وكما تركنا إيلا شاردة فى زوجها متخيلة إياه مع إحدى عشيقاته، وبينما كانت مستمرة فى تحضير العشاء من كتب الطبخ، أتاها شعور غريب بأن هذه المهزلة يجب أن تنتهى يوماً وأنها بالرغم من هدوئها وخجلها وقلة خبرتها «سوف تتخلى عن كل شىء ذات يوم، مطبخها وكلبها وأطفالها وجيرانها وزوجها وكتب الطهو، إذ ستخرج ببساطة إلى العالم الذى تحدث فيه باستمرار أشياء خطيرة» وتفتح التلفاز فترى نشرة الأخبار، حوادث وكوارث وفواجع، ووقتها يحضر طيف عزيز زاهارا وتتساءل ترى كيف يمكن لهذا الرجل الترحال فى هذا العالم الغريب بأهواله وفواجعه؟ بل كيف يرتحل إلى أماكن مجهولة وفى نفس الوقت يعود لبيته ويعاود الانطلاق مجدداً؟ وما أبعاد وحدود تلك المغامرات!! وتنفس صباح جديد صحت به إيلا متعبة من إفراط بالشراب ومتوترة قلقة تدارى ذلك التوتر بابتسامة مصطنعة أمام أسرتها أثناء تناولهم الفطور، الذى تناقشوا به حول موضوع جانيت الابنه الكبرى التى ما زالت تاركة للمنزل غضباً من رفض إيلا زواجها المبكر وانصرف الجميع وودعتهم بحب لكنها سرعان ما عادت لحزنها وقلقها ومخاوفها وطاولة مطبخها، نعم فهى ما زالت تعود إليها!! ونظرت حولها فانزعجت أكثر من منظر الصحون التى بها بقايا الطعام وبعثرة المطبخ وبعثرة أفكارها وهمومها، لهذا احتست كوبين من القهوة علها تفيق مما هى فيه، كذلك طلب كلبها نزهة فى حديقة المنزل وعندما عادت هى وكلبها بعد دقائق ارتسمت على وجهها ضحكة كانت مفقودة، فقد تركت لها ابنتها جانيت رسالة صوتية على هاتف المنزل تقول لها إنها سامحتها على تجاوزها فى الحديث مع حبيبها على نحو سلبى، ولم تنس جانيت كذلك أن توجه إلى أمها إيلا التى بدت كابنتها فى الحقيقة لوماً ولربما رسالة مهمة يتعين علينا الإنصات إليها مع إيلا لنتوقف عن خسارة من نحب: «.. لا يتعين عليك أن تحيطينى بحمايتك ورعايتك طوال الوقت فلم أعد تلك الطفلة الخدوج التى يجب أن تظل فى الحاضنة توقفى عن هذه الحماية المفرطة ودعينى أتصرف من تلقاء نفسى اتفقنا؟» وأضافت جانيت «ماما هناك شىء آخر أنا أحبك وهنا ابتسمت إيلا متذكرة عزيز وشجرة أمنياته وكتبت رسالة إليه: «عزيزى عزيز إن كان يحق لى أن أدعوك هكذا» وشكرته على رده اللطيف على رسالتها وكيف أن علاقتها بابنتها تحسنت عندما استمعت لنصيحته وكفت عن التدخل فى شئونها، معترفة بتطرفها فى التعامل مع الآخرين، فإما أنها تتدخل بعدوانية أو أنها سلبية عاجزة تجاه تصرفاتهم وأنها لم تجرب الإذعان الذى كان قد اقترحه عليها من قبل وأخبرته أنها كانت على وشك الصلاة من أجله «.. لكننى لم أقرع باب الله منذ وقت طويل ولم أعد متأكدة ترى ألا يزال يقيم فى المكان نفسه ويحيا؟! هل أتكلم مثل صاحب الحانة فى روايتك لا تقلق فأنا لم أكفر بعد، صديقتك من نورثامبتون إيلا» ونقرت على زر إرسال لتصل كلماتها إلى عزيز والمؤكد أنها كانت تتلهف على الرد لهفتها للحياة، فأنت عندما ترسل لشخص مميز لديك كلمات، مجرد كلمات من حروف تنقر على أجهزة الحاسوب حينها كأنك تسافر مع شارات البث الفضائى وتحلق علك تصل معها للطرف المنشود ثم تعود وتنتظر الرد ولربما تفحصت جهازك الإلكترونى آلاف المرات عله رد ويتوقف العالم وتتسمر الحياة وأنت ترقب شاشتك الإلكترونية منتظراً الرد بل إنك ربما أسكت أفواها بقربك وتضررت من حديثهم معك وأنت ما زلت عاكفاً على انتظار ذاك الرد ولا تستقيم أمورك ولا تنتظم أنفاسك إلا باستلامه، إنه الاهتمام وهو كلمة السر فى الحب وهو زاد ووقود أصحاب القلوب الوحيدة كقلب إيلا. إن رسالة جانيت الصوتية لإيلا دفعتها لمحادثتها سريعاً وهنا سألت جانيت إيلا بقلق «ماما هل أنت حقاً حزينة؟» وبالرغم من أن رد إيلا كان نفياً سريعاً قاطعاً معللة عدم وجود العشق بينها وبين ديفيد بأنه بسبب السنوات الطوال فى الزواج وأن ذلك أمر طبيعى إلا أنها لما أغلقت الهاتف ظلت تفكر بالحب، و تساءلت وهى المتأذية والمجروحة كيف يمكنها أن تدخل فى تجربة الحب مرة أخرى، فالحب هو للذين يبحثون عن هدف أو سبب فى هذا العالم الذى يجرى بسرعة كبيرة لكن ماذا عن الذين تخلوا عن ذلك منذ أمد بعيد! وهنا الرسالة، ليس للحب سن للتقاعد وليس للعشق حدود أو زمان ولا مكان، كما أن العشق لا يخبو ولا يختفى بمرور سنوات الزواج بل يعكر ويقتل ويغتال بأشياء أخرى لا علاقة لها بالحب أساساً، العشق ذوبان دائم، جذوة نار لاتنطفئ، حماس يجعلك ترى معشوق السنين وكأنك رأيته تواً وكأنك لمسته للمرة الأولى واشتممت عطره للمرة الأولى ورأيت لون عينيه للمرة الأولى، العشق يجعلك دائم الذوبان والهيام والسعادة، ومن أعطى عشقاً أعطى نعمة كبيرة، كونوا عشاقاً وإن لم يفهمكم أحد وإن لم تجدوا من تعشقونه، فقط كونوا عشاقاً، اجعلوا الحب يتغلغل إلى أرواحكم وافتحوا قلوبكم للعالم بالحب وبالعشق، وحتماً سوف تجدون العشق الذى تنشدون وإن لم تجدوه فى شخص من لحم ودم فيكفى أن أرواحكم ارتوت من نوره، فالعشق نور وإيمان وسرور.