تنفتح تجربة الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد المدينية علي استعادة رؤيا القص في الأمكنة، وعلي إستنطاق حمولاتها الرمزية وحساسيتها في مقاربة شفرات النصوص.. علاقة روايات عبد المجيد بالمكان/ المدينة تمثل جوهر ماتحمله تقانة المنظور البصري للفعل السردي، وعتبة للتعرّف علي عناصر مشغله الحكائي، إذ يقترح لهذا المشغل مستويات متعددة من القراءة، تلك التي تلامس سرائره العميقة وسيرته ومراثيه، فضلا عما تكشفه من طاقة جمالية/ تعبيرية للإطار السردي الذي يحيط بالحكاية، إذ يتحول الي البؤرة التي تلتقي عندها مستويات السرد وتشكلاتها من خلال ماتستدعيه القراءة والتخيّل، بدءا من التصميم السردي للشخصيات، وصولا الي سردنة التاريخ، وانتهاء بالسرد الواقع سحري، ذلك الذي يحيل الحكاية- المدينة والشخصيات إلي فعل للوعي الجمعي الذي يستغرق في فضاء المفارقة والتشظي والتحول.. المكان الواقعي- تحت هذا الاستغراق- عند عبد المجيد مهووس بهاجس التحول الي مكان سردي، أي الي مكان مولد، له قابلية الانبعاث علي التخيل والإثارة، وعلي تحريك الشخصيات ضمن منطقة درامية تتمركز في جوهر الحياة المصرية، وتتسع للصراع ولتشكيل سينوغرافيا الاحداث، عبر لعبة توسيع مسرح الحكاية، وعبر شحن الشخصيات بحسِ المغامرة، وفاعلية الذات الساردة، وبما يجعل هذا المكان مرتكزا لعلاقة هذه الذات بالزمن السردي بوصفه زمنا نفسيا وسياسيا، وبما ينطوي علي بعد سيميائي مفتوح، وعلي بُعد سردي له إحالاته الرمزية والتاريخية الاجتماعية والسياسية والنفسية... في رواية(هنا القاهرة) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية يخضع عبد المجيد لعبته السردية الي قصدية إيهامية، يعبّر من خلالها عن رؤيته للانفصال الحادث في المكان وفي الشخصيات، فضلا عما يعمد إليه من استنطاق لمرحلة مهمة من التاريخ السياسي المصري، تلك التي تتحول إلي مركز تأويلي، يبدأ من عتبة العنوان، إذ يتيح استغراقا فيما يتيحه المتخيل المكاني من دلالات، ومايثيره من دوافع تمثل حوافزتشغيل منطقة السرد، وينتهي عند ترسيمه ثلاثية تتعالق فيها مكونات وطبائع المكان والزمن مع شخصياته المفارقة.. هذه الثلاثية تتناص مع العنونة السيميائية، بمايثري حيواتها، وبما يجعل فاعل(الخبرة) وسيلة ناجعة لتمثل رؤية الروائي، ولطبيعة تصميمه للأحداث وانغمارها في مسار الحكي، وفي تأطير بني التصوير السردي/ الفني لهذا الحكي عبر تقانات عين الكاميرا، وقناع السارد الرائي، وبما يجعل الشخصيات الروائية موجهات سيميائية تمثل جوهر تلك المفارقة في الرواية، وفي تخليق بؤرتها التي تستجمع عندها الأحداث والصراعات، وتكشف من خلالها عن موقف الروائي إزاء أحداث واقعية شهدتها الحياة المصرية في السبعينات، وإزاء ماتتعرض له الأمكنة الحميمة من ضياع ومحو.. في الرواية إدانة لمرحلة السبعينات السياسية في مرحلة مابعد حرب أكتوبر عام 1973 ، ولكل ماتمخض عنها من تداعيات مسّت حياة المصريين وذاكرتهم المشبعة برمزية القوة والانتماء والصحو، إذ نزعت سلطتها الي محو إرث الملكية والناصرية الرومانسي والليبرالي، وتشويه منجزاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مقابل الاندفاع المثير للجدل لإبراز دور بعض الجماعات الإسلاموية، تلك التي اصطنعت لها السلطة السياسية سيمياء الحرب علي اليسار والناصريين.. هذه الإدانة هي محور الشغل السردي، ذلك الذي يستعين بشفرة المكان/ القاهرة في عتبة العنوان بوصفها المكان الفاتن، تلك التي تدخل مع ظرفية المكان تعزيز هذه الشفرة كرهان مضاد للمحو السياسي، ولتؤكد افتراضيا لفعل الحضور.. علائق الشخصيات في الرواية تقوم عبر إبراز عنصر مفارقة التسمية علي الإيحاء بمفارقة الواقع ذاته، فهي تحمل معها نوعا من الأسطرة الشعبية لهذا الواقع،وبما يدفع تلك الشخصيات إلي التلبّس بمعطي تأويلي، والانخراط في سياق تعبيري ماكر يستثمره الروائي لفضح تاريخ مأزوم وشخصيات معطوبة، وتعرية مواقف حاولت طمس هوية المدينة، وتغييب روحها الحية، فشخصيات مثل(صابر سعيد، وسعيد صابر) و(إبراهيم عمر، وعمر ابراهيم) و(صفاء الاولي وصفاء الثانية) كلها تهجس بحمولات سيميائية تترسم بنية المفارقة في الرواية من جانب، وتقدم منظورا ساخرا من سيرة زمن سياسي انهارت فيه الكثير من المثل والقيم،وانطفأت فيه أيضا حيوات غامرة بسحرية المكان من جانب آخر. ولعل استعادة الروائي لتفاصيل الامكنة القاهرية- سينما روكسي، الطريق الزراعي، الجيزة، المقاهي، القاهرة القديمة، ليل القاهرة وغيرها من الأمكنة المجاورة- هي استعادة لرمزية المدينة الأليفة، ولما تعكسه عبر إيحاءات قسوة المحو، فضلا عما تمثله للروائي بوصفها أمكنته التعويضية المضادة للموت السياسي، والحاضرة كشفرة للحياة وللروح المصرية في بنية المدينة/ المكان، والمدينة/ التاريخ، والمدينة/ الحلم، والمدينة/ التفاصيل... مأزق الهوية..مأزق المدينة. تقانة السرد الروائي في رواية(هنا القاهرة) تقوم علي إبراز التلازم مابين الشخصية المأزومة والمكان المأزوم، مثلما تسهم في تشتيت مستويات السرد الواقعي، باتجاه يمثل مناخ القص كمتخيل سردي، حيث تواصل كاميرا الروائي تبئير الأحداث من خلال التموضع في زاوية نظر، تتيح له السرد الإيهامي،والسخرية، والاستعادة، وإصطناع ذلك عبر ماتوحي به شفرات الشخصيتين الرئيسيتين( صابر سعيد، وسعيد صابر).. هوية هاتين الشخصيتين شائهة، فهما خريجا جامعة ويعملان في الحقل الثقافي- أحدهما ناقد أدبي، والآخر مخرج مسرحي- لكنهما يعيشان مفارقة اغترابهما الداخلي عن الواقع، وانفصامهما عن الحياة والمدينة، إذ تطبق عليهما بالهاجس الأمني والديني والتهديد بالسجن، مما يقودهما الصراع مع الواقع الي تعاطي الحشيشة، وبالتالي إفقاد الشخصية الواقعية حضورها العياني، مقابل حضور الشخصية الحشاشة الساخطة والرافضة والساخرة، والتي تذكرنا بشخصيات نجيب محفوظ في(ثرثرة فوق النيل). تصميم هذه الشخصيات يعني تصميما مقابلا للمكان، ولما يمكن أن يحمله من دلالات تعكس أيضا فعل إدانة الواقع، وإدانة السلطة، وفضح كل السياسات التي حاولت تصحير روح المدينة/ القاهرة ثقافيا وإنسانيا.. تصميم صورة المكان المأزوم، يهجس بالمقابل عن إيحاءات تتجلي فيها الذات الساردة وهي ترصد يوميات المكان المقاوم- مكانه السردي- المضاد للمحو، إذ يستحضر له الكثير من الإشارات التي تعالج فوبيا التغييب والتمويه، من خلال الانفتاح علي أمكنة مجاورة تمثل جوهر التفاصيل، تلك الامكنة هي تفاصيل مايستدعيه من ألفة، أيضا ما يجعله دائم الحساسية، عبر انفتاح بؤرة النص، وعبر ماينعكس في الزمن الاستعادي، وصولا الي ماينعكس علي مايقدمه الروائي من ترسيم لهوية المثقف الشائهة في هذا المكان، إذ يقدم صورته بوصفها صورة للشخصية الهاربة المقصية والمخذولة في الحب والسياسة والجنس- حيث ضياع حبيبتيّ صابر سعيد، صفاء الأولي التي تتزوج عسكريا، وصفاء الثانية التي تتزوج مهندسا- والتي لاتملك قدرة علي صناعة القوة الضدية لمواجهة السلطة والقطط السمان، وحتي مواجهة المحو الذي تتعرض له المدينة، أو مايتعرض له المجتمع وهو يفقد بريق حرب 1973 ويضيع في متاهة البحث عن الحياة والإشباع في مدن العالم.. رواية هنا القاهرة رواية في( استعادة الوعي) وعبر استعادة ذاكرة المدينة، تلك التي تتحول عتبة اهتداء، وإلي ذاكرة حية ينجح الروائي في تنافذ بنيتها السردية مع بنيتها السسيوثقافية، تلك التي تتكشف من خلالها مستويات عميقة لحيوات المدينة، ولعوالمها الظاهرة والباطنة، وإلي تحفيز المزاج المصري علي تحويل بنية المفارقة الي بنية مولدة تواجه التاريخ والسيرة والذاكرة.. لغة الروائي لغة خبرة، لها عدتها التصويرية، ولها منظورها، مثلما تملك مفاتيح التمركز السردي، والتي تعطيه طاقة وصفية طاغية لتلمّس التفاصيل بوصفها السيميائي، أو بوصفها الواقع سحري، وهو ما يمكن أن يسبغ علي الرواية الكثير من شعرية السرد، تلك التي يتحول ايقاعها في الحكي الي تدفق باهر، وإلي توتير يمسّ بنية المشاهد وتركيب وحدتها العضوية وتنامي أحداثها، والذي يدفع القاريء الي فضول التعرّف، وإلي الرغبة في الكشف عما تحمله المدينة/ القاهرة، تلك التي يعشقها الروائي بوصفها مدينة النسق المضمر، والتي لايستعيدها إلاّ عبر الوعي، هذا الوعي( الشقي) بأسئلة الوجود، وأسئلة ما تحمله الذاكرة عن المدينة المصرية التي يحاورها دائما، والتي قد تكون هي قناعه النفسي الذي لامس من خلاله أيضا ذاكرة مدينته الأثيرة الاسكندرية، تلك التي كتب عنها ثلاثيته المشهورة، وروايته(لا أحد ينام في الإسكندرية) .