كان داخل إيلا حرب تدور، تشتت روحها، فقد تعبت وأجهدت جسدياً ونفسياً، وفى المقابل لا تقدر مجهوداتها بل وكأنها أصبحت عالة على الجميع، مع أنها من تراعى الجميع، فأبناؤها باتوا تواقين إلى الحرية والاستقلال ورفض وصايتها عليهم، وزوجها ينشغل بعمله وبالآخريات عنها، أما هى فحياتها سلسلة من الروتين والأعمال الباهتة المنظمة والمرتبة والمكررة، إذن لا بد من الانقلاب على كل هذا للبحث عن إيلا وعن مزاج إيلا وأحلام إيلا وروح إيلا وحياة إيلا، إذن لا مفر من التمرد!! ولكنها كانت ترى أن التمرد لا يناسبها، فهى الفتاة الهادئة الطباع فى الطفولة والمراهقه الملتزمة والمتزنة، لم تجرب الحشيش أو أقراص منع الحمل ولا نوبات الغضب وعلو الصوت ولا الكذب على الأهل، لم تهرب من المدرسه لا حفلات صاخبة أو ماجنة بل سهرة منزلية برفقة كتاب أو رواية، حتى مظهرها كان عادياً رتيباً لا تغير به شيئاً تقريباً، كانت تتذكر كل هذا بعين ثالثة كأنها ترى الأمر من أعلى، كأنها عين تراقبها بهدوء وتنتظر لحظة الانفجار المتوقع، وهنا صلت إيلا وهى التى لم تصل منذ وقت طويل، وطلبت من الله أحد الأمرين إما أن يرزقها حباً يغمر كيانها أو أن يجعلها قاسية غير مبالية، بحيث لا يهمها غياب الحب عن حياتها. نعم فالحب هو معنى الحياة الأعمق والأهم، فأتفه الأشياء مع وجود حبيب تُفرح وتُثلج الصدر وتغنى الروح، كما أن أعظم وأهم الأشياء والإنجازات دون وجود حبيب هى بالتأكيد ينقصها الكثير، فالحب هو سر سعادة الإنسان وشقائه. ولتكتمل كآبتها مات كلبها وفى المطبخ (كلبها صديقها الوفى داخل مطبخها الوفى أيضاً) يا لها من وحشة وهجمة شرسة من الأحداث على تلك الايلا التى أصبحت وحيدة وضعيفة وفى نفس الفترة صدمت باكتشافها أن ابنتها الصغرى مصابة بمرض البوليميا (وهو مرض شره الطعام ثم التخلص منه) وأن جميع صديقات ابنتها بالمدرسة يعرفن ذلك إلا هى، وهنا ازدهر شعورها بالذنب، الذى لم تتخلص منه يوماً وتلاه شعور بفقدان ثقتها بنفسها كأم، نعم فالمصائب لا تأتى فرادى، وفى وسط تكالب الهموم عليها بدأت مراسلاتها مع عزيز فى التضاعف والتطور وأخذت منحى أكثر قرباً وتواصلاً إنسانياً، فقد كان عزيز يرد عليها دوماً مهما كانت حالته وأينما كان، حتى أثناء سفره فى الأماكن البعيدة النائية كان دائماً يجد وسيلة للتواصل الإلكترونى معها، وكانت هى تتفقد بريدها الإلكترونى فى كل فرصة، فهى تأتنس به فحاسوبها وبريدها الإلكترونى مفتوحان طوال الوقت، لأنها تنتظر عزيز طوال الوقت، وكانت عند عدم إيجادها رسائل جديدة تعيد قراءة الرسائل القديمة، ولكنك تستغرب حالها عند تلقى هذه الرسائل، فقد كانت تبتسم وهى محرجة، لأن الأمر كان به أمر!! والموضوع به مواضيع وهى لا تجرؤ على البوح بهذه الأشياء حتى لنفسها، وبهذا أصبحت حياتها تتغير من الرزانة والهدوء إلى البهجة والحب، فقد بدا قلب إيلا يغير إيقاعه، أخيراً هناك نغمة حلوة تشعر بها فى روحها، ورسالتى: أنه دائماً وفى وسط الظلام يأتى شعاع من نور ولكن يجب أن ننتبه إليه ونحوله من شعاع إلى شعلة تنير لنا بؤس ليالينا، يجب دائماً عدم الاستسلام للانهزام ولا للبؤس والأرق ففى كل منا طاقة هائلة يجب أن يلتفت إليها فالنور والسرور مقبلان لا محالة. كان عزيز رزيناً عميقاً يتحدث عن أشياء ذات قيمة ومعنى كالحياة والموت والحب ومبادئ وقيم يؤمن بها قد اكتسبها من حياة حافلة بالأحداث المتناقضة والمتغيرة «إنه ذلك النوع النادر من الرجال الذى يمكن أن تقع المرأة فى حبه من دون أن تفقد احترامها لنفسها». خاصة أن العلاقة بينهما كانت إلكترونية متحفظة، وبهذا أعفيت بشكل جزئى من الشعور بالذنب ولكنها كانت أحياناً تفكر أنه ربما كان من الكفر أن تكتب امرأة متزوجة ولديها أطفال رسائل إلكترونية إلى شخص غريب، ولكن بسبب العلاقة الأفلاطونية بينهما خلصت إلى القول بأنه (الكفر الحلو) وبين الكفر والإيمان ظلت تتأرجح إيلا تضحك وتبكى، تتحمس وتحبط، تحلم وتصحو أحيانا على حلم جديد وأحيانا على كابوس قديم متجدد!!