التقارب المصري الروسي الحالي مهم جدا للبلدين. سواء علي المستوي الرسمي أو الشعبي وفي كل مجالات التعاون المتاحة.. سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية وعلمية. ولا يجب التعامل مع هذا التقارب علي انه حدث طاريء أو رد فعل لموقف طرف ثالث بل يجب أن نؤسس له من الآن كأحد أبرز الخطوط الاستراتيجية في السياسة الخارجية للدولتين. مصر أكبر دولة في منطقتها.. هي البوابة الطبيعية الأولي للمنطقة وروسيا هي الوريث الطبيعي للاتحاد السوفيتي السابق. القوة العالمية العظمي الثانية ولها مصالحها الحيوية في منطقتنا. والتقارب الحالي يستند إلي تاريخ طويل من العلاقات بين الدولتين ورصيد هائل من الإنجازات والتحديات التي تعزز فرص التعاون في المستقبل لصالحهما ولصالح الاستقرار الاقليمي والسلم العالمي. *** يبدو ان التاريخ يعيد نفسه.. حدثان متقاربان يفصل بينهما نحو ستين عاما. كانا العلامتين الأبرز في انطلاق العلاقة ثم في استئنافها. صفقة الأسلحة الروسية لمصر. التي كسر بها عبدالناصر احتكار السلاح الغربي عام 1955. حين رفض الغرب تزويد الجيش المصري بالأسلحة التي طلبها وهو خارج لتوه من ثورة كبري في يوليو 1952. كان أحد أهدافها الستة "بناء جيش وطني قوي" وسميت الصفقة وقتها بصفقة الأسلحة التشيكية لأنها تمت عبر تشيكوسلوفاكيا التابعة وقتها للاتحاد السوفيتي. صفقة الأسلحة الروسية لمصر التي يجري التفاوض حولها الآن علي أن يبدأ تنفيذها من العام القادم 2014 بعد أن حجبت الإدارة الأمريكية الحالية جزءا مهما من المساعدات العسكرية التي تلتزم بتقديمها سنويا لمصر ويحتاجها الجيش المصري الخارج لتوه من دعم ثورتين في 2011 و.2013 في البدء كان السلاح.. انه الذي يفتح الباب لعلاقات متنامية في كافة المجالات الاخري . *** بين الصفقتين 1954 و2014 جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات المصرية مع موسكو حفلت بانجازات بارزة وأزمات حادة. السد العالي أبرز الانجازات التي دعم الاتحاد السوفيتي إرادة الشعب المصري في بنائه وكذلك التسليح الروسي للجيش المصري الذي تواصل عبر عقود من الزمن وحققنا به النصر في حرب أكتوبر 1973 علي إسرائيل بترسانة أسلحتها الأمريكية المتطورة. أما أبرز الأزمات فكانت احداها مع عبدالناصر والأخري في عهد السادات.. الأولي كانت عام 1959 حين اعتقل عبدالناصر الشيوعيين واليساريين المصريين فهاجمه الزعيم السوفيتي الأشهر "خروشوف" هجوما علنيا في سابقة كانت الأولي من نوعها بين الاثنين ووصفه بأنه "شاب طائش". لكن هذه الأزمة لم تدم طويلا ولم تؤثر علي العلاقات كثيرا وجاء خروشوف بعدها إلي مصر عام 1961 ليدشن مع عبدالناصر اطلاق أول شرارة كهرباء من السد العالي. الأزمة الثانية كانت الأكبر والأعمق حين عمد السادات بقرار منفرد إلي طرد جميع الخبراء العسكريين الروس الذين كانوا يعملون في الجيش المصري وذلك قبل شهور من بدء حرب اكتوبر ..1973 كان السادات يريد أن تكون الحرب مصرية خالصة قرارا واداءً ونتيجة. وقد حدث لكن السادات الذي رفض أن يكون للروس دور في الحرب أعطي لأمريكا كل الدور في السلام وقال ان 99% من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط في يدها وكانت "كامب ديفيد" بداية التحول النهائي لمصر من الشرق إلي الغرب والاعتماد علي أمريكا في المعونات الاقتصادية والعسكرية. *** مبارك الذي درس في الاتحاد السوفيتي وكان الأكثر اقتناعا بالتقارب معه لم يستطع أن يفعل الكثير في هذه الاتجاه.. لأن كامب ديفيد كانت تكبله ولأنه بطبيعته لم يكن راغبا في اثارة المشاكل مع أمريكا ولأن الاتحاد السوفيتي نفسه ومعسكره الاشتراكي كان قد بدأ في التفكك والانهيار. لكن مبارك لم يخف اعجابه بالرئيس الروسي بوتين ذي الخلفية المخابراتية.. أذكر له موقفين مختلفين.. الأول حين وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك فقد أعلن مبارك في أول تعليق له علي هذه الأحداث انه لا يمكن أن تقوم بها إلا "مخابرات دولة كبري" ولأن البعض فهم من هذا انه اشارة إلي روسيا فإن مبارك لم يكررها بعد ذلك أبدا. أما الموقف الثاني فكان عندما التقي بالرئيس بوتين لأول مرة وأجري مباحثات مطولة معه فقد وصف مبارك بوتين بعدها بأنه رجل يعرف ملفاته جيدا وهو وصف لم يسبق لمبارك ان اطلقه علي أي زعيم التقي به. *** الآن زالت أكبر عقبتين في طريق العلاقات المصرية - الروسية. روسيا لم تعد شيوعية.. وقد كانت شيوعية الاتحاد السوفيتي في الماضي ذريعة يستخدمها الموالون لأمريكا والتيارات الإسلامية المختلفة لمعارضة واجهاض أي تقارب معه واعتباره الحادا.. لقد سقطت الشيوعية من العالم كله وهذه كانت العقبة الأولي. القرار المصري بعد 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 تحرر تماما من أي مؤثرات أو ضغوط أمريكية حقيقية أو متوهمة وسقط التفسير الذي كان يروج له البعض من ان كامب ديفيد تفرض علي مصر نوعا من التبعية لأمريكا أو علي الأقل تجنب اغضابها.. وكانت هي العقبة الثانية. يمكن للعلاقات المصرية - الروسية الآن أن تنطلق متحررة من هذين العقيدين. *** شكرا للادارات الأمريكية المتعاقبة فقد ساهمت بسياساتها الخاطئة في أن تعيد مصر وروسيا اكتشاف نفسيهما واكتشاف كل منهما للآخر. فقد سعت أمريكا خاصة في عهد بوش الابن إلي تحجيم القوة الروسية واستقطاب دول الاتحاد السوفيتي السابق إلي الفلك الغربي الأمريكي - الأوروبي خاصة الدول المؤثرة التي تقع علي تخوم روسيا. ضمت بعض هذه الدول إلي عضوية حلف الأطلنطي وإلي عضوية الاتحاد الأوروبي وأعلنت عن مشروع "الدرع الصاروخية" الشهير في شرق أوروبا والآن تستعد ثلاث من هذه الدول هي أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا لتوقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في قمة الاتحاد القادمة يومي 28 و29 نوفمبر الحالي بعاصمة لتوانيا. لكن روسيا ردت علي ذلك بالاستيلاء شبه الكامل علي ملعب الشرق الأوسط قلب المصالح الحيوية لأمريكا وأمنها القومي ونجح الرئيس الروسي بوتين في انتزاع القيادة من أوباما في أهم ثلاث ملفات في المنطقة وهي ملفات ايران وسوريا ومصر. وكان لتردد أوباما وسوء تقديره في هذه الملفات الدور الأكبر في اتاحة الفرصة لروسيا فلم يكن حاسما في الملف الايراني ولم يكن واضحا في الملف السوري ولم يكن ذكيا في الملف المصري وتصور انه اللاعب الوحيد في الساحة وان الاحداث ستنتظره حتي يأتي مهما تأخر. *** أعود إلي حيث بدأت لأكرر انه لا يجب التعامل مع التقارب المصري الروسي علي انه حدث طاريء أو رد فعل لموقف طرف ثالث بل يجب أن نؤسس له من الآن كأحد أبرز الخطوط الاستراتيجية في السياسة الخارجية للدولتين. والسياسة الخارجية الواعية تضيف إلي رصيد الدولة ولا تخصم منه فلا تقيم علاقة ما علي حساب علاقة أخري.. اللعب علي الانتقال من طرف لآخر مراهقة سياسية مصر وروسيا أكبر منها وابعد عنها كثيرا. لكن المطلوب والهدف ان تكون لمصر علاقات جيدة مع مختلف دول العالم وبالاخص مع الدول والقوي الكبري فيه بما يحقق التنوع ويوفر البدائل المناسبة للشعب المصري في كل احتياجاته وفي جميع الظروف والأوقات في عالم تحكمه المصالح. لا العواطف. انتهي عصر ان يكون اصبع مصر تحت ضرس أحد.. أو أن تكون إرادة مصر أو قرارها مرهونين "حصريا" لأحد. من أجندة الأسبوع ** دعا حزب الحرية والعدالة الاخواني أعضاءه وانصاره إلي ارتداء زي أبيض مماثل لما يرتديه "مرسي" في محبسه وان يتم تصويرهم بهذا الزي أسوة بالصور التي نشرت لمرسي به وان يعتبروا ان هذا اللون دليل علي العزة وطالبهم بأن يكتبوا تحت كل صورة هذه العبارة "لون العزة أبيض" وللأسف فقد قرأتها "لون المعزة أبيض" بكسر الميم وتسكين العين. ربما تأثرا بالدعاية السوداء التي تصفهم بأنهم "خرفان".