الفابت المالكة لجوجل تعزز من عائداتها وأرباحها في الربع الأول    مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر الآيس كريم والبيتزا بعد منتصف الليل، والسبب غريب    عاجل - حزب الله يعلن استهداف قافلة تابعة للعدو قرب موقع رويسات العلم.. وهذه خسائر قوات الاحتلال    إسرائيل تدرس اتفاقا محدودا بشأن المحتجزين مقابل عودة الفلسطينيين لشمال غزة    وزير الخارجية الصيني يجري مباحثات مع نظيره الأمريكي في بكين    أحشاء طفل و5 ملايين جنيه وتجارة أعضاء بشرية.. ماذا حدث داخل إحدى الشقق السكنية بشبرا الخيمة؟    أنغام تبدع في غنائها "أكتبلك تعهد" باحتفالية عيد تحرير سيناء بالعاصمة الإدارية (فيديو)    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    البنتاجون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ «ATACMS»    عاجل - قوات الاحتلال تقتحم نابلس الفلسطينية    أسعار الأسماك واللحوم اليوم 26 أبريل    سيول جارفة وأتربة، تحذير شديد اللهجة من الأرصاد بشأن طقس اليوم الجمعة    طريقة تغيير الساعة في هواتف سامسونج مع بدء التوقيت الصيفي.. 5 خطوات مهمة    ماجد المصري عن مشاركته في احتفالية عيد تحرير سيناء: من أجمل لحظات عمري    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. توجيهات الصحة بتجنُّب زيادة استهلالك الكافيين    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    طارق السيد: ملف بوطيب كارثة داخل الزمالك.. وواثق في قدرات اللاعبين أمام دريمز    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    رئيس لجنة الخطة بالبرلمان: الموازنة الجديدة لمصر تُدعم مسار التنمية ومؤشرات إيجابية لإدارة الدين    نجم الأهلي السابق يوجه رسالة دعم للفريق قبل مواجهة مازيمبي    ناقد رياضي: الزمالك فرط في الفوز على دريمز الغاني    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    تطبيق "تيك توك" يعلق مكافآت المستخدمين لهذا السبب    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الفيلم القصير في الإسكندرية    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    الزراعة: منافذ الوزارة تطرح السلع بأسعار أقل من السوق 30%    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    بالصور.. مصطفى عسل يتأهل إلى نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    برج العذراء.. حظك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024 : روتين جديد    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    حدثت في فيلم المراكبي، شكوى إنبي بالتتويج بدوري 2003 تفجر قضية كبرى في شهادة ميلاد لاعب    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مائة عام من الأدب نجيب محفوظ
العائش فى الرواية
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 06 - 2011

عامنا هذا هو المتمم لمئوية الراحل العظيم « نجيب محفوظ». وكان المخطط له أن يكون كرنفالا متنوع الفعاليات بطول السنة، يبدأ يوم 11/ 12/ 2010 وينتهي في 11/12/2011، بواقع احتفالية كل شهر في المجلس الأعلي للثقافة، وأنشطة موازية بمكتبة الاسكندرية في الوقت نفسه، مع إتاحة المجال للمؤسسات الخاصة، والأفراد، لإقامة الندوات، والاحتفاء بأديب نوبل كما يشاؤون، لتكون السنة كلها لمحفوظ رسميا وشعبيا.
لكن الأقدار شاءت أن تهيمن «ثورة يناير البهية» علي الشأنين العام، والخاص منذ مطلع العام، لتشغلنا جميعا بأحداثها العظيمة. وعزاؤنا أن تكون هتافاتها وصلت إلي « نجيب محفوظ» في مرقده، وسعد بتحقق حلم الحرية المتكرر في جُلّ أعماله، وأحاديثه، في ملحمة تشبيه ثورة 1919 المجيدة، الأثيرة لقلبه، والتي عَدَّها في ثلاثيته الشهيرة، مثالا ساطعا لإرادة الأمة المصرية ووحدتها الوطنية.
والآن. بعد هدوء الهتافات، واستحالة الحماس الشعبي إلي تأمل وبحث عن سُبل الخلاص الديمقراطي، تجدد «الأهرام» الاحتفاء « بمئوية محفوظ» علي ضوء الثورة، كأحد المُبشِرِين بها، وكونه أحد أبناء وكُتّاب المؤسسة، للتذكير به وبأعماله، في الجمعة الأولي من كل شهر، في ملحق الأهرام الذي نشر العديد من أعماله، استلهاما لروحه التي ما زالت تحوّم في وجداننا.
حين قال الأديب الفرنسي المعروف «ستاندال» صاحب رواية « الأحمر والأسود» الشهيرة : «إن الرواية مرآة تتجول في الطريق العام» كان يبشر بالدور الجوهري الذي اضطلعت به فعلا في قابل الزمان، وأثبتته عبر قرنين لاحقين علي تلك المقولة، حيث ازدهر هذا الفن علي أيدي مبدعين أفذاذ، حفروا له مجري عميقا متسعا، استوعب تيارات هادرة، جعلت الرواية تبدو نهرا دافقا من الإبداع.
وبين الآباء المؤسسين تربع الراحل الكبير «نجيب محفوظ» الذي يُظِلَنا عَامَهُ المائة (من 11/12/ 2010 إلي 11/ 12/ 2011) المتمم لقرن من الدأب والإخلاص. فمنذ بواكيره إنحاز للرواية، حين تعرض لمفاضلة قاسية بين اشتغاله بالفلسفة، أو احتراف الأدب، فكان بنص كلامه يمسك بكتاب فلسفة في يد، وباليد الثانية قصة طويلة ل «يحي حقي» أو « توفيق الحكيم»، فاشتبكت في رأسه المذاهب الفلسفية مع أبطال القصص «في صراع رهيب لا يعرف مداه إلا من عاش فيه».
وعن هذه الإشكالية المبكرة قال : «.. كان عليّ أن أقرر شيئا أو أُجن. ومرة واحدة قامت في ذهني مظاهرة من أبطال « أهل الكهف»الذين صوّرهم توفيق الحكيم، و « البوسطجي» الذي رسمه يحي حقي، والفلاح الصغير الذي لا يعرف من الدنيا أبعد من حدود عيدان الغاب المنتصبة علي حافة الترعة في رواية « الأيام « لطه حسين، وأشخاص كثيرين من أبطال قصص محمود تيمور، كلهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة، وقررت أن أهجر الفلسفة وأن أسير معهم».
واختار هذا الفن الحديث وقتها علي الإبداع المصري بملء إرادته، لأنه وجد في الرواية وفق تعبيره : « اللحظة أو الموقف الواحد اللذين تمتاز بهما الأقصوصة، وفيها نجد التحليل والنقد كما في المقالة، ونجد الحوار والموقف الدراماتيكي كما في المسرحية، وفيها متسع للتعبير الشعري، والخيال الشعري إن وجد الاستعداد لهما كما في الشعر، بل إن في الرواية إمكانيات الوسائل التعبيرية الأحدث منها كالإذاعة والسينما، وبينما نجد كل شكل فني مجالا محدودا للتعبير لا يستطيع الفنان أن يتجاوزه، فإن الرواية لا حدود تحدها .. فهي شكل فني لا نظير له».
وكتب عشرات القصص القصيرة، ونشرها في المجلات السيارة، وكانت باكورتها « ثمن الضعف « في « المجلة الجديدة» أغسطس 1934، وتبعها بأخريات في جريدة السياسة، ومجلات الرسالة، والرواية، ومجلتي، والثقافة، وجمع منها لاحقا أولي مجموعاته القصصية» همس الجنون».
وشجّعه «سلامة موسي» الذي احتفي به وسانده في خطواته الأولي، علي ترجمة كتاب «مصر القديمة» للكاتب الاسكتلندي « جيمس بيكي»، ونشره في المجلة الجديدة 1934، ويبدو أن هذا الكتاب كان سبب تفكيره في كتابة تاريخ مصر القديمة كاملا في سلسلة تمتد لخمس وعشرون رواية. لكنه لم يقدم منها سوي الثلاث المعروفة فقط، « عبث الأقدار»، ورادوبيس»، و» كفاح طيبة»، التي سريعا ما فارقها إلي الرواية الحديثة، متخليا عن مشروعه كتابة تاريخ مصر القديمة بالأدب، مفضلا عليه تاريخ مصر الاجتماعي المعاصر، لما يراه من المكابدات السياسية والإنسانية التي يعانيها الناس .
وفي ذاك الوقت أصدر الكاتب «عباس محمود العقاد» كتابه « في بيتي» وكان يشبه المونولوج، افترض فيه وجود قرين له يلازمه في تنقلاته بأنحاء بيته، ويسأله في شئون شتي، من بينها ما يُفَضِلَه من القراءة، وعن قلة كتب القصة في مكتبته، فأجاب العقاد بكلام فيه استخفاف صريح بالرواية، وأنه يفضل الشعر عليها، باعتباره الفن الأول بتقديره، والرواية عنده كالخرّوب ( كتبها الخرنوب ) كما وصفه المثل الشعبي «قنطار خشب ودرهم حلاوة»، فبادر بعض قراء مجلة «الرسالة» التي كان العقاد أبرز كتابها لمناقشة رأيه هذا علي استحياء، وبعتب المحبين، لكن الأديب الناشئ «نجيب محفوظ» الذي كان يتحسس بداية طريقه آنذاك، آثر تفنيد رأي العقاد بثقة لا تخلو من تحد وسخرية، وفي مجلة الرسالة أيضا « نشر مقالته « القصة عند العقاد « التي ذهب فيها إلي :» إن وصف العقاد للقصة بأنها ليست من خيرة ثمار العقول، وما قاله لصاحبه، في بيته، حين لاحظ ضآلة نصيب القصص في مكتبته، من أنه لا يقرأ قصة حين يسعه أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر، إنما هو أمر يسلب العقاد حق الحكم علي القصة، فالرجل الذي لا يقرأ قصة حين يسعه أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر ليس بالحكم النزيه الذي يقضي في قضية القصة. والرجل الذي يلاحظ علي مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغي أن تكون القصة آخر ما يرجع إليه في حكم يتصل بها، بل إنه يفضل النقد لا الشعر والنثر الفني وحسب علي القصة، والنقد ميزان لتقويم الفنون، فكيف يفضّل علي أحدها؟ وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند أحد إلا إذا كان لها كارها وعليها حاقدا؟!
وبدأ نجيب محفوظ ردّه علي العقاد المستخف بالرواية أو القصة كما أسماها برفض المفاضلة بين الفَنَّيْنْ غير المتعارضين، وإن اختلفت اشتراطات الإبداع في كل منهما، فهما يتفقان في الأهداف كما قال : « إن الفن أيا كان لونه وأيا كانت أداته تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يباري، ففي عالم اللون التصوير سيد لا يعلي عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقي سيد لا يداني، فالفنون جميعا تتفق في الغاية، وتتساوي في السيادة كل بحسب مجاله. وهي في مجموعها تُكوّن دنيا الأفراح والمسرّات والحرية، حيث يعيش أبناؤها علي وفاق ومحبة وتعاون، لا يكدر صفوهم مُكدِّر إلا أن يتصدي رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة، فيرمي بحيرتها الساجية بحجر ثقيل يُطَيِّن رائقها، ويبعث الثورة في أطرافها، فيقول إن هذا اللون من الفن راق وذاك منحط، هذا عزيز وذلك مبتذل. ولن يفيد الفن شيئا من تحقير العقاد لبعض أنواعه، إلا أن يغضب قوما أبرياء يحبون الحق كما يحبه، ويولعون بالجمال كما يولع به، ويبذلون في سبيل التعبير عنه كل ما في طاقتهم من قدرة وحب.
ولفتني في رد نجيب محفوظ عدة ملاحظات، أولها موضوعيته بالرغم من أنه كان في فورة الشباب ( تجاوز الثلاثين بقليل )، حيث اتخذ موقفا مبدئيا في الدفاع عن قيمة فنية رفيعة، ولم يتهيب مكانة العقاد كعملاق كما كان يراه العموم، ومن دون أن يهدرها أيضا. والثانية تحيُّزه الجاد لفن الرواية، باعتبارها رهانه المستقبلي، وخياره الاستراتيجي الوحيد، الذي احتشد له من وقتها وأبلي فيه بلاء حسنا، وقدم فيه ما لم يستطع غيره أن يقدمه، وربما كان يُحسّ قدر موهبته، التي أسهمت بنصيب الأسد في تأسيس قواعد الرواية العربية، التي شهدت ازدهارا مذهلا ، وإلي الآن، لدرجة باتت معها علامة عصر ، بظهور مصطلح « زمن الرواية» الذي التقطه الناقد الكبير د.» جابر عصفور» واتخذه عنوانا لأحد كتبه المهمة. ولم يتردد محفوظ أيضا في ردّ العقاد كما يرد المحامي القاضي إذا ما وجد سببا لذلك، ويبدو أنه أصاب العقاد، أو أقنعه، فلم نشهد له ردا علي إفراطه في حسن ظنه بنفسه، والاعتداد بآرائه وعدم تراجعه عنها، كما اشتهر عنه، فربما لم يكن يميل لفكرة تصويب وجهة نظره علانية إذا ثبت عدم دقتها، كما بدا في هذا الأمر، ويبدو أنه آثر الصمت إذ وجد نفسه في حرج أمام رد نجيب محفوظ المُفحِم.
والبادي أن محفوظ كان يدرك أين يضع قدمه، ويعرف ما يتحدث عنه يقينا، فلم يكتف بدحض مقولات العقاد، بل دفعه تعلقه بمحبوبته الرواية للتغزل بها واستعراض مناقبها في جمل حازمة :» إن الإبداع الفني لا يتمثل في عمل أدبي كما يتمثل في أدب القصة»، وهي عنده « أبرع فنون الأدب التي خلقها الإنسان المبدع في جميع العصور»، وأعاد أسباب انتشارها وسيادتها علي بقية الفنون الجميلة إلي « روح العصر»، مؤكدا أن الشعر شاع : « .. في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتما لفن جديد، يوفق علي قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق، وحنينه القديم إلي الخيال، وقد وجد العصر بُغيَته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس ذلك لأنه أرقي من الزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة علي هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة».
ولم يألُ «محفوظ» بعد ذلك جهدا ولا وقتا، فانقطع لكتابة الأدب بإخلاص، وبناء مشروعه الإبداعي، الذي أوقف عليه عمره، ولم تكن الوظيفة الحكومية في حياته سوي سبيل للعيش يعينه أكثر علي التفرغ للأدب، ومصدرا للإلهام ينهل منه أفكارا عبر احتكاكه اليومي بالناس، فاختلط انحيازه إليهم بحبه للرواية، كما بدا في أول رواياته « القاهرة الجديدة»، التي انتقد فيها تردي الأوضاع السياسية التي دفعت بعض المجتمع إلي حضيض العدمية، كما جري علي «محجوب عبد الدايم»، الشخصية الناضجة روائيا، وصاحب كلمة «طُظ» الشهيرة، التي يتخذها العدميون تكأة لتبرير انهياراتهم، والتخلص من منظومات قيم أثقلت كواهلهم، من دون منحهم بشارة للخلاص، ولم تعفهم من مشقات الحياة، فجاءت تصرفاتهم كمن يحاول النجاة من الوحل بالغوص فيه، فيطيّن نفسه وواقعه أكثر فأكثر .
واتسمت قدرته علي التفاعل مع الواقع بالوعي، وإدراكه دور المجتمع الذي ينتمي إليه، ومحيطه الذي يتنفس فيه، واكتسب خبراته، وعرف ناسه، فالطبقة المتوسطة ميزان المجتمع، إذا مالت مال، وإذا انصلح شأنها اعتدلت أحواله بالضرورة. مع خبرته المباشرة بحواري وأزقة القاهرة الإسلامية، التي كانت تعج بالقيم الروحية المختلطة، والعادات الاجتماعية المحافظة، ومتخمة بمكامن الفقر العاصف، ومسارب « ساعات الحظ» الخفية، ومراتع البراءة واللهو، تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي، وفساد النظام الملكي، والتردي الفادح لأحوال المصريين المعيشية، إضافة لإلمامه الجيد بالمتغيرات اللاحقة علي ثورة 1919، وهي عنده الحدث الفارق في تاريخ الأمة، وكذا زعيمها «سعد زغلول» المثال الذي أُولع به إلي أن مات، وبقي يراه والوطن صنوان، كما قال عنهما في أحد حواراته : « .. كنت لا أفرق بين الاثنين، أحب الاثنين معا، سعد زغلول الذي أعتبره رمزا للوطنيين، والوطن الذي منه سعد وعنه يدافع، كان من الصعب عليّ في هذه الفترة التفريق بين الاثنين، ومن السهل محبتهما معا».
هذا مع الحضور الطاغي لليبرالية العظيمة وصُنّاع النهضة الثقافية المصرية الكبار، وفي الصدارة منهم أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد والمازني وسلامة موسي والشيخ مصطفي عبد الرازق والزيات، و»سيد درويش» في الموسيقي، و»محمود مختار» في النحت، و»محمود سعيد» في الرسم، وهذا إجمالا وتفصيلا كان خليقا بمنح موهبة محفوظ زخما فكريا، وأفقا إبداعيا منفتحا، فطرح عناوينه المثمرة مثل « القاهرة الجديدة»، و « خان الخليلي»، و»زقاق المدق»، و»السراب»، و»بداية ونهاية»، التي شهدت نضجه الإبداعي، وتوج تلك المرحلة بثلاثيته ذائعة الصيت « بين القصرين» و» قصر الشوق» و»السكرية»، التي أنهاها في إبريل 1952، وهي روايات احتشدت بالتباسات الواقع، و تخللتها أسئلة قلقة تحث أي قارئ علي البحث عن إجاباتها، باعتبارها تثويرا هادئا للوعي الفردي والجمعي. وازدحمت بتفاصيل وصفها هو بقوله :» .. أكثر التفاصيل في القصص صناعة ومكر لإيهام القارئ بأن ما يقرؤه حقيقة لا خيال، إذ أنه يُثَّبِت الموقف أو الشخص كحقيقة مثل التفاصيل المتصلة به، وكلما دقّت كان القارئ أسرع إلي تصديقها».
وبعد ثلاثة أشهر من إنهائه الثلاثية قامت ثورة يوليو 1952، فكف عن الكتابة تماما، في حال وصفها البعض «بالصمت الإبداعي»، لكنها كانت مفيدة لتأمل ذلك الحدث الضخم، الذي زلزل أوضاعا راسخة منذ قرون، كرّست صورا جارحة للظلم الاجتماعي، لكن محفوظ بتكوينه الحذر، وليبراليته المكينة تشكك بانتهاج العسكر الديمقراطية، وإن سمُّوها ضمن مبادئ ثورتهم، وسرعان ما تأكدت شكوكه، لانتكاسهم علي مبادئهم، واهدار أكثر من نصف قرن من الليبرالية، بُني بمكابدات وطنية بذل فيها النخبة والشعب الغالي والنفيس.
اكتظ وجدان محفوظ بكل هذا، ودخل في تشكيل قناعاته السياسية الجديدة، فلم يستطع هضمه مباشرة، ولا الصراخ في وجهه علانية، وبلا بصوت عال، لكن بحسّه الفني، وحرفيته الأدبية، وليبراليته العائدة إلي ثورة 19 وتجلياتها في بعث الروح المصرية، وتدشين حياة مدنية حديثة، وإعلاء شأن الدستور والقانون، ورأب اللُحمة الوطنية في مواجهة التعصب الطائفي. لم يشأ أن يكون صمته أبديا، وبعد انقشاع الغيوم، وبزوغ الحقائق، طابت له الرؤى الجديدة. وحان دور الأدب. لكن في شكل مختلف. وفي حوار بمجلة الإذاعة والتليفزيون (ديسمبر 1957) قال محفوظ عن حالة التوقف هذه :».. لا أعرف متي أعود إلي الكتابة، ولكن عندما أستأنفها لن أعود إلي الواقعية مرة أخري، لقد مللت هذا اللون من الكتابة، وتكفيني أطنان الواقعية التي شحنتها في رواياتي. إنني أشعر بتطور في أعماقي، وسوف ينتهي هذا التطور حتما بطريقة جديدة في الكتابة أستعملها عندما أمسك قلمي الكوبيا وأوراق العرائض مرة أخري».
وكانت « أولاد حارتنا» عودة قوية إلي الكتابة، وفاتحة لواقعية جديدة الباعث إليها عنده حسب قوله : « .. أفكار وانفعالات معينة تتجه إلي الواقع لتجعله وسيلة للتعبير عنها. فأنا أعبر عن المعاني الفكرية بمظهر واقعي تماما».
و بانزياح حال التوقف، وعودته لأسئلته الوجودية والإنسانية، فاجأ الجميع برواية « أولاد حارتنا» التي انحاز فيها للضعفاء المقموعين، وقلوبهم المسكونة بالعدل الغائب، الموجوعة بظلم نشط، وشر يتعاضد أنصاره قبالة خير ضعيف، عمره قصير كالومضات، فاستعان بقوة العلم، محاولا إنزال «الجبلاوي» من غيبيته لينظر في أمر المغلوبين، ويرفع ضيم نظار وقفه عنهم، لعله يستطيع توفيق أفكاره بصيغة ما مع توجهات «عرفة»، رمز العلم والثورة، الذي تمرد علي البطريركية العتيدة، وربما كانت تلك إشارة من زاوية ما «لأبوية عسكر يوليو الباطشة»، أو الاستبداد في عمومه الذي أرهق البشرية علي امتداد عصور أليمة، ما جعل الناقد الكبير الراحل « محمود أمين العالم» يري أن « أولاد حارتنا» : « توكيد للمعني الإنساني الصرف للأديان، وأن جوهر الدين هو العدالة والأمن والكرامة والحرية والمحبة والخير، هو التقدم للإنسان، وأن العلم امتداد واستمرار لرسالة الأديان، وهو وسيلة لتحقيق أنبل أهدافها»، واضاف أن : « عرفة لم يكن مجرد مخترع، بل زوج عاشق، زوجته تدعي عواطف. وفي الزواج معني من معاني اللقاء بين العلم والشعر، العلم وإنسانية الإنسان».
إذن. كان التوقف عن الكتابة استراحة ضرورية لشحذ الرؤى، والتقاط الأنفاس، واحتشاد لعناء البحث عن «سيد سيد الرحيمي» في متاهات «الطريق»، ذلك الأب الغامض، الرمز العصي علي الظهور، دينيا أو دنيويا، لينزل العدل بين أبناءه، وطرح التخوفات السياسية، والهواجس الفلسفية بشكل أعمق وأكثر حيوية، في» اللص والكلاب» و»الشحاذ»، و»ثرثرة علي النيل» و»ميرامار»، ما يعني أن نجيب محفوظ العائد إلي رواياته لم يكن معنيا بشئون وطنه وحسب، بل قضايا الإنسان عامة، لا انفصال عنده بين مكان وآخر، و لا اختلاف بين زمان وغيره في أوَلِيّات القضايا الإنسانية، فيما يخص الوجود والحريات والكرامة، وأبدي مقته لفساد وانتهازية «رءوف علوان « في « اللص والكلاب»، وحسن الدباغ» في « السمان والخريف» و»سرحان البحيري « في « ميرامار»، النموذج الثوري الانتهازي المتكرر الذي تعقبه بلا كلل في أعمال عديدة له. وعبر هؤلاء وغيرهم من شخوصه، نثر آراؤه في أعماله، يمكن لأي مهتم واع تجميعها بسهولة كقطع « الباذل»، ليعي موقفه بشكل ظاهر، ويفهم مقاصده، ويعرف أنه ظل في مسعي نشط علي امتداد مساره الإبداعي، يدور مع الإنسان في مكابداته، التي تضفي علي حياته أهمية وحيوية، وتمنح سعيه نحو مُثُله العليا قيمة أرفع، وسط إصرار الإخفاقات علي ملاحقته، ورمي صخرة سيزيف إلي السفح كلما أوصلها إلي القمة.
لم يأت ذلك التوهج المحفوظي من عدم، ولم يذهب بددا.
بل كان نتاج رصد دقيق، واعتناء دءوب، ورؤى سياسية لمبدع منتم، وشجاعة داخلية خلّاقة، بعكس ما يوحي ظاهره، ودهاء ومرونة في مراوغة صُنّاع القمع، رهانا علي خلود الإبداع وتجدد معانيه، وضعف القهر تدريجيا وزواله بالتقادم، فالأدب ديدنه المواربة والتخفي، وعدم المباشرة تجعله مستغلقا علي أفهام مترصديه، فيبدو علي نحو ما سخرية من فشلهم، وعجزهم عن فهم ما يمر من تحت ذقونهم، وفي هذا الصدد أظهر محفوظ براعة لافتة باستخدام الرموز الملتبسة، والأسماء الموحية، وتغليف المضامين، وتمويه الاتهامات، في مدارات أوسع من قدرات العقول المتشنجة، إمعانا في السخرية من عسس الأدب، وأركان النظام المتغطرسون بجهلهم، كما حدث مع مسئول رفيع في الستينات سأله عن حكاية «ثرثرة علي النيل ؟» فرد من فوره : « .. دا كلام حشاشين»، وضحكا معا، من دون أن يتنبه السائل لبراعة المسئول، ما يكشف قدرة الإبداع علي تفادي منزلقات الواقع .
ولم يقف النضج بمحفوظ عند حد، فانفتح علي المدي، في الرؤي، واللغة، والمغامرة والتجريب، في الشكل والمضامين، وتجلت صوفيته الإنسانية، وصفاؤه اللغوي في ملحمته «الحرافيش» التي رأى البعض نسخة مكتملة من « أولاد حارتنا»، وأن هذه الأخيرة كانت «بروفة جنرال» للحرافيش، وهو فيها يهيم خلف أسئلة فكرية حيّرت العالمين، تدور حول تحولات الإنسان، وتقلبات الزمان به، ففيما ينكسر الجبار العاتي، وتذوي قوته وبعد توحشه وتربصه بالخلق يصبح مدار إشفاقهم، وأمثولة يعتبرون بها ويتندرون عليها، ويتحول المعدم الحافي إلي متسلط قاس، متنصلا من تاريخه، متجبرا علي بني جلدته، في جدلية وصيرورة سرمدية، لا تكف عن إنتاج أسئلة متلاحقة تعجز الاجابات عن إدراكها، أو فض مغاليقها، ليعلق علامات استفهامه في أعناق الكافة كالأجراس، حول أزلية الشقاء الإنساني، دوّامة مكرورة المشاهد. يصفو عبرها سرد محفوظ كروحه، وتأتي جُملَه بليغة متفجرة، ملضومة في خيط الفكر الجارح، متصلة وإن تناثرت: « ألا يبالي رجال الله بما يقع لخلق الله؟ .. متي إذن يفتحون الأبواب ويهدمون الأسوار؟ .. حتي متي تشقي حارتنا وتمتهن؟ .. لمَ ينعم الأنانيون والمجرمون، ولمَ يجهض الطيبون والمحبون؟ .. لِم يغط في النوم الحرافيش؟».
وكيف تكون حياتنا، وكيف نعيشها؟ فتوات أم حرافيش، أم فتوات وحرافيش، من الفاعل والمفعول به، وهل يمكن أن تتحكم إرادة الإنسان منفردة في الصيرورة القدرية، وهل يمكن أن يجتمع الحرافيش لمواجهة الفتوات؟.
فهل كان نجيب يقصد حارة يعرفها وعاشها، أم حارة حوّمت بمخيلته فقط، أم حارتنا التي نسكنها الآن، وحياتنا المعيشة، ومعاناتنا الآنية، أم حارة سكنها الأسلاف في حضارة غابرة، بمعاناة مرّرت عيشهم، وظلم ممضِّ نغّص حياتهم، كما ينغصها علينا اليوم؟.
ربما كانت الرواية معنية بواقع ما، أو حقيقة تدور مع الإنسان وجودا وعدما، بين مشقة اليومي التفصيلي، أو طوباوية أرهق الإنسان تنكُّبها، ترقبا لحلم استعصيّ علي الجميع، ذلك العدل الذي راوغ البشرية، منذ النشأة الأولي، وإلي أجل غير منظور دائما في سائر العصور، ذلك العدل الذي دفع «عاشور الناجي» للمحاولة، هذا المجهول النسب الذي التقطه الشيخ « عفرة زيدان»الكفيف، ولقّنه القرآن، والتعاليم الأخلاقية، وزرع في وجدانه بذرة الخير، فبرّ بالفقراء وشملهم بحمايته، وتصدي للمتجبرين الذي سلبوا شقاؤهم، وأوصي إبنه « شمس الدين الناجي» من بعده ألا يتردد في نصرة الضعفاء، وتجنب غوايات الشيطان، فليس ثمة ما يساوي « طهارة الضمير».
والحق أن التنوع الإبداعي، والتجريب كانا من أسباب الاحتفاء النقدي بأعمال محفوظ في كل مراحله، إلا أن الأمر لم يخل من تفسيرات أيدلوجية لأعماله، وانحيازاته، وإن كانت قبل كتابته الثلاثية، كما ذهب الدكتور « عبد العظيم أنيس « إلي أن محفوظ : « كاتب البرجوازية الصغيرة، وليس المُعَبِّر عن القوي الاجتماعية الجديدة التي تكافح لكي تؤكد وجودها، أعني الطبقة العاملة المصرية»، والبرجوازية الصغيرة بنظر أنيس هي: « .. الشريحة الاجتماعية التي توفر نجيب محفوظ علي دراستها، بكل أوهامها وفرديتها،وبكل آمالها وتناقضاتها، بكل رغبتها في التخلص من الجذور القديمة التي تربطها بالطبقات الشعبية الفقيرة».
وأنه برأي أنيس : « .. المعبر عن مأساة البرجوازية الصغيرة في المرحلة الثانية من الكفاح الوطني، وهو يحرك نماذجه البشرية في إطار هذه الطبقة الاجتماعية ويحمّلهم أوهامها، ويضع علي أكتافهم كل أوزار تناقضاتها..»، : « والحقيقة أنه حين يعبر عن مأساة البرجوازية الصغيرة، فإنه يعبر بالدرجة الأولي عن مأساته هو، إنه يسجل مأساة طبقته، لكنه لا يري أبعد منها».
وحمل عبد العظيم أنيس علي محفوظ لتقديمه شخصيات ضعيفة تتحدث عن اشتراكية حالمة، وعدالة اجتماعية باهتة، ولأن البطولة في أعماله شابها نُكوص علي الرواية في عهودها الأولي لارتباط محفوظ بالأدب الغربي البرجوازي، فلم يقدم بطلا ثوريا حقيقيا، بالإضافة إلي عيب وضع حوار فصيح علي ألسنة شخصيات شعبية في أعماله.
ويبدو أن الدكتور أنيس ظل متمسكا برأيه هذا إلي أن مات ولم يبد تراجعا عنه، ولم أعثر له في حدود سعيي علي رأي مكتوب مخالف لهذا الكلام لاحقا، لكن الناقد اليساري الكبير محمود أمين العالم ذهب باتجاه مغاير تماما بالرغم من شراكتهما في الفكر والطريق، وتقاسمهما تأليف الكتاب الشهير « في الثقافة المصرية»( 1955) الذي أحدث دويّا عند صوره في الوسط الثقافي العربي، ودشن مصطلح ونظرية الواقعية الاشتراكية النقدية التي تم تفسير مئات الأعمال بمعاييرها، وكان لها أبلغ الأثر في قراءة الإبداع لعقدين علي الأقل علي أساس أيدلوجي، وتدشين ودعم كُتَّاب ضِعاف لمجرد أنهم من البروليتاريا، فأصابوا من الشهرة ما هو كثير مقارنة بأعمالهم الهزيلة.
لكن محمود أمين العالم للحقيقة تخفف من غُلَوَاء تلك النظرة بعد سنوات قليلة، وكتب مقالات عديدة صحح رؤيته فيها لأعمال « نجيب محفوظ»، خلال الستينات ضمّنها في كتابه « رحلة تأمل عبر عالم نجيب محفوظ» (1970) خلص في تقديمه له إلي أن : « أدب نجيب محفوظ أرفع صورة متكاملة نابضة لأديب عربي معاصر، يمتزج فيها المفكر بالشاعر بالمناضل امتزاجا خلاقا».
وخلال الثلاثة عقود الأخيرة ظل»نجيب محفوظ»، مخلصا لأسئلته حول الإنسان، في الزمان والمكان، فهو المعني بشئون الوطن كما في « أمام العرش «، و» يوم قتل الزعيم» وشجون الإنسان في « ليالي ألف ليلة» و» رحلة ابن فطومة» و « العائش في الحقيقة»، وكلها مع غيرها في تداعيات السياسة، وتجليات الوجودية، التي بقيت تشاغله حتى آخر نفس، والملاحظ في أغلبها أن لغته باتت رائقة تماما، وعالمه شفاف كالوجد الصوفي، خاصة في «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»، المفردات تذوب في مضامينها الفلسفية، والمعاني مفهومة وغامضة، قريبة للقلوب ومحيرة للأذهان، وتضفي عليها أثيريتها غموضا محببا، ماضية إلي أبدية أكثر غموضا، لكنها تحلق بالأذهان مع تساؤلات ممتعة مؤلمة، من نحن؟ وما حدث لنا؟ ولماذا؟ وإلي أين نسير؟ وهل كنا مُخيّرون أم مُسيّرون؟ وهل كنا نملك من أنفسنا شيئا أفضل مما حدث؟
يقول الراحل العظيم في أصداء السيرة الذاتية تحت عنوان « فيلسوف صغير جدا»:
يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة. تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة.
الآن يؤذن الصوت الأبدي بالرحيل. ودع دنياك الجميلة واذهب إلي المجهول. وما المجهول يا قلبي إلا الفناء. دع عنك تُرّهات الانتقال إلي حياة أخري. كيف ولماذا وأي حكمة تبرر وجودها؟ أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبي. الوداع أيتها الحياة التي تلقيت منها كل معني ثم انقضت مخلفة تاريخا خاليا من أي معني.
( من خواطر جنين في نهاية شهره التاسع)
ومن « أحلام فترة النقاهة» قال في الحلم 1:
« أسوق دراجتي من ناحية إلي أخري مدفوعا بالجوع، باحثا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود، ودائما أجدها مغلقة الأبواب، وحانت مني التفاتة إلي ساعة الميدان فرأيت أسفلها صديقي، فدعاني بإشارة من يده فملت بدراجتي نحوه وإذا به علي علم بحالي فاقترح علي أن أترك دراجتي معه ليسهل علي البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث وجوعي يشتد، وصادفني في طريقي مطعم العائلات، فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه علي الرغم من علمي بارتفاع أسعاره، ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارة مسدلة، فما كان منه إلا أن أزاح الستارة فبدت خرابه ملأي بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج:
ماذا جري؟
فقال الرجل :
أسرع إلي كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يُشطِّب، ولم أضيع وقتا فرجعت إلي ساعة الميدان، ولكنني لم أجد الدراجة أو الصديق».
هذا النوع من الكتابة يعد بمثابة «ذروة الحكمة» لدي أي مبدع جاد كنجيب محفوظ، ويعكس من جانب ثان علاقة الإنسان الجدلية والعكسية بالمعرفة، فكلما ازدادت تجاربه زادت شكوكه، وكثرت أسئلته الفلسفية، وكلما علم أكثر شعر بأنه لا يعرف شيئا، فهذه جدلية الحياة الكبرى، والنقطة الفاصلة بين المفهومية والجهالة، وبين المبدعين العظماء، الذين يملئون حياتنا متعة وسعادة وتساؤلات، مجدية، وغيرهم من العاديين الذي يجلدوننا بِلَغْوِهم، كما ذهب المتنبي في بيته الشهير :
ذو العقل يشقي في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وهذا يقودنا إلي مقولة الناقد الكبير الراحل د. لويس عوض في 1962 : « ما عرفنا كاتبا من الكتاب ظل مغمورا مغبونا مهملا عامة حياته الأدبية دون سبب معلوم، ثم تفتحت أمامه سبل المجد دفعة واحدة في السنوات الخمس الأخيرة دون سبب معلوم أيضا، مثل نجيب محفوظ، وما عرفت كاتبا رضي عنه اليمين والوسط واليسار ، ورضي عنه القديم والحديث ومن هم بين بين، مثل نجيب محفوظ، فنجيب محفوظ قد غدا في بلادنا مؤسسة أدبية أو فنية مستقرة، تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التي نقرأ عنها، ولعلك لا تعرف ما يجري بداخلها، وهي مع ذلك قائمة وشامخة، وربما جاء من السُيّاح، أو جِئ بهم، ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة، والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التي هي نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التي تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب، بل هي مؤسسة شعبية أيضا، يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار في القهوة وفي البيت وفي نوادي المتأدبين البسطاء».
وكذا احتفت به حيثيات جائزة نوبل في إشادات واضحة : « لقد أعطي إنتاجه دفعة كبري للقصة كمذهب يتخذ من الحياة اليومية مادة له، كما أنه أسهم في تطوير اللغة العربية كلغة أدبية، ولكن ما حققه نجيب محفوظ هو أعظم من ذلك، فأعماله تخاطب البشرية جمعاء»
و» تتضمن روايات نجيب محفوظ أشكالا من السير الذاتية رسمها لشخصياته وتمت بصلة للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت بها مصر، وقد أثّر نجيب محفوظ تأثيرا كبيرا في مجتمعه من خلال رواياته» .
ليت الكاتب الكبير « عباس محمود العقاد» شهد هذا الفوز المؤزر، وقرأ هذه الحيثيات ليدرك إلي أي مدي كان نجيب محفوظ محقا في ردّه عليه بمجلة الرسالة عام 1945، وأنه كان مؤمنا بكل ما افترضه في فن الرواية، واستطاع تطبيقه في أعماله بإخلاص باهر، لأنه لم يكن يحب الرواية وحسب، بل عائشا فيها.
بعد فوز نجيب محفوظ بنوبل قال : « .. الشيء الذي أعتز به أنني كنت مخلصا لعملي ومحبا له».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.