فى العام 1944، كانت أوروبا لا تزال خرابة كبيرة تختنق بدخان الحرب العالمية الثانية، وفى تلك الأثناء ظهرت للنور مسرحية «موتى دون قبور» للفيلسوف الفرنسى الوجودى جان بول سارتر. وتعالج المسرحية قصة مجموعة من شباب المقاومة الفرنسية إبان فترة الاحتلال النازى لفرنسا، وقع هؤلاء الشباب فى قبضة رجال الحرس الوطنى فى الحكومة الموالية للاحتلال النازى، وتعرضوا للتعذيب الشديد لرفضهم الكشف عن قائد المجموعة ومكان اختبائه. وتنقسم شخصيات المسرحية إلى فئتين: فئة خائنة من العسكر تحولت إلى سوط فى يد الاحتلال، وفئة اختارت المقاومة والصمود، برغم ما تعرضت له من صنوف التعذيب والترغيب والترهيب داخل زنزانة خانقة. وبين المحبوسين الصبى «فرنسوا» أصغرهم سناً لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، ويرى عدم جدوى التضحية والاستشهاد فيقرر أن يعترف على مكان قائد المجموعة، وهنا يقرر زملاؤه خصوصاً «لاندريو» و«هنرى» قتله بتواطؤ من شقيقته «لوسى» برغم محبتها الشديدة له. واختار «سوربييه» الانتحار بالقفز من النافذة خوفاً من أن يضعف ويشى بزميله. ويظهر قائد المجموعة «جان» الذى دخل الزنزانة بانتحال شخصية مختلفة لتحذير زملائه من الاعتراف والوقوع فى الفخ، ويدور بينه و«هنرى» حوار حول فعل المقاومة، ومن يضحى ومن يبقى حراً دون أدنى خسارة، وكذلك حب «لوسى» لأيهما. كان جان متألماً لأنه لا يشارك رفاقه مصيرهم المحتوم. وزادت الفجوة بينه وبينهم، مع شعورهم بأن الموت مصيرهم المحتوم، فى حين هو يضمن النجاة والحياة. وقبل أن يطلق سراح «جان» يرشد زملاءه إلى خطة تجعل رجال الحرس يطلقون سراحهم وتتلخص فى أن يتظاهروا بالموافقة على ما يريده رجال الحرس منهم، فيرشدونهم إلى مكان ما على أنه مخبأ «جان». ويقرر «هنرى» و«لاندريو» و«لوسى» تنفيذ الخطة. فى حين يتكشف موقف قائد الحرس تماماً فهو لا يهمه أن يعثر على زعيم المقاومة بقدر ما يهمه أن يكسر كبرياء المقاومين وينجح فى تخويفهم وترهيبهم حتى يعترفوا، ويعيشوا مشاعر الإحساس بالذنب. وبعد أن يعترفوا بالفعل يقرر إطلاق الرصاص عليهم متخلياً عن وعده بإطلاق سراحهم. لم يكن سارتر، يريد أن يحكى قصة من قصص المقاومة والنضال، لكنه كان يغوص فى أعماق الشخصيات، ليصل إلى دوافع كل واحد، ويعرض لقارئه صورة جارحة لحقائق النفس، والصورة باختصار شديد، أن الكل لم يكن يضحى بحياته حباً فى فرنسا، بل كان يريد المجد، حتى لو كان عبر الموت. جان قائد المقاومة حزين لأنه لن ينال مجد أصدقائه الذين يضحون بحياتهم للحفاظ على حياته، والسجناء يحدثون أنفسهم عن جدوى أن يموتوا من أجل جان الذى سيصبح بطلاً فيما بعد وينساهم الناس، لكنهم رغم ذلك يقتلون الصبى حتى لا يفسد مخططهم للفوز بالمجد العظيم، وفى النهاية ينتصر الضعف، يعترفون ويخسرون كل شىء، يموتون فعليا بعد أن كانوا موتى دون قبور. وما أكثر الموتى دون قبور فى ثوراتنا العربية.