رغم كل الصعوبات والمحن التى قد يمر بها المرء فى وطنه فينبغى ألا ينسى أن الوطن باق والأشخاص زائلون، ويجب أن نعلّم أولادنا وسط صخب الحياة أن حب الوطن دين وهو فرض وفطرة لكل صاحب قلب سليم وهو ما علمنا إياه رسول الله الذى لم ينس فى غمرة حزنه لفراق وطنه الذى كذبه وآذاه وطارده، لم ينس أن يذكره بكل خير بل أن يقول إن مكة أحب بلاد الله إلى قلبه فيكون الوعد من الله العزيز لترضية نبيه الكريم بإعادته إلى وطنه كى تقر عينه "أن الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ". وقد اقترن حب الوطن فى القرآن مع محبة النفس، وأن كلا منهما أمر متأصل فى النفوس عزيز عليها يقول الله سبحانه وتعالى "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أن اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ". بل إن القرآن قرن حب الوطن مع الدين، فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه ولم يخرجه من وطنه، بقول الله سبحانه وتعالى "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" سورة الممتحنة: 8. فهذا الجمع بين الدين وحب الوطن دليل على تقارب مكانة كل منهما فى الإسلام وفى النفوس، وإن لم يكن حب الأوطان فطرة متأصلة فى النفس السوية لم يكن النفى عن الوطن عقوبة "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ" [المائدة:33] وقد قدم أصيل الغفارى قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبى -صلى الله عليه وسلم- فدخل على عائشة رضى الله عنها فقالت له: يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطائحها، قالت: أقم حتى يأتيك النبى -صلى الله عليه وسلم- فلم يلبث أن دخل النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "يا أصيل كيف عهدت مكة؟ " قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطائحها، وأغدق أذخرها، واسلت حمامها، وأمش سلمها، فقال: "حسبك يا أصيل لا تحزنا" وفى رواية حسبك يا أصيل دع القلوب تقر. وقد قال الأصمعى : ثلاث خصال فى ثلاثة أصناف فالإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدا والطير إلى أوكاره وإن كان موضعه مهدما والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعا. وعندما عدد الحافظ الذهبى ما كان يحبه رسول الله عليه السلام قال: (كان يحب عائشة وأباها وأسامة وسبطية والحلواء والعسل وجبل أحد ويحب وطنه ) سير أعلام النبلاء. وقد أحب النبى عليه السلام موطنيه مكةوالمدينة وطن المولد ووطن الإقامة والنصرة ولم يؤثر أنه دعا لمكان آخر غير هذين المكانين وقد دعا للمدينة فقال "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى صَاعِنَا وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ"