القدس الأسير صراع الصورة والبندقية ثمة رابط قائم – منذ الأزل – بين التاريخ والصورة، حتي قبل عصر الفوتوغرافيا كان الرسم، دائما لابد من معادل للصورة الذهنية أمام البصر. حفر التفاصيل علي سطح الحجارة، أو النقش علي أسوار المعابد القديمة، أو حتي في الكهوف، كانت بين أهم وسائل الحفاظ على الذاكرة التاريخية، على الهوية، ومن ثم تشكيل حالة الديمومة، وكان ذلك الأمر – تحديداً – الفيصل فى ترجمة فكرة الحلقات المتواصلة، المتداخلة، لتاريخ أمة، بينما تعانى أخرى من وجود مناطق فاصلة أو مساحات معتمة على امتداد تاريخها. ومنذ عرف البشر الكاميرا – مع بداياتها الجنينية – لعبت الذاكرة الفوتوغرافية دورا مؤثرا فى صياغة الرأى العام، والقرار السياسي، بل إنها كانت بحد ذاتها بمثابة وثيقة يستند إليها أطراف الصراعات، لاسيما المعقد منها، ولعل القضية الفلسطينية – التى تمثل قلب الصراع العربى / الصهيوني – تمثل نموذجا صارخا فى هذا السياق، والقدس بوجه أخص تعبر أبلغ تعبير عن عقدة الصراع بما تمثله من حمولة رمزية، ذات دلالات عميقة فى المبنى والمعني، بكل مفرداتها المادية والمعنوية. ومنذ العام 1967؛ وعقب سقوط القدس فى أيدى الكيان الصهيوني، اتخذ الصراع مسارات مختلفة، بعد أن استيقظت الأوهام فى العقل الصهيوني، محاولا تصديرها على أنها أحلام تستند إلى حقائق تاريخية ودينية، بينما صحيح التاريخ والدين – على السواء – يذهب فى اتجاه معاكس. وكما يحتفظ المقدسيون بمفاتيح بيوتهم، تماما كما فعلها قبلهم »ضحايا 48« تحت وطأة ما اقترفته العصابات الصهيونية الدموية، فإن صور القدس ومعالمها الأبرز كالمسجد الأقصى وأبوابه، وقبة الصخرة، الكنائس والشوارع العتيقة بالمدينة المقدسة و... و... وكل ما رصدته الكاميرا مصدقا لثوابت التاريخ وحقائقه، أصبحت بين أوراق الملف الأضخم فى تاريخ الصراعات البشرية، وأطولها عمرا. ومع اندلاع إرهاصات الانتفاضة الثالثة – انتفاضة الطعن والدهس – استدعت الذاكرة صفحات عمرها عقود وقرون سكبت عبرها الرسوم والصور، ما اختزنته الذاكرة الجمعية من صور ذهنية توارثتها الأجيال، ولم تتوان عن قذفها فى وجه عالم احترف الظلم والتزوير، والوقوف إلى جانب المعتدى الجلاد ضد الضحية المعززة فى المطالبة بحقوقها المشروعة بحقائق التاريخ وثائقه، ويقينا مدججة بذاكرة فوتوغرافية، وثوابت على الأرض لو كان ينطق الحجر بلسان، لفضح زيف كل الادعاءات المجافية للروايات الموثقة، لذا لم تصمد أبدا رغم أنهم يروجونها دون ملل أو كلل! ومن حيث التوقيت؛ فإن إصدار كتاب «القدس الأسير.. صراع الصورة والبندقية» يواكب لحظة من أخطر وأدق ما شهدته مراحل الصراع العربى / الصهيوني، والقدس تمثل جوهرها، بعد أن بلغت البجاحة حداً غير مسبوق، بإنكار الإرهابى نتانياهو أى حق للفلسطينيين فى القدس، ورفضه المستميت لأن تكون بندا فى أى مباحثات مع الفلسطينيين، مع الاستمرار الوقح فى إغراقها بالمستعمرات التى تطوقها مرة، وتمزق أوصالها مرات، وسط صمت مريب يفضح تواطؤ العالم مع العدوانى المغتصب، والاكتفاء فى أحسن الأحوال ببيانات شجب خجول، لا تردع عدوان المعتدى قيد أنملة. من ثم كان قرار هيئة تحرير «كتاب اليوم» بالمساهمة فى المقاومة بالكلمة – السلاح المتاح لنا – من خلال إصدار الكتاب الذى أعد فصوله الباحث والمؤرخ عرفة عبده على حيث أبحر بالكلمة والصورة فى تاريخ زهرة المدائن المغتصبة، لإنعاش الذاكرة العربية، ومحاولة إيقاظ الضمير الانسانى من خياره الطوعى بإغماض العين تماما، عما يقترفه الصهاينة فى حق القدس بشرها وحجرها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها. لقد مر الصراع العربى / الصهيونى بمراحل كان للسلاح أحيانا الصوت الأعلي، وكان للمقاومة السلمية أحيانا أخرى صوت خافت، لكنه مؤثر، ثم كان المزج بين الأمرين على طريقة يد تحمل السلاح والأخرى تلوح بغصن الزيتون، وفى كل الأحوال كانت الصورة حاضرة مرات فى خلفية المشهد، وأخرى تتصدره فى مزيج فريد مع البندقية، والكلمة، وللأسف فإن الوضع لم يظل على ما هو عليه بعد إعلان إسرائيل القدس عاصمة لها، ولكنه آل إلى مزيد من الحصار والهدم الذى هدد كل شيء حتى المسجد الأقصى الشريف. إن هذا الكتاب صرخة فى وجه الاحتلال الغاصب، والمجتمع الدولى المماليء للمحتل، بل وحتى للانشغال العربى بتداعيات ما يسمى بالربيع العربى على مدى خمس سنوات كانت ذهبية بالنسبة للصهاينة! كتاب «القدس الأسير» يصدر بمثابة «ڤيتو» بالكلمة والصورة، تعزيزا لانتفاضة الدهس والطعن، والعودة إلى البندقية مرة أخرى فى وجه إنكار متصاعد من جانب الصهاينة للحقوق الفلسطينية، بالتوازى مع ممارسة للعنف الدموى والإرهاب ضد الشعب الفلسطيني، ورفض للشرعية الدولية، من هنا تأتى أهمية الكتاب فى توقيت إصداره ومادته التى جاءت مثل ضفيرة جمعت الكلمة والصورة، فى رحلة تاريخية تؤكد كل محطاتها حق أصحاب الحق الذى لن يضيع أبدا، وإن طال أمد عودته، والمشاق والصعاب والتضحيات التى بُذلت، وسوف تبذل لتعود القدس – فى النهاية – عزيزة إلى أهلها، مدينة للسلام تحتضن المسالمين من كل الأديان، بعيدا عن التعصب والعنصرية والعنف والإرهاب. على أى حال؛ فإن طريق النضال على ما يبدو مايزال شاقا وطويلا.