كان يعيش فى أمريكا ولم يحضر لزيارة «مصر» منذ سنوات طويلة، حيث خرج منها غاضباً مقهوراً وكان مصدوماً من أحوال وطنه الأصلى الذى أحبه بجنون وغضب من أحواله بجنون أيضاً، وحين قامت الثورة تغيّرت نظرته تماماً وأصبح يتابع أخبار مصر ويحكى لأبنائه عن شعبها العظيم وحضارتها الخالدة وعاش حالة تصالح مع ذاته ووطنه، وحضر قبل الانتخابات الرئاسية ليُدلى بصوته ويُشارك فى صُنع مستقبل بلده الذى يحلم فى السنوات الأخيرة بأن يعود ويُدفن فى ترابه بعد أن أصابه الكبر ولم تعد تبهره مظاهر الحضارة الأمريكية، وقد بدأ فعلاً يرتب لعودته هو وزوجته وبعض أولاده لتأسيس مصنع للإلكترونيات فى مصر. منذ أسبوعين، فوجئ به أقرباؤه وأصدقاؤه يعلن أنه قرر العودة إلى أمريكا، وعندما سألوه قال: انقطاع الكهرباء!!! فتعجبوا من ذلك على الرغم من معاناتهم جميعاً من هذا الأمر، لدرجة الزهق الشديد، ولكنهم لم يتخيلوا أن يؤثر فيه إلى هذه الدرجة، ولكنه كان يرى أن ذلك الانقطاع المتكرر والمتزايد للكهرباء والغرق فى الظلام والحر والعرق يعتبر شيئاً بالغ السوء فى حد ذاته، حيث لم يعد وارداً فى قاموس أى دولة غنية أو فقيرة، كما أن دلالاته وتداعياته لديه تأخذ أبعاداً خطيرة، فهو يرى أن هذا الانقطاع يمس هيبة الدولة وصورتها فى أعين مواطنيها، إذ يرونها عاجزة عن حل مشكلة تؤرق كل الناس فى كل لحظة، وتفسد عليهم حياتهم، إذ يباغتهم الانقطاع فى أى لحظة فتتوقف كل مظاهر الحياة المرتبطة كلها بالكهرباء، فلا توجد مياه، وتتوقف أجهزة الكمبيوتر بكل أشكالها والمراوح والتكييفات وكل الأجهزة الكهربية فى البيوت والمحلات والمصانع والشركات والشوارع، ويصبح الناس فى حالة ضيق شديد من الحر والرطوبة والعرق والظلام. وهو يرى أن انقطاع الكهرباء ليس عادلاً، حيث ينقطع فى القرى أكثر من المدن، وينقطع فى العشوائيات أكثر من الأحياء الراقية، ولا ينقطع أبداً عن المنشآت السيادية. هل ترى عزيزى القارئ أن هذا الرجل محق فيما يقول أم أنه قد تعوّد على الرفاهية الغربية لسنوات طويلة ولم يعد يتحمل كما نتحمّل نحن المصريين «المزمنين»؟ حيث تعودنا على وجود المنغصات فى حياتنا، وأننا بلا حقوق، وتعودنا أن نستمع إلى تبريرات وتفسيرات الحكومة حول أزمة الكهرباء وأزمة المياه وأزمة المرور وأزمة الغلاء وأزمة السياحة وأزمة الاقتصاد وأزمة الصحة وأزمة التعليم دون أن نجد حلاً لأىٍّ من هذه الأزمات، بل يكون التوجه دائماً هو أننا نحن المخطئين، نحن الكسالى، ليس لدينا وعى، لسنا متحضرين، لسنا متعاونين مع الجهات المسئولة، ليس لدينا همّ إلا الأكل والشرب والإنجاب!! فى دول العالم المتحضرة وغير المتحضرة تعمل الحكومات والأجهزة الرسمية على حل المشكلات والتحسّب لها قبل أن تنشأ وتستفحل، وهذه وظيفتها التى اختارها الناس لتقوم بها، وحين تكون الحكومة قادرة على تقديم الحماية والرعاية لشعبها، فإنها تحظى بالهيبة والاحترام والتقدير، أما إذا فشلت فى ذلك فإنها تبدو فى صورة العجز والفشل وانعدام القدرة وانعدام الخيال وفقر التفكير وضعف الإرادة، ولا يغير من هذه الصورة أى تفسيرات أو تبريرات أو وعود تطلقها الحكومة، إذ يتأثر المواطن بما يعايشه فعلاً من أزمات ومنغصات يرى نفسه غارقاً فيها فى كل لحظة وحكومته عاجزة عن إنقاذه. ويزيد الأمر خطورة إذا تعددت مصادر الضغوط والمنغصات، فبينما يعيش الناس أغلب الوقت فى ظلام وحر شديد ويغرقون فى عرقهم يفاجأون بغلاء الوقود والكهرباء والمواصلات وبالتداعى غلاء السلع الأخرى، ويعيشون أزمة مرور خانقة وقاتلة، ويعانون من قلة أو انعدام الخدمات الصحية، ويفاجأون بأحداث إرهابية هنا وهناك. والنظرة السائدة لدى عموم الناس هى أن الفاتورة دائماً يدفعها الفقراء، وكثيراً ما يتساءلون: أين الإجراءات الموجهة نحو رجال الأعمال أصحاب المليارات؟ فإذا انتبهت الحكومة إلى كل هذه التداعيات الخطرة، التى تبدأ بالمعاناة المزمنة للناس من كثرة المنغصات والصعوبات والأزمات الحياتية، وتنتهى بتآكل هيبة الدولة وتشوه صورتها الذهنية فى وعى الناس مع الوقت، فلا يبقى أمام الحكومة إلا حل المشكلة بكل الوسائل التقليدية وغير التقليدية، وإذا لم تستطع فعليها أن تنظر فى تجارب الدول الأخرى، فكل دولة قد تغلبت على مشكلة الطاقة بطريقة تناسب ظروفها وأحوالها، ولكن فى النهاية تغلبوا عليها، فبعض الدول استغلت طاقة الرياح (طواحين الهواء فى هولندا)، وبعض الدول استغلت الطاقة الشمسية (أوروبا الشرقية)، وبعض الدول استفادت من الطاقة النووية، والبعض استغل طاقة المياه خلف السدود، وكلما نجحت الحكومة فى حل مشكلة أو أزمة، شعر الناس بالراحة والسعادة وكانوا قادرين على العمل والإنتاج ويقتدون بالحكومة فى القدرة على حل المشكلات ويكتسبون إرادة الحياة والتغيير التى لمسوها فى حكومتهم العفيّة القادرة التى تبتكر وسائل للنهوض بأحوال الناس ولا تلجأ دائماً إلى الحل الأسهل والخائب بأن ترفع الأسعار وتزيد الضرائب والأعباء حتى لا تكلف نفسها عناء التفكير والعمل وإيجاد مصادر متجددة للدخل والتنمية والازدهار.