من تاريخ لا يعتبر التاريخ كابوسا يحاول الاستيقاظ منه, فهو عالم يرفض اليأس من المصير الإنساني ولا يعتبر التاريخ مخلفات وبقايا أثرية, كما لا يعتبر الحاضر وقائع متناثرة في البيوت والشوارع. إن هذا العالم علي العكس من ذلك يكتشف التطور الاجتماعي والسيكولوجي والعقلي للإنسان في مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.