رئيس الطائفة الإنجيلية يشارك في الاحتفال بمرور 1700 على مجمع نيقية    أسعار الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الجمعة 21 نوفمبر 2025    10 ملايين جنيه حصيلة البيع بجلسة مزاد سيارات جمارك مطار القاهرة وتفتيش الركاب    بورصة وول ستريت تشهد تقلبات كبيرة    خبيرة فرنسية: زيارة زيلينسكي إلى باريس ضارّة بمصالح فرنسا    كاف: الأهلى يبحث عن انطلاقة مثالية فى دور المجموعات أمام شبيبة القبائل    أمريكا: فلوريدا تستعد لتنفيذ حكم الإعدام السابع عشر هذا العام    شبورة كثيفة تحجب الرؤية على الطرق الرئيسية في الدقهلية (فيديو وصور)    نفاد تذاكر دخول المصريين لقاعات عرض المتحف المصري الكبير اليوم الجمعة وغدا السبت    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 21 نوفمبر 2025    5 هزائم تهزّ عرش الريدز.. ليفربول يدخل أخطر مراحل الفوضى تحت قيادة «سلوت»    عاجل.. غلق هذه الطرق بسبب الضباب    هل تنجو «نورهان» من الإعدام؟.. تطور جديد بشأن قاتلة أمها ب «بورسعيد»    وزير الحرب الأمريكى: لا خطوط حمراء بملف فنزويلا    الصحة العالمية: اللاجئون والنساء أكثر عُرضة للإصابة ب«سرطان عنق الرحم»    أستاذ طب الأطفال: فيروس الورم الحليمي مسؤول عن 95% من حالات المرض    دراسة تكشف عن علاقة النوم العميق بعلاج مشكلة تؤثر في 15% من سكان العالم    رجل الأعمال محمد منصور يروي مأساة طفولته: قضيت 3 سنوات طريح الفراش والأطباء قرروا بتر ساقي    محمد منصور يكشف كواليس استقالته بعد حادث قطار العياط: فترة وزارة النقل كانت الأصعب في حياتي    فلسطين.. قوات الاحتلال تعتقل شابًا من طولكرم شمال الضفة الغربية    هشام حنفي: أتمنى تتويج المنتخب الثاني بلقب كأس العرب.. وأحمد الشناوي كان يستحق فرصة في مباراتي الفراعنة    زد يفاوض كهربا للعودة للدوري المصري عبر بوابته (خاص)    أخبار فاتتك وأنت نايم | إغلاق الطريق الصحراوي بسبب الشبورة.. قائمة منتخب مصر في كأس العرب    محمد منصور: عملت جرسونا وكنت أنتظر البقشيش لسداد ديوني.. واليوم أوظف 60 ألفا حول العالم    أبرز مواجهات اليوم الجمعة 21 نوفمبر 2025 في مختلف الدوريات العالمية    محافظ البحيرة تلتقى أعضاء مجلس الشيوخ الجدد وتؤكد على التعاون المشترك    أوقاف القاهرة تنظّم ندوة توعوية بالحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب    رئيس مياه البحيرة يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات «حياة كريمة»    انهيار جزئي لعقار بحدائق القبة    البحوث الإسلاميَّة يختتم الأسبوع الدَّعوي ال14 بجامعة أسيوط    نجوم «صديق صامت» يتألقون على السجادة الحمراء بمهرجان القاهرة    «المهن التمثيلية» تحذر من انتحال اسم مسلسل «كلهم بيحبوا مودي»    فضل سورة الكهف يوم الجمعة وأثر قراءتها على المسلم    دعاء يوم الجمعة.. ردد الآن هذا الدعاء المبارك    ما الأفضل للمرأة في يوم الجمعة: الصلاة في المسجد أم في البيت؟    عراقجي يؤكد جاهزية إيران لهجوم إسرائيلي جديد بصواريخ مطوّرة    خاص| عبد الله المغازي: تشدد تعليمات «الوطنية للانتخابات» يعزز الشفافية    عمرو مصطفى بعد تكريمه من مهرجان ذا بيست: اللي جاي أحلى    ضربة لترامب، قرار قضائي بعدم قانونية نشر الحرس الوطني في واشنطن    التنسيقية: فتح باب التصويت للمصريين بالخارج في أستراليا بالمرحلة الثانية لانتخابات مجلس النواب    لأسباب إنتاجية وفنية.. محمد التاجي يعتذر عن مشاركته في موسم رمضان المقبل    بعد 28 عاما على وفاتها، الأميرة ديانا تعود إلى "متحف جريفين" في باريس ب"فستان التمرد" (صور)    سرب من 8 مقاتلات إسرائيلية يخترق الأجواء السورية    القرنفل.. طقس يومي صغير بفوائد كبيرة    نائب رئيس الألومنيوم يعلن وفاة مدرب الحراس نور الزاكي ويكشف السبب    تجديد حبس المتهمين بسرقة طالب بأسلوب افتعال مشاجرة بمدينة نصر    سبب غياب راشفورد عن تدريبات برشلونة    بنك مصر والمجلس القومي للمرأة يوقعان بروتوكول تعاون لتعزيز الشمول المالي وتمكين المرأة    بعد علاقة دامت 10 سنوات، إعلان موعد زواج النجمين شين مين آه وكيم وو    كاسبرسكي تُسجّل نموًا بنسبة 10% في المبيعات وتكشف عن تصاعد التهديدات السيبرانية في منطقة الشرق الأوسط    ضياء السيد ل dmc: الرياضة المصرية بحاجة لمتابعة دقيقة من الدولة    "عائدون إلى البيت".. قميص خاص لمباراة برشلونة الأولى على كامب نو    غلق باب الطعون الانتخابية بعدد 251 طعنا على المرحلة الأولى بانتخابات النواب    تطعيم 352 ألف طفل خلال الأسبوع الأول لحملة ضد الحصبة بأسوان    هل عدم زيارة المدينة المنورة يؤثر على صحة العمرة؟.. أمين الفتوى يوضح    رئيس الوزراء: مشروع الضبعة النووي يوفر 3 مليارات دولار سنوياً    محافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب وعدد المترشحين بها    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة فعل عنيف يقترن بالموت حقاً ولكنه فعل ضروري
سردية الخلاص
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 12 - 2011

من الواضح أنّ تلميذ الفلسفة الذي كانه محفوظ، كان يقرأ لفيلسوف ما فيندهش وينبهر، وقد يظنّ أن ما قرأه سيحلّ كل مغاليق الكون، لكنه ما إنْ يغادره إلي فيلسوف آخر حتي يندهش وينبهر مرة أخري
نجيب محفوظ أديب سياسي بامتياز، تجد السياسة وراء كل حجر في فضائه الروائي الذي ظل ما يقرب من نصف قرن يهندسه ويبنيه ويخلق سكانه، وبرغم أنّ عالمه يبدو ضيقاً علي مستوي المكان، إلا أنه عالم شاسع يجاوز القاهرة العتيقة وبعض شوارع الاسكندرية ليصبح بيتاً رمزياً للعالم كله، السياسة في هذا السياق تنصرف إلي ما هو يومي ومادي ومعيش. السياسة بوصفها السعي والمجالدة والصراع من أجل الحياة والصعود والارتطام..... الخ، وبعبارة أخري السياسة بمعني التاريخ والاحساس به ومقاومة ما ينطوي عليه من فوضي بإضفاء المعني علي الأشياء التي تبدو بلا معني. لهذا يفهم محفوظ الأدب بوصفه خطاباً عن العالم والوجود، وسعياً إلي الاحاطة بما فيهما من تعقد وتنوع، فالرواية شعر الدنيا الجديدة، شعر عصر العلم والحقائق ولذلك فهي مشاكلة لكل ما في هذا العالم، تشبهه لكنها تكمل ما فيه من نقص، تنصت لكل نأمة فيه، لتترجمها وتضعها في سياقها المنتظم الذي أخضعه الأديب لرؤيته؛ هذه الرؤيا التي تداخل فيها اليومي بالحلمي والواقعي بالفنتازي، وصيغت بعد الغرق في الواقع والتفاصيل، ثم اعتزاله لتأمله وتعريضه للأسئلة التي يراها محفوظ قديمة قدم الحياة، أسئلة العدل والحرية، التي ما كفّ البشر يوماً عن ترديدها وتقليب الأجوبة عنها، والبحث عن أجوبة أخري مغايرة.
أتي محفوظ إلي الأدب من دراسة الفلسفة، وقد تعلم فيما تعلم من دراسة الفلسفة أنّ الفن لعبُ، لأنّ اللذة الجمالية مجردة تماماً عن المصلحة كما يري كانط، أما هيجل فقد علمه أنّ الفن أحد أشكال تعبير الروح المطلق عن ذاته، والتعريفان يبتعد كلاهما عن الآخر بقدر ابتعادهما عن تعريف أفلاطون وأرسطو للفن بوصفه محاكاة. هل علمته هذه الرؤي المختلفة لشيء واحد، أنّ الحقيقة تندّ عن الإحاطة بها علي نحو نهائي؟ هل فهم منها أنّ شيئاً واحداً، يمكن أن نراه من أكثر من زاوية؟ وأنّ المرء حين يري كيف رأي المختلفون شيئاً واحداً من مواقع مختلفة، فإنّ عليه أن يتعلم، أنّ الإنسان يحق له أن يختلف مادام موقعه يغاير مواقع الآخرين؟ هل تعلم منها أن التعريف (الجامع المانع) استبدادٌ ونفي لممكنات أخري في الفهم والتأويل، ومن ثم، لا سبيل أمام الراغب في الفهم، إلا أن يصبر، ويستأنف طرح الأسئلة مرة بعد مرة؟
من الواضح أنّ تلميذ الفلسفة الذي كانه محفوظ، كان يقرأ لفيلسوف ما فيندهش وينبهر، وقد يظنّ أن ما قرأه سيحلّ كل مغاليق الكون، لكنه ما إنْ يغادره إلي فيلسوف آخر حتي يندهش وينبهر مرة أخري، ويلوح ما قاله الفيلسوف الأول هشَّاً وقابلاً للنقض، ولذلك أدرك أنه.. ومعه كمال عبدالجواد في الثلاثية - سائحٌ في فضاء الفلسفة لا مقيم، وعلي نحو ما تُسلل إلي وعيه أنّ التعريف الفلسفي قد يكون مفيداً. لكن عليه أن يقبل بوجود تعريفات أخري بجانبه، الفن مثلاً محاكاة وتقليد ومشابهة. لكن محاكاة الفعل الإنساني قد تكون متعددة الأوجه ولها أكثر من «غاية». وقد تكون المحاكاة لعباً فعلاً، لا لمن يحاكي فقط،بل لمن يتلقي المحاكاة أيضاً. اللعب إذن لذة، لكن اللذة متعددة ومتغيرة، وتعريفها علي نحو قاطع وسجنها في علامات لغوية أمر تحوطه الريب. تلك هي الحيرة إذن؛ المحيرة بين النقائض والوجوه المتعددة. والحيرة بين »العيش« و»الحياة« وبين »المعرفة« و»العقل« و»الوجدان«. وبقدر شكّه في قدرته علي إنشاء مذهب، وهو غاية سعي الفيلسوف، كان عليه أيضاً أن يحذر »الريبة« حتي لا يستبدل بمطلق فلسفي مطلقاً آخر. ذلك أن الأديب القاص ينتج شيئاً - قال للعقاد في حوار معه عن القصة وجدواها - يرفع الناس إلي »سماوات الجمال« وفي الوقت نفسه يكون مفيداً و»نافعاً«، فلا تعارض بين »النافع« و»المفيد« و»العقلي« و»الوجداني«. لكن لكي يستطيع إنتاج هذا الشيء كان عليه أن يدفع بالفلسفة إلي منطقة الظلال تحت لافتة النسيان، وهو أمرُ ليس هيناً، فبعد هذه السنوات التي ارتضاها رفيقه، يعمل في خدمتها، وتمنحه الشعور بالامتياز يصعب إرسالها إلي منطقة الظلال دفعة واحدة. وقد احتاج الأمر سنوات عدة، وتدريباً مضنياً ليتحقق له ما أراد: أن يدفع بالفلسفة إلي منطقة بعيدة غائرة، لكن تظل فاعلة في آن. وهكذا بدأ كتابة الرواية والفلسفة تخادعه عن نفسه، وتزيّن له وهما مؤداه أن ما سوف يميزه عن غيره من الأدباء، هو أن يحوّل أفكار الفلاسفة إلي قصص وحكايات. وبعد حين تكشف له أنّ هذا محض وهم، فليست القصة أن تحوّل المفاهيم والمقولات إلي سرد ووصف وشخوص يتحركون ويتجاورون، بل أن تنسي كل ما أحببتته من أفكار ومفاهيم لكي تستطيع أن تنتج رؤية خاصة للعالم، تجعل من القصة خطاباً يتأمل العالم والوجود، ويلتقط ما قد تعجز الفلسفة عن التقاطه، ذلك أن أدوات القصة التي تختلف عن أدوات الفلسفة، هي بطبيعتها تميل إلي الابتعاد عن اليقين والجزم، وأكثر ملاءمة لمساءلة الوجود الهش، بحثاً عن »رؤية« للعالم تحتوي تعدده ونسبيته. القصة حياة ومَسرَّة وتفكّر في الوجود من إنسان مستغرّق في الوجود ومأزقه، لا مجرد برهنة عقلية مجردة ذات طبيعة نسُقيه كالفلسفة، ومن خلالها يمكن للكاتب أن يعيد بناء العالم بعد أن يهدمه، وقد يضطر فيما بعد إلي هدم ما بناه من قبل، فهي دائماً مفتوحة وناقصة، وكلما ظنّ منشئها أنه حقق أقصي درجات اكتمالها، بدت له في سياق آخر، واضحة النقص، ووضوح النقص يغري بإعادة المحاولة مرة أخري، واستئناف النظر والكتابة.
علي أي حال لا مجال هنا لتقصي الفروق بين المعرفتين، الفلسفية والأدبية، كما ظهرت في تجربة محفوظ، كما أنه لا مجال للوقوف لدي تفاصيل مفهوم الأدب، لكني أريد أن أشدد علي أن هذا المفهوم لم يتكون إلا في خضم وعي جديد اجتاح الثقافة العربية، هو الوعي بالحداثة. وهو وعي تكون علي نحو معقد، في عملية مريرة من الهدم والبناء طالت كل شيء بدءاً من تفاصيل الحياة اليومية، انتهاء بمفاهيم اللغة التي تبدّلت، والمكان الذي تم إعادة تشكيله، والزمن الذي لم يعد مجرد خط بسيط متدفق نعرف نهايته، بل صيرورة واحتمال، إن مفهوم الرؤية، أو فهم الكاتب لعمله وطبيعته ووظيفته علي هذا النحو،يعني اختلافاً جذرياً عما ساد في الثقافة العربية من مفهومات للأدب تربطه علي نحو وثيق بوظائف أخري، مثل الوظيفة الأخلاقية المباشرة، وهذا ما يفسر - علي سبيل المثال - تفاصيل ووقائع ما حدث مع رواية «أولاد حارتنا»، إذ تصر الثقافة التقليدية علي لسان حراسها من الموجهين الأخلاقيين ورجال الدين علي أنه لا يحق للكاتب أن يعيد سردية الجماعة عن العالم، إلا من منظورها الأخلاقي، وعبر أدواتها التقليدية التي تحقق الوظيفة الأخلاقية، فيما تفرض أدوات السرد الحديثة القائمة علي مفهوم التمثيل أو التجسيد، أنّ يعيد الكاتب تشكيل هذه السردية، لتقول ما يراه صحيحاً بشأن العالم والوجود، حتي لو تعارض هذا الذي يراه مع ما تراه الجماعة صحيحاً، بل مطلق الصحة.
وقد بدأ محفوظ عمله الروائي برواية «عبث الأقدار» التي حوّل فيها مفهوم هيجل عن العصر البطولي اليوناني إلي حكاية تجري وقائعها في مصر القديمة،وتحديداً في زمن بناة الأهرام. وفي هذه الرواية سنري صياغة بسيطة لمفهوم هوية مصر الذي يقوم علي تجانس السلطة كما يمثلها الفرعون مع الشعب، لكن هذا التجانس الأولي البسيط سرعان ما انتهي إلي علاقة صراعية، في الروايات التالية، سواءاً كانت هذه الروايات «واقعية» أو في الروايات ذات الطابع الأليجوري، التي بدأها محفوظ برواية »أولاد حارتنا«، وتطورت إلي شكل أكثر تعقيداً من الأليجوري، وإن لم ينتف العنصر الأليجوري تماماً، كما في ملحمة الحرافيش، وغيرها.
تعني »واقعية الرواية« في هذا السياق، أن يقوم الكاتب بكتابة »الزمن الحديث«، وهو المفهوم الذي تبلور مع ردّ نجيب محفوظ علي العقاد، الذي انتقض من قدر القصة في حواره مع صديق له، متخيل، في كتابه الوجيز »في بيتي« وما إن مرت سنوات قليلة علي نشر محفوظ لرده علي العقاد، حتي تحولت الأفكار التي تضمنها هذا الرد إلي نصوص روائية اصطلح النقاد علي تسميتها بالواقعية،بدأت برواية »القاهرة الجديدة«، ثم »خان الخليلي« و»زقاق المدق« وبلغت ذروة نضجها في الثلاثية.
يمكن القول إنّ هذه الروايات - الواقعية - تعمد إلي إنتاج صورة عن العالم الحديث كما شكلته تجربة الحداثة في مصر. بل إن رواية »الثلاثية« تكتب الانتقال من العالم القديم إلي عالم آخر مختلف، يوغل في الحداثة يوما وراء آخر من خلال مصائر أسرة السيد أحمد عبدالجواد عبر أجيالها المتتابعة. وهنا بالتحديد يلمس قاريء محفوظ المفاهيم الأولي للثورة، كما نراها من خلال شخصيات تشترك في الثورة وتؤمن بها مثل فهمي الذي يلقي مصرعه علي أيدي الجنود الانجليز، ومثل الأب أحمد عبدالجواد الذي يقف علي حافتها، محاذراً الاقتراب، لكن شظاياها تصل إليه أولاً حين يجبره الجنود الانجليز علي تغيير عاداته في السهرة اليومية، ويصل الأمر إلي قمة التورط حين يفقد فهمي بعد مصرعه، وهو العتبة الأولي في تدهوره
الحثيث البطيء نحو الشيخوخة.
تأخذ الحداثة في مثل هذه الروايات الواقعية صيغة تغيّر لا يمكن إيقافه، تغير يطوح بالبنية المغلقة علي نفسها، المتجانسة، ويستبدلها ببنية أخري تنطوي علي القلق والتوتر، وبرغم مزاياها إلا أنها تحمل في ثناياها مفاهيم جديدة مربكة عن العلاقة بين الرجل والمرأة كما في حالة الحب الرومانتيكي بين كمال عبدالجواد وعايدة، وعن علاقة الناس بالمكان التقليدي القديم المغلق علي نفسه كما نري في »زقاق المدق« الذي يغزوه العالم الحديث عبر القوّاد، الذي يجيء مع »الانتخابات«، ليقود «فاتنة الزقاق» الطموح حميدة إلي القاهرة الحديثة، لتكون «سلعة» يستعملها جنود الاحتلال وضباطه.
وهكذا تتجلي الحداثة اجتياحا يعيد صياغة الحياة التقليدية، لكنه تغير مشوّه، تعصف به علاقات الفساد في شقق الدعارة، وفي معسكرات الانجليز، وفي دواوين البيروقراطية الحديثة. ومن ثم تجيء مشروعية الثورة كما تصلنا أصداؤها في الثلاثية وفي نصوص »حكايات حارتنا«، وكما يحلم بها علي طه في »القاهرة الجديدة«.
تأخذ الثورة صورة حدث بالغ العنف، يقترن بالطوفان والزلزال والنيران التي وقودها الجسد البشري. فالثورة في منظور الطفل، سارد «حكايات حارتنا» فعل استثنائي، يتجسد في المظاهرات التي تملأ الميادين، حيث هدير الصوت البشري، الرافض لوجود الآخر المحتل، وسرعان ما ينتج عن هذا الفعل رد فعل أكثر عنفاً، فالجسد العاري يواجهه الرصاص، ومن ثم يبدأ وعي الطفل السارد بحدث وجودي، لعله الأكثر قسمة وغموضاً في الوجود البشري، هو الموت، الذي ينتج عنه مفهوم جديد هو مفهوم الشهادة.
وفي هذا السياق نلمس أحد المفاهيم التي لن تكفّ عن الظهور في أدب محفوظ، وهو مفهوم الأب الزعيم كما يمثله سعد زغلول، وهو مفهوم للأب الرحيم الذي يخرج من صلب الجماعة، مجسداً لخصائصها الأصيلة الجوهرية، في لحظة تمتحن فيها أصالة هذه الجماعة بوصفها جماعة بشرية مفرقة في القدم، مستمرة في الزمن.
صورة الأب الرحيم علي هذا النحو مغايرة لصورة الأب الآخر الذي يمثل رمزياً خيانة قيم الجماعة، ومن ثم القيم الأخلاقية الإنسانية، كما نراها في صورة رءوف علوان وهو أب رمزي بمعني ما، يخون القيم التي بثها في تلميذه »سعيد مهران« في رواية »اللص والكلاب«، ومن هنا تأتي مشروعية التمرد عليه، لكن هذا التمرد الذي يمثله سعيد مهران، يظل تمرداً فردياً ذا طابع إرهابي، لذلك تخطيء رصاصاته أهدافها، وتصيب الأبرياء.
الثورة فعل عنيف يقترن بالموت حقاً، لكنه فعل ضروري للخلاص، تلمس الثلاثية بعض أطيافه ولكنه عنصرُ من عناصر اللوحة الشاسعة للجماعة، وتكمن أهميته في أنه فعل للحفاظ علي تجانس الجماعة، وإصرارها علي رفض ما يناويء نسيجها ويهدده، ولذلك فهو فعل واقعي تاريخي، اقترن بظرف محدد هو الاحتلال، ومن هنا فهو جزء مهم من أجزاء سردية وطنية هي معني من معاني سردية أكبر ذات طابع إنساني،هي سردية الثورة.
لكن مفهوم الرواية «الواقعية» له إكراهاته التي تحول دون انتاج سردية أخلاقية أكثر اتساعاً هي سردية الخلاص، وهو ما حاول محفوظ كتابته في روايته ذات الطابع الأليجوري، أعني رواية أولاد حارتنا. وهي كما نعلم إعادة كتابة لتاريخ العالم كما سردته النصوص السامية المقدسة من خلال مفاهيمها عن »بداية الكون« وعن »الخالق« وعن نهاية هذا الكون. وفي هذه النصوص يبدو العدل عنصراً كامناً في نسيج الوجود، ومن ثم لابد من تحققه في نهاية المطاف. فقد خلق الله البشر متساوين في الحقوق والواجبات، لكن انطواء هذا العالم علي الشرّ، ومرور الأيام، أحدث قطعاً في هذا النسيج المتجانس، فانقسم الناس إلي كثرة مظلومة حرمت من كل شيء، وأقلية ظالمة اجتازت كل شيء، ومن هنا تأتي مشروعية الثورة وأخلاقياتها، بل تأتي قيمتها، إن الجماعة التي سلبت ميراث الأب العادل الجليل تظلّ في حالة انتظار لمخلصها البطل الفرد، القوي الأمين، والذي اصطفاه الأب ليحقق رغبته وكلما دب الفساد في العالم بفعل النسيان والخيانة، أي بفعل الشرّ الناتج عن مرور الزمن وصيرورته، فإنّ هذا يعني ضرورة الثورة، التي تبدأ بمجاوزة الظلم لكل حدّ، ومن ثم الحلم بالخلاص وانتظاره علي يدي بطل فرد تحوطه القداسة. كأننا إزاء دورة لابدّ منها، تبدأ بتحقق العدل بعد الثورة، ثم يجيء العطب والتدهور، ثم تأتي الثورة التي تأخذ صورة خلاص ديني عبر فرد مصطفي.
هكذا صاغ محفوظ سرديته عن الثورة التي تعني كما يقول في نهاية »أولاد حارتنا« مصرع الطغيان، ومشرق النور والعجائب. وبرغم أن ملحمة الحرافيش تؤكد المعاني ذاتها، إلا أنها تحاول أن تجعل الخلاص فعلاً جماعياً، يقوم به الناس بقيادة فتوتهم، لا مجرد حلم لفرد مصطفي يمثل تجسيداً لمفهوم خلاصي. إلا أن هذا الفعل الجماعي ظل فعلاً عنيفاً، أو صورة من صور الحرب، لكنها حرب مقدسة، مما يربط هذا الفعل بالمفاهيم المهيمنة في الثقافة، مثل مفهوم الخروج علي الطاغوت، ويصله بمفاهيم حديثة أخري عن الثورة بوصفها فعلاً عنيفاً كما أصلته الحداثة، بدءاً من الثورة الفرنسية، وتحوّل هذا العنف إلي استراتيجية تكاد تكون عقيدة مع صعود الأفكار الاشتراكية وبخاصة في صيغتها لدي لينين وتلاميذه.
لكن الثورة التي تتبدّي فعلاً رومانتيكياً في منظور الطفل سارد حكايات حارتنا، وتصبح شعوراً مريراً بالفقد لدي أمينة والدة الشهيد، سرعان ما تدخل في اختبارات قاسية، كما حدث لثورة 1919 الوطنية، التي ظل محفوظ يتعقب مساراتها بعد تحولها من فعل ثوري إلي مؤسسات سياسية، لم تحقق ما كان الثائرون يحلمون به، وربما يمثل رصد محفوظ لصيرورة الثورة علي المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، أحد العناصر الأساسية في كثير من رواياته مثل السكرية،والمرايا، وبداية ونهاية، والقاهرة الجديدة....... الخ، ويبدو أنّ القانون الذي تكتبه الروايات ذات الطابع الأليجوري، مثل أولاد حارتنا والحرافيش، والذي يقول بأن فترات العدل يعقبها تدهور حتمي يمنح الثورة من جديد شرعيتها وثيق الصلة بتأويل محفوظ لمسارات ثورة 1919 التي ظلت تفقد زخمها يوما وراء يوم حتي انتهت إلي مؤسسات سياسية وبيروقراطية، ينخرها الفساد والجمود.
تنفجر الثورة ويتحقق حلم «الناس» في العدل، لكن هذا الحلم بفعل الزمن والنسيان يشحب ويتلاشي، فيعم الظلم واليأس والطغيان، حينئذ يبدأ الناس ثانية في الحلم بثورة أخري حيث يشهدون مصارع الطغاة ومشرق النور والعجائب.
ارتبط نجيب محفوظ بعلاقات قوية مع كل كتاب جيله والأجيال التالية له ايضا. ربطته صداقة قوية واحسان عبدالقدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي ويحيي حقي ومحمد حسنين هيكل.. رغم اختلافات عديدة فكرية فنية. يكشف محفوظ بذلك عن تكوين »ليبرالي« حقيقي باعتباره ابنا بارا لثورة (19)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.