بما أن العنوان هو مفتاح دلالى للنص، فقد اختطفنى عنوان رواية «قواعد العشق الأربعون». تركت كل مهامى الأكاديمية وتخليت عن كل أعبائى الرومانتيكية وعكفت على الرواية فى أثناء الليل فقط لأن «الليل كل ما يتحرك»، كما يقول أنطونين أرطو. ولكونى شابًا، فقد أدهشتنى الرواية، وشعرت بما يسميه رائد البنيوية رولان بارت «لذة النص»، أو كما تقول شافاق فى بداية الرواية: «أعرف كم هو رائع أن يكون المرء شابًا وعاشقًا». فى البداية يختلط عليك الأمر، وتشعر بأن هناك تضادًا ثنائيًّا بين الحبّ والعشق، لكن سرعان ما تذوب المفردتان فى بعضهما البعض، ويكونان معا سيمفونية لا تختلف كثيرًا عن إحدى سيمفونيات موتسارت. فى بداية الرواية، تقول الكاتبة: «الحب إحساس جميل، يأتى لكنه سرعان ما يتلاشى»، فى حين أن «العشق ليس مجرد شعور حلو مقدر له أن يأتى ويذهب بسرعة» فهو «جوهر الحياة وهدفها السامى». ثم تلقى الكاتبة بوابل من الشكوك ضد الحب حيث تقول: «كيف يمكن أن يكون الناس بهذه الدرجة من السذاجة، ويتوقعون أن الحب سيفتح لهم جميع الأبواب؟ إنهم يظنون أن للحب عصا سحرية يمكنها إصلاح كل شىء بلمسة خارقة واحدة». يتضح كذلك تهميش قيمة الحب ضمن القواعد الأربعين التى سمتها إيلا روبنشتاين، أحد أهم الشخصيات فى الرواية، «القواعد الأربعون لربة بيت عملية غير جوالة تعيش فى الضواحى»، حيث تقول إحدى هذه القواعد: «كفى عن الحب. توقفى عن الجرى وراء أحلام مستحيلة». ثم يتم دحض ذلك من قبل إيلا ذاتها ضمن قائمة القرارات التى ترى إيلا أن على كل امرأة القيام بها قبل أن تبلغ سن الأربعين، حيث تقول أحد القرارات العشر التى دونتها إيلا: «افتحى قلبك للحب». هذا الصراع الكامن داخل إيلا يمكن إرجاعه إلى وصف الكاتبة لشخصية إيلا بأن «عقلها يعمل بقائمتين متعارضتين طويلتين: الأشياء التى تحبها إزاء الأشياء التى تكرهها». وهذا يتفق مع إحدى قواعد العشق الأربعون التى تقول: «إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب، لا من الرأس، فاجعل قلبك، لا عقلك، دليلك الرئيسى». هذه الرؤية المرتبكة فى بداية الرواية تعكسه كلمات لكيرا، أحد شخصيات الرواية، حين قالت: «إن مناقشة موضوع عميق وشديد الحساسية كالحب، أشبه بمحاولة الإمساك بريح عاصفة». كذلك ترجع الكاتبة الصراع الكامن داخل إيلا إلى عدم ارتباطها باللحظة الراهنة، فهى من الحالمين الذين يقدسون الأمس حيث «تفكر بالماضى كثيرًا، وتفكر بالمستقبل أكثر، لكن بطريقة ما لا تمسها اللحظة الراهنة». عدم ارتباط إيلا باللحظة الراهنة تفسره إحدى قواعد العشق الأربعين التى تقول: «الماضى تفسير، والمستقبل وهم»، لأن «العالم لا يتحرك عبر الزمن، وكأنه خط مستقيم يمضى من الماضى إلى المستقبل. بل إن الزمن يتحرك من خلالنا وفى داخلنا، فى لوالب لا نهاية لها». لذا ففى نهاية الرواية، لكى تقع إيلا فى حب عزيز زاهار، مؤلف رواية» الكفر الحلو «التى تعد لها إيلا دراسة نقدية كجزء من عملها، فإنها تتخلى عن ارتباطها بالماضى وقلقها من المستقبل وتتمسك باللحظة الراهنة. لذا لا عجب أن تقول لزوجها ديفيد، طبيب الأسنان، قبل نهاية الرواية: «إننا لسنا بحاجة إلى البحث عن الحب خارج أنفسنا. بل كل ما علينا عمله هو أن نتمكن من إزالة العقبات التى تبعدنا عن الحب فى داخلنا». وهذه الكلمات تفسرها إحدى قواعد العشق الأربعين التى تقول: «الحب هو العلة، الحب هو المعلول. فالحب تذوب جميع الانقسامات وتختفى. ومن هنا لا يعود هناك شىء يدعى (أنا) وكل ما تبلغه هو صفر كبير يغطى كل كيانك. جميع الحدود تختلط فى الحب». أما عزيز زاهار، فهو على النقيض التام من إيلا. فهو «يعتقد بأن الذين لم يجعلوا من قلوبهم دليلًا أساسيًّا يقودهم فى الحياة، الذين لا يستطيعون الانفتاح على الحب ويسيرون على هدية، كما تتبع عباد الشمس الشمس، فهم ليسوا أحياء حقيقيين». فعلى العكس من إيلا التى يهمها الماضى وكذلك المستقبل، فإن عزيز يعتقد أن «لا علاقة للحب بخطط الغد أو بذكريات البارحة، فلا يمكن أن يكون الحب إلا هنا والآن». وقد اختتم إحدى رسائله الإلكترونية التى كان يتبادلها مع إيلا عبر البريد الإلكترونى، قائلا: «أنا طفل اللحظة الراهنة». إن علاقة الحب التى نشأت بين إيلا وعزيز مع نهاية الرواية ترفض ربط الحب بالمعرفة. فليس من الضرورى أن تعرف كل شيء عن من تحب. فعندما اعترف عزيز لإيلا بحبه لها، تعجبت: «لكنك لا تعرفنى بعد!»، فرد عزيز قائلا: «ليس من الضرورى أن أعرف حتى أحب». وقد حكى عزيز لإيلا عن علاقة حب غير كاملة بينه وبين امرأة هولندية تدعى مارغو لأنها كانت «تدأب على البحث فى كل تفصيل من تفاصيل الحياة، وتشن معارك على المجتمع». لذا فإن عزيز يرى أنها لم تكن تحبه بالمعنى الكامل لمفهوم الحب، لكنها كانت تحبه «بطريقتها الأنانية التى تتسم بالتدمير الذاتى». لكن عزيز كان يقدر الطريقة التى تحبه بها، لأنه يرى أن حتى «ذرة من الحب يجب أن تحظى بالتقدير». فى حقيقة الأمر، إن سعى إيلا وراء الحب هو السبب الرئيسى وراء التغير الذى طرأ عليها فى نهاية الرواية. هذا التغير تفسره إحدى قواعد العشق الأربعين التى تقول: «إن السعى وراء الحب يغيرنا. فما من أحد يسعى وراء الحب إلا وينضج فى أثناء رحلته، فما إن تبدأ رحلة البحث عن الحب، حتى تبدأ تتغير من الداخل ومن الخارج». هذه القاعدة تعكس رؤية إليف شافاق عن الحب: «فالحب هو للذين يبحثون عن هدف أو سبب فى هذا العالم الذى يجرى بسرعة كبيرة.. إن الحب رهيف على نحو ممض، وقوى على نحو مدهش، أشبه بالحرير». تأتى بعد ذلك علاقة الحب بالفكر، حيث تقول إحدى قواعد العشق الأربعين: «يتكون الفكر والحب من مواد مختلفة. فالفكر يربط البشر فى عقد، لكن الحب يذيب جميع العقد. إن الفكر حذر على الدوام وهو يقول ناصحًا: «احذر الكثير من النشوة، بينما الحب يقول: «لا تكترث! أقدم على هذه المجازفة». لذا فإن إليف شافاق تطرح التساؤل التالى: «هل من وسيلة لفهم ما معنى الحب من دون أن تصبح حبيبًا فى المقام الأول؟ فالحب لا يمكن تفسيره، ولا يمكن إلا معايشته واجتيازه. ومع أن الحب لا يمكن تفسيره، فهو يفسر كل شىء». تتضح هذه الرؤية من خلال التلميح إلى علاقة الحب بين قيس وليلى بين طيات النص. فعندما سمع هارون الرشيد عن جنون قيس بسبب حبه لليلى، أصر على رؤيتها ظنًا منه أنها تمتلك جمال بسيشه Psyche التى حسدتها أفروديت بسبب إعجاب الناس بها فأرسلت لها كيوبيد ليجعلها تقع فى حب أقبح الناس لكن كيوبيد نفسه هام بجمالها، فلم ينفذ المهمة. لكن عندما رأها، قال: «هل أنتِ ليلى؟» فقالت: «نعم أنا ليلى، لكنك لست المجنون. يجب أن ترانى بعينى المجنون، لكى تحل هذا اللغز الذى يدعى الحب». لم يدرِ هارون الرشيد أن «الوجه عملية ترقيم للنسخة لا أكثر. فهو تجميع لسمات عرضية وفريدة. فى هذا التجمع لا تكشف الطباع ولا الروح ولا ما يسمى بالأنا»، كما يقول ميلان كونديرا فى «الخلود». والفكرة هنا تكمن فى استثناء الجسد، فقد يكون الإنسان إنسانًا من دون الجسد. يفسر ذلك تعبير لشمس التبريزى، بطل الرواية الذى صك قواعد العشق الأربعين، حين قال: «الجمال فى عين ناظره»، أو كما تقول إحدى أبجديات علم الجمال بأن الجمال فى داخلنا نحن، ونحن نسقطه على الأشياء. الجمال الداخلى الذى يلعب دورًا بارزًا فى إقامة علاقة حب بالمعنى الكامل تلمح إليه شافاق من خلال اقتباس بعض سطور من قصيدة لجلال الدين الرومى: «ليختر أحدنا الآخر رفيقًا له!/ وليجلس أحدنا عند قدمى الآخر!/ ففى داخلنا الكثير من الانسجام/ ولا تظنن أننا ما نراه فحسب». فضلًا عن ذلك، فإن العلاقة بين الأنا والأنا الأنثوية فى الحب يتم توضيحها من خلال حوار بين شمس التبريزى وزوجته كيميا. فعندما قال شمس لزوجته: «توجد داخل كل رجل درجة من الأنوثة»، سألته: «حتى الرجال الذين يتمتعون بالرجولة؟»، فأجاب: «خاصة هؤلاء يا عزيزتى». وهذا تناص تام مع بعض سطور للشاعر الفلسطينى محمود درويش: «ولست أنا من أنا الآن/ إلا إذا التقت الاثنتان/ أنا وأنا الأنثوية». فى نهاية الرواية تذوب كل الحدود عندما تقع إيلا فى حب عزيز. لذا فإن آخر سطور فى الرواية ترسم حوارًا بين إيلا وابنتها، حيث تخبر إيلا ابنتها عن القاعدة الأربعين من قواعد العشق التى تقول: «لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذى تريده، روحى أم مادى، إلهى أم دنيوى، غربى أم شرقى. فالانقسامات لا تؤدى إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقى وبسيط».