ليس جديدا القول بأن فقد المواطن شعوره بالعدل قد يحيله إلى مجرم يصوب سهام غضبه إلى المجتمع بأكمله، فيصيب منه بقدر ما أصيب هو، ويتساوى أمام عينيه من آذاه ومن لم يؤذه، فالكل عنده قاسم فى خندق الظلم الذى احتشد ضده. ولكن.. ولأن ما نتحدث عنه هو إطار مختلف؛ يرتبط بانقلاب عسكرى يضطهد شعبا يرفضه، ويكيل له الاتهامات وينكل به ضربا وسجنا وقتلا بل وحرقا، والأغرب من ذلك أنه نظام يفتح أبواب السجون ليخرج فسدة قاتلين ليستبدلهم بآخرين مؤتمنين مصلحين. وقد كان هذا الشعب المضطهد سبّاقا متمايزا فى اختياره رأيا يبعد به عن فكرة الانتقام أو الرد الذاتى على العنف بالعنف، فانتفض مدافعا مقاوما بحزمة من الرؤى والقيم والمبادئ؛ عصى على الطرف الآخر أن يفقه كيف تتم المحافظة عليها رغم كل المحن. ولذا ننظر إلى الأمر هنا من زاوية أخرى ومن منظار الفساد نفسه، فهناك آثار عديدة لتغييبه المتعمد لقيمة "العدل"؛ فقديما حُفظ لابن خلدون مقولته الشهيرة: "العدل أساس الملك"؛ وعليه يكون غياب تلك القيمة عامل نحر فى عرش الانقلاب إلى أن يتهاوى؛ فلا يُنتظر أن يثبت كرسى حكم فوق أساس هش وقيم مهترئة، بل إنه وكلما زادت مساحات الظلم وتنوعت عجَّلت بإنهاء الانقلاب وسقوطه المخزى. فرغم أن كتابات كثيرة قد تحدثت عن أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى، إلا أن أكثرها أشار إلى أن القهر العنصرى، والرغبة فى إقامة "وحدة أيديولوجية" قسرية، تتناسى وجود قوميات متعددة، بل تعمل على تهجير وإقصاء ومعاداة كل القوميات المعاندة والصلبة، خاصة المنطلقة من أساس دينى لأنه كان الأقوى بين تلك الكيانات، ولذا فقد أدى الغبن الشديد إلى سقوط مرير، وتهاوى الصرح الذى كان يظنه الكثيرون شامخا. كذلك لم تمتنع المجتمعات الغربية الآن وهى فى أوج ازدهارها عن ممارسة المعيارية المزدوجة والكيل بمكيالين، خاصة فى تعاملاتها الخارجية مع الدول الإسلامية. بل اتجهت إلى تنظير من نوع مختلف يعلى من قيمة "الصراع" بل ويبحث عنها إن لم توجد، حتى يبقى لنفسه على عدو أمام شعوبه فتظل تقف خلفه تدعم وتساند. وتلك القيم المعوجة هى التى تجعل الكثير من منظرى العلوم الاجتماعية يؤكدون أن العالم الغربى رغم "رفاهته" الظاهرة والتى هى مرحلة تعلو التقدم، إنما يحمل فى طياته معاول هدمه. ***** وعليه.. فتهاوى الممالك الفاقدة للعدل، معادلة ثابتة يختلف فقط توقيت تحققها، فالإنسان يتقلب بين شر محض وخير محض، بين نموذج "هابيل" الكاف يديه عن الأذى رغم الاعتداء، كمعيار للخير النقى فى صورته الأولى، ونموذج "قابيل" الذى لم تمنعه الأخوة وبراءة الطرف الآخر من إيقاع الاعتداء وإلحاق أشد درجات الأذى والظلم. وبين الصورتين يعيش بنو آدم جميعهم من يومها إلى الآن، وبقدر ما ينتصر فى الإنسان جانب على الآخر بقدر ما يتخذ سماته العامة، وتظهر ملامحه وأخلاقه، والحقيقة أن الفرد وحده ليس هو من يؤكد على أحد تلك الجوانب أو يكبتها ويواريها، ولكن للمتغيرات المحيطة دورا كبيرا فى ذلك، ولذا كانت تشريعات العقاب والجزاء جنبا إلى جنب مع المبادئ والقيم الأخلاقية لتساندها وتدعمها، وهى المهام المنوطة بمؤسسات القضاء والأمن فى أى مجتمع، ومع فقد تلك المؤسسات لمعنى وجودها الأصيل، بالإضافة إلى تحولها إلى معاول فى يد محور "قابيل" الذى قرر أن يعادى "هابيل" إلى الأبد. هنا يعمل "قابيل" على استدعاء روحه السارية فى نفوس البشر، فيتعاضد الشر ويتآزر، فى نظرية يمكننا أن نسميها "تكثير الشر" حتى يعيش الفرد ومن بعده المجتمع فى نطاق "القابلية للظلم" فيقبله ولا يلفظه، ويمهد له وقد يتباهى بوجوده فى مرحلة لاحقة على تبريره أو إخفائه. والحقيقة أن فارقا كبيرا بين الخير عندما يُستدعى ويتكاثر، وبين الشر إذ يفعل الشىء نفسه، لأن للخير طريق صوب المصالح العليا والمقاصد المثالية السامية، ولذا يكون تكاثره إنما هو انتقال بالخيرية من نفس فرد إلى حياة مجتمع، فى حين أن تكاثر الشر لا يبدو متكاتفا إلا فى اللحظات الأولى فقط، لأنه طريق نفعى مادى، وحداؤه إنما هو نحو المصالح الذاتية المندفعة بلا حد من شرع أو قانون، وعليه يكون التعاضد بين أبناء محوره فقط حتى يتحقق الكسر التام لتلك الحواجز، ثم يكون الشتات أو التشابك والصراع نتيجة حتمية لتنافر المصالح الفردية التى لا يمكنها أن تجتمع فى ظل شره حب الذات وتقديس النفس، والحرص على جمع أكبر قدر من المنفعة الخاصة. ***** هب معى أن راكبى حافلة مزدحمة قد قرروا التناحر وساد بينهم الخلاف، فى حين انشغل السائق عنهم وأخذ يعدو حتى يصل إلى النقطة التى يريدها هو لا التى يريدها الراكبون، فهل من المتوقع أن تصل الحافلة إلى مأربها بسلام؟ ستتعاظم الشجارات والنزاعات، وستنتقل حتما من بين الركاب إلى السائق الذى استغل تناحرهم واتجه بهم إلى حيث لم يتفقوا عليه فى البداية، ولذا فخلافات تلك الحافلة ستؤدى إلى هلاكها وهلاك كل من فيها. وهو ما يجعلنا ننتقل إلى عامل آخر ينحر فى المجتمعات الفاقدة لل"العدل" وهو سيادة ما يمكن تسميته بروح "الجهالة"، فالأصوات عالية، والصخب مرتفع، فى حين أن المتحدثين ضعيفو الحجة فاقدون للأدلة، يضعون المتناقضات فى فقرة واحدة وينسجون منها قصيدة للطرب! والأغرب من ذلك أن هذا الهراء يجد من يسمعه، فيفسد ذوقه، وتضعف سبل البيان والإنصاف لديه، فتنشأ من جراء ذلك طبقات هشة فى البنية والمضمون، وبالتالى قاصرة فى الرؤية لا تملك نظرا نحو مستقبل أو تنمية، وهى الطبقات التى لا يمكنها أن تظل تقاوم كثيرا، فحجة العقل والعلم لا مراء سرعان ما تغلب الجهالة وتهوى بها صريعة دون مقاومة تذكر.